قرار المجلس الدستوري حول موازنة 2022: تطبيع مزدوج مع غياب قطع الحساب واستنسابيّة أسعار الصرف


2023-01-10    |   

قرار المجلس الدستوري حول موازنة 2022: تطبيع مزدوج مع غياب قطع الحساب واستنسابيّة أسعار الصرف

أصدر المجلس الدستوري بتاريخ 5/1/2023 قرارا بإبطال 7 مواد من قانون الموازنة العامة كليا أو جزئيا تبعا للطعن المقدّم من عدد من النواب. ويلحظ أنّ القرار صدر بأكثرية 8 من أعضائه، فيما دوّن العضوان الآخران (الياس مشرقاني وميراي نجم شكر الله) مخالفتين خلصا فيها إلى وجوب إبطال قانون الموازنة برمته، على خلفية تجاوز مجلس النواب المهل والأصول الواجب مراعاتها دستوريا وأهمها عدم إقرار قانون قطع حساب. ويلحظ أنّ اختلاف الأقلية عن الأكثرية لا يتصل بتثبيت المخالفة أو توصيفها إنما فقط بالنتائج التي تترتب عليها، وتحديدا فيما إذا كان يجدر إبطال قانون الموازنة على خلفية حصولها أم يكتفى بتثبيت المخالفة من دون إبطاله، على غرار ما كان فعله المجلس الدستوري في قراراته السابقة في الطعون المقدمة ضد قوانين موازنة 2018 و2019 و2020. وهذا ما بات يتطلب نقاشا واسعا وحقيقيا حول وظيفة المجلس الدستوري في فرض احترام الدستور والانتظارات العامة منه.

وإذ أعاد المجلس إبطال عدد من المواد على خلفية أنها تشكل فرسان موازنة، فإن أيّا من أعضائه لم بعِرْ اهتماما لوجود أسعار صرف مختلفة، تحدد بقرارات إدارية بمعزل عن أي معايير موضوعية، بما يخالف مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة. 

وهذا ما سنحاول تفصيله أدناه.

قطع الحساب: تطبيع مع المخالفة من دون أي جهد لمنع تكرارها

كما سبق بيانه، لا يختلف إثنان على أن إقرار قوانين الموازنة من دون قانون قطع الحساب يشكل مخالفة واضحة للمادة 87 من الدستور التي نصت حرفيا أن “حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة الثانية التي تلي تلك السنة”. وقد تكرس ذلك في مناقشات المجلس النيابي في 2017 حيث سمح لنفسه بتجاوز هذه القاعدة استثنائيا ومع تسليمه بأنها مخالفة، عملا بالضرورة المتمثلة في عجز الأجهزة الإدارية الرسمية عن إنجاز قطع الحساب عن السنوات السابقة منذ 1993. وقد تضمن القانون آنذاك ما يفيد بوجود تعهد بإنجاز قطع الحساب خلال فترة سنة بما يشكل تسوية للمخالفة. وقد مُرّرت خلال هذه السنة موازنة العام 2018 أيضا. وهو ما تمّ تكراره في موازنة 2019 حيث تمّ منح مهلة ستة أشهر إضافية، أُقرّت في نهايتها وعلى عجل موازنة العام 2020. كما تكرّس ذلك في عدد من قرارات المجلس الدستوري صراحة وإلا ضمنا بمجرد إصدار قرارات في الطعون المقدمة ضد قوانين الموازنة العامة من دون إبطالها. 

وأولوية إقرار قطع الحساب على الموازنة تجد ما يبررها ليس فقط في المادة 87 بل أيضا بأهمية المعطيات التي يجدر أن يتضمنها قطع الحساب والتي تسمح للمجلس النيابي التحقق من كيفية تنفيذ قوانين الموازنة السابقة فعليا وتاليا من مدى صدقية البيانات أو التوقعات الواردة في مشروع السنة المقبلة، وكلها معطيات يحتاج إليها مجلس النواب لممارسة دوره الرقابي على تنفيذ قوانين الموازنة السابقة كما دوره التشريعي في إقرار قانون موازنة جديدة.

وعليه، أكّد المجلس بكامل أعضائه على هذه المخالفة، وإن رفضت الأكثرية أن تُبطل قانون الموازنة بنتيجة ذلك، بخلاف ما رآه العضوان المُخالفان. وإذ استعادتْ الأكثريّة القول بأن إقرار قانون موازنة من دون قطع حساب إنما يشكل حالة شاذة وأنه يقتضي الخروج منها سريعاً، فإنها وجّهت اللوم إلى السلطتيْن التنفيذية والتشريعية عمّا وصفه بتقاعس كلّ منهما. وهذا ما ورد حرفيا في حيثية القرار حيث جاء أنّ “الحكومات المتعاقبة تقاعست، منذ أكثر من خمس عشرة سنة، عن وضع قطع حساب سنوي وفقا للأصول ووفق ما نص عليه الدستور، وتخلفت عن وضع موازنات عامة سنوية…، كما تقاعس مجلس النواب عن القيام بدوره الأساسي في مراقبة الحكومة وإلزامها بوضع قطع حساب سنوي وإعداد موازنة عامة سنوية، وتخلى بالتالي، هو والحكومة، عن القيام بالصلاحيات التي أناطها بهما الدستور، ما خلق حالة شاذة، وألحق ضررا فادحا بالمصلحة الوطنية العليا”.

إلا أن الأكثرية عادت وسألت تبعا لتثبيت المخالفة، فيما إذا يتوجب عليه بنتيجة ذلك إبطال قانون الموازنة بصورة حتمية، لينتهي إلى الإجابة بالنفي على ضوء الموازنة التي أجراها بين التأكيد على مخالفة عدم إقرار قطع الحساب للدستور، وضرورة انتظام المالية العامة الذي اعتبره ركيزة الانتظام العام ذي القيمة الدستورية، وهو ما يتجسّد عبر الموازنة العامّة التي منحها الدستور موقعا استثنائيا. وفي النهاية، أكّد المجلس “أنّ البديل، أي عدم إقرار الموازنة ونشرها، يؤدي الى إطلاق يد الحكومة في الإنفاق دون تحديد أي سقف له، ما يشكل خللاً أكبر في النظام العام المالي ويلحق ضرراً فادحاً بمصالح البلاد العليا”. وبذلك، يكون استعاد بعبارات مختلفة ما كان المجلس الدستوري قرره في 14/5/2018 حيث جاء فيها “أنّ عدم تقيد السلطتين الإجرائية والاشتراعية بالمهل، المنوه بها أعلاه، لا يجوز أن يحول دون إقرار الموازنة نظراً لارتباطها بانتظام المالية العامة، وبالمصلحة الوطنية العليا”.

وتماما كما حصل عند إصدار القرار 2/2018 حيث دوّن نائب رئيس المجلس آنذاك طارق زيادة مخالفة تخلص إلى وجوب إبطال القانون، دوّن العضوان مشرقاني ونجم مخالفات ذهبت في الاتجاه نفسه.  

وقد برر مشرقاني مخالفة بأنّ المادة 87 من الدستور كانت صريحة لجهة وجوب إقرار قطع الحساب قبل الموازنة، وأنّ ذلك واضح من كلمة يجبفي بدايتها. وقد اعتبر مشرقاني أنّ ما يحصل مخالفة دستورية موصوفة لدرجة أنّ الشواذ المتمثل بعدم إقرار قطع الحساب أصبح هو القاعدة، وأنّ مراعاة الظروف أصبحت “شمّاعة” يُعلّق عليها الإحجام عن تنظيم قطوعات الحساب وإقرارها. وقد أضاف مشرقاني أنّ المجلس الدستوري مؤتمن على مراقبة احترام القوانين للدستور ولا يسعه أن يستنبط الأعذار التي تُتيح للمجلس النيابي تجاوز الدستور. وقد ذكّر مشرقاني بعبارة وردت في القرار 2/2018 أكّدت على ضرورة أن يجري”سريعاً وبدون تباطؤ” وضع قطع الحساب، فاعتبر بأنّه “لا يمكن أن تستمرّ المخالفة تحت ستارها لسنوات عدَة لا حدّ لها، خاصة أنّ المخالفة تلك امتدّت على مدى موازنات خمس متتالية من دون أن يحرّك المجلس النيابي الركود الضارب بعملية إنجاز قطع الحساب المطلوب بإلحاح”. وقد أكّد القاضي مشرقاني في مخالفته “أن السلطة الاشتراعية ليست سيّدة نفسها إلاّ بقدر ما تلتزم أحكام الدستور، ومن هنا ضرورة ممارسة الرقابة عليها من القضاء الدستوري”، وأنّه “لا يسع مجلس النواب التمادي في تجاهل قرارات المجلس الدستوري الملزمة والتي تساهم مساهمة أساسية في صناعة سليمة لقانونٍ يراعي أحكام الدستور”. كما استند في مخالفته إلى أنّ المجلس الدستوري الفرنسي اعتمد موقفاً متشدداً عندما أعلن عدم دستورية موازنة العام 1980 بسبب مخالفة البرلمان لأصول التشريع (CC 79-110 DC du 24 décembre 1979). وكان لافتا أنّ الرأي المخالف للقاضي الياس مشرقاني فيما خصّ قطع الحساب قد بدأ بفقرة من كتاب رئيس مجلس الوزراء السابق فؤاد السنيورة ” المالية العامة للدولة بين التسييس والتضليل”.

أمّا نجم شكر الله، فقد توقفت في مخالفتها عند موضوع الظروف الاستثنائية، معتبرة أنّه يتوجّب إقرار قطع الحساب بشكل خاص خصوصا في ظلّ الظروف الاستثنائية لا استعمالها كحجة للتهلرّب من إقراراه. وقد ورد في مخالفتها حرفيا: “في زمن يعاني فيه الاقتصاد الوطني من انكماش حاد وركود، وتتعرض المالية العامة لأزمة بنيوية، ما يحتّم أن يتم وضع قانون الموازنة العامة وإقراره وفقاً لقواعد الصدقية والشفافية وأن ينطلق من بيانات حسابية مدقّقة وسليمة”. ولم تكتفِ نجم بذلك بل اعتبرت أنّ المجلس يكون بذلك قد تقاعس عن وظيفته الرقابية المستمدّة من السيادة الشعبية. وقد اعتبرت أنّ الامتناع عن إقرار قطع الحساب “يؤدي إلى تطبيع مخالفة فادحة للدستور وخرق للانتظام المالي العام الذي كرّسه الدستور”، وهو نفس ما أوردته المفكّرة في تعليقها على مُقترح الموازنة عندما عرضه وزير المالية على مجلس الوزراء للنقاش.

وعليه، يكون المجلس الدستوري بأكثريّته وأقليّته يكرّران النقاش القانوني الحاصل في 2018 و2019 و2020 ومدى ملاءمة إبطال الموازنة أو عدم إبطالها. وهو بذلك إنما يتساءل عن حدود وظيفته في فرض احترام الدستور على السلطات السياسية ومدى قدرته على إبطال قانون بأهمية الموازنة العامة. وما يعاب على المجلس بالحدّ الأدنى هو أنه صاغ حيثيته على نحو يؤدي عمليا إلى التطبيع مع هذه المخالفة ماضيا ومستقبلا من دون أن يضع أيّ قواعد يقتضي العمل بها عند إقرار أيّ موازنة عامة مستقبلا تحت طائلة إبطالها. وما يزيد هذا الأمر قابلية للنقد هو النظر في مفاعيل تساهل المجلس الدستوري على العمل التشريعي، فبخلاف ما حصل عند إقرار قوانين الموازنة لسنوات 2017-2018-2019 و2020 حيث تم التأكيد على ضرورة إنجاز قوانين قطع حساب وعلى استثنائية تجاوز هذه القاعدة أو على الأقل ضرورة تعزيز موارد ديوان المحاسبة لضمان احترامها، جاء قانون موازنة 2022 وكأنه يطبع تماما مع هذه المخالفة إلى درجة تجاهلها وتجاهل ضرورة معالجتها بالكامل، ومن دون أي ذكر لقطع الحساب، بعدما تيقن أنّ المجلس الدستوري لن يُبطل الموازنات لهذه العلّة. وعليه، فإن دعوة المجلس الدستوري للمجلس النيابي بوجوب تحمل مسؤوليته، تحمل ضمنها دعوة مناقضة بفعل تحريره عمليا من أي نتيجة في حال عدم تحمل هذه المسؤولية. 

تجاوز المهل الدستورية لا يكفي لإبطال القانون

نقطة أخرى عالجها المجلس الدستوري للنظر بإبطال القانون برمّته وهي إقرار قانون الموازنة خارج المهل الدستورية، بحيث نُشر في تشرين الثاني 2022، أي بعد سنة على الوقت الذي يُفترض أن يُقرّ فيه بموجب المادة 34 من الدستور في العقد العادي الثاني من السنة للمجلس النيابي. فقد كان يُفترض إقرار الموازنة بحدّ أقصى في نهاية العقد العادي الثاني للعام 2021، أي في 31/12/2021، في حين أنّها أقرّت بتاريخ  11/10/2022، وأصبحت نافذة حكماً بتاريخ 15/11/2022، أي بتأخير يقارب السنة.

إلّا أنّ المجلس الدستوري، وكما فعل فيما يتعلّق بقطع الحساب عندما أكّد على عدم دستورية ذلك من دون أن يبطل القانون، فعل ذلك مجددا فيما خصّ المهل. ففي حين أكّد المجلس على عدم وجود ظروف تحول دون التقيد بالمهل الدستورية، وبأنّ هذه المخالفة أدّت لعدم انتظام المالية العامة والإنفاق على القاعدة الإثنيْ عشرية في مخالفة للمادة 86 من الدستور، إلّا أنّه عاد وأكّد أنّ “عدم تقيّد السلطتين الإجرائية والاشتراعية بالمهل… لا يجوز أن يحول دون إقرار الموازنة لارتباطها بانتظام المالية العامة وبالمصلحة الوطنية العليا”، مستعيدا بذلك ما ذهب إليه فيما يتعلّق بقطع الحساب، ومؤكدا أنّ “البديل هو الفوضى العارمة في الإنفاق” في حال إبطال الموازنة.

وقد خالفتْ نجم شكر الله هنا أيضا قرار الأكثرية معتبرة أنّ “عدم تقيد السلطتين الإجرائية والإشتراعية بالمهل الدستورية المذكورة أعلاه، والذي أصبح يتكرّر سنوياً بدون أي رادع، يشكل تمادياً في انتهاك أحكام الدستور”. وقد أضافت أنّ “إقرار قانون الموازنة العامة في غياب قطع الحساب وخارج المهل الدستورية المشار إليها آنفاً، أي في وقت متأخر من السنة، يفقدان الموازنة العامة للعام 2022 كل من صدقيتها وطابعها التوقعي والإجازي، ما يعتبر مساساً جوهرياً بطبيعة الموازنة العامة وبالقواعد الدستورية التي ترعاها وانتهاكاً فادحاً للانتظام المالي الدستوري“، مؤكّدة أنّ “الظروف المالية والاقتصادية والاجتماعية المأزومة الراهنة تلقي على عاتق كل من السلطتين التشريعية والاجرائية مسؤولية مضاعفة، توجب عليهما احترام الدستور والتقيّد بأحكامه وبمبادئه”.

ويلحظ هنا أن المجلس الدستوري كان توقف عند مخالفة هذه المهل في قراره رقم 2/2018 حيث اعتبر أن هذه المهل هي “مهل حث وليست مهل إسقاط” وأن “عدم التقيد بالمهل الدستورية يشكل انتهاكا للدستور غير أنه لا يشكل سببا لإبطال موازنة العام 2018″، بمعنى أنه اعتبر أنها مهل حث ليس من شأنها إبطال قانون الموازنة العامة. 

فرسان الموازنة لم يُبطلوا برمّتهم

أبطل المجلس الدستوري عددا من المواد في قانون الموازنة لاعتبارها من قبيل فرسان الموازنة Cavalier Budgétaire. وفرسان الموازنة هي تلك المواد التي لا تتصل بالإيرادات والنفقات المتوقعة والنصوص المؤثرة بها. فالمادة 83 من الدستور تحصر بنود الموازنة بما يتعلّق بالنفقات والإيرادات المتوقعة والنصوص التي تؤثّر فيها من دون أن يتعدّاها إلى مواد تتضمن إجراءات تنظيمية وإدارية لا تتصل بهذه المشتملات. وقد أبطل قرار المجلس الدستوري مادّتيْن تضمّنتا فرسان موازنة بناء على طلب مقدّمي الطعن وهما:

  • المادة 21 وهي تتعلّق بإجراء تسوية ضريبية، وهي لم تبطل فقط لأنّها من فرسان الموازنة بل لمخالفتها عددا من المبادئ كما نبيّن لاحقا.
  • المادة 89 المتعلّقة بوجوب إلصاق طابع المختار على المعاملات والإفادات والمصادقات الصادرة عنه تحت طائلة حرمانه من بعض أو كل تقديمات الصندوق بقرار يصدر عن مجلس إدارة الصندوق التعاوني للمخاتير.

كما أبطل عفوا بناء على تقديره:

  • المادة 119 التي عدّلت بعض أحكام قانون الشراء العام للتسهيل على البلديات الالتزام بأحكامه.
  • المادة 16 التي ترمي إلى تمديد العمل بأحكام القانون 194/2020 الذي يرمي الى حماية المناطق المتضررة بنتيجة انفجار مرفأ بيروت، والذي منع البيوعات العقارية في المناطق المتضررة. ويكون إذ ذاك قد أُعيد إجازة البيوعات العقارية في هذه المناطق.

ويسجّل هنا أمران إثنان:

أولا، أن المجلس الدستوري أكد في هذا القرار على قراراته السابقة أرقام 2/2018 و23/2019 والتي انتهى فيها كلها إلى إبطال فرسان الموازنة، 

ثانيا، أنّ مقاربته لفرسان الموازنة بقيت انتقائية تماما كما فعل في القرارات السابقة. فالمادة 109 التي يُطلب بموجبها من الإدارات والمؤسسات العامة تزويد وزارة المالية عن موجودات الدولة العقارية وغير العقارية تبدو من فرسان الموازنة؛ إلا أنه لم يعمد رغم ذلك إلى إبطالها.

دسترة تعدد أسعار الصرف بإرادة سلامة؟ وحده يستطيع تحديد قيمة الضريبة 

من ضمن المواد التي طعن فيها مقدّمو مراجعة الطعن المادة 87 التي نصّت أن “تستوفى بالليرة اللبنانية البدلات عن كل أنواع الخدمات التي تقدمها الدولة اللبنانية عبر مختلف المؤسسات المملوكة او الممولة أو المدارة، كلياً أو جزئياً من قبلها، وإذا اقتضت الضرورة معادلة الليرة اللبنانية بأي عملة أجنبية بالنسبة لبدلات بعض الخدمات، فيكون ذلك الزامياً وفقاً للتسعيرة التي يحددها مصرف لبنان”. وقد اعتبر الطاعنون أنّ المادة تتضمّن تفويضا غير جائز دستوريا لمصرف لبنان، كما وخالفته لمبدأ فصل السلطات ومبدأ الأمان التشريعي والأمان الاجتماعي والمساواة أمام القانون وغيرها. وقد كان محور الاعتراض الرئيسي هو تفويض مصرف لبنان بتحديد سعر الصرف.

وقد شكل الطعن هنا فرصة تسمح للمجلس الدستوري بمناقشة مسألة الاستنسابية المعتمدة من قبل مصرف لبنان في تحديد أسعار صرف مختلفة، على نحو يخالف قوانين السوق ويؤدي إلى إخلال في مبدأ المساواة في تحمّل الأعباء العامة والعدالة الاجتماعية، عدا عن مدى تعارضه مع مبادئ النظام الليبرالي الذي ذكر مثله مثل العدالة الاجتماعية ضمن المبادئ الدستورية في متن مقدمته.  إلا أن المجلس أضاع هنا أيضا هذه الفرصة حين ردّ الطعن وكأنه لا يرى مشكلة في تعدد أسعار الصرف وتحديدها بقرارات إدارية استنسابية. وقد برر المجلس الدستوري قراره ب “أنّ مبدأي الأمان التشريعي والأمان الاجتماعي لا يتمتّعان بالقيمة الدستورية”، كما اعتبر المجلس أنّ “الواقع النقدي والمالي للبلاد يستلزم مثل هذا التعديل”، من دون أن يناقش كيفية إقرار هذا التعديل ومدى انسجامه مع السوق والعدالة الاجتماعية ومدى صلاحية مصرف لبنان أو وزارة المالية في هذا الشأن.

ويؤدّي هذا القرار ولو بصورة غير مباشرة إلى تكريس سلطة حاكم مصرف لبنان المنتفخة، بحيث أنّه أكّد على إمكانية الاستناد إلى سعر صرف يحدّده مصرف لبنان (وبالتالي حاكمه) لتحديد قيمة الرسوم المستوفاة بسبب تحديده لسعر الصرف، أي كأنّما المجلس النيابي تخلّى عن سلطته وصلاحيّته بتحديد الضريبة لمصلحة مصرف لبنان.

وقد ذهب المجلس الدستوري في الاتجاه نفسه حين عاد وخوّل مصرف لبنان ووزارة المالية تحديد سعر الصرف الذي سيتمّ على أساسه احتساب الضريبة على الرواتب والأجور، على نحو يخولهما عمليا تحديد قيمة الضريبة المباشرة بصورة استنسابية، وعلى نحو سيؤدي مبدئيا إلى إخلال في المساواة في تحمّل الأعباء العامة بين أصحاب المداخيل المحققة بالليرة اللبنانية وأصحاب المداخيل المحققة بالدولار الأميركي لصالح هؤلاء. وهذا ما كنا توسعنا في شرحه سابقا.

وما يزيد من قابلية هذا الأمر للنقد هو أن المجلس الدستوري اعتبر في مكان آخر أن المجلس النيابي هو السلطة الصالحة لفرض الضريبة وتعديلها، وأنه تاليا لا يمكن التخلي عن هذه الصلاحية لأي مرجع آخر. وقد خلص بنتيجة ذلك إلى وجوب إبطال الصلاحية المعطاة لوزراء المالية والداحلية والأشغال بتحديد حالات الإعفاء من رسوم الدخول والخروج عبر المنافذ البرية والجوية، وذلك سندا للمادتين 81 و82 من الدستور. فبذلك، أوقع المجلس الدستوري نفسه في تناقض، حيث أنه شدد في هذا الخصوص بعدم جواز تفويض صلاحية ضريبية لوزراء المالية والأشغال والداخلية بينما غض النظر تماما عن تفويض غير مباشر أعطي لمصرف لبنان بمفرده أو بمعية وزارة المالية لتحديد ضرائب كثيرة من خلال منحهم صلاحية استنسابية بتحديد سعر الصرف.

المجلس الدستوري يبطل إصرار مجلس النواب على فتح الباب لتسويات ضريبية من دون التذكير بخطورة مخالفة قراراته السابقة:

على عكس ما ذهب إليه المجلس الدستوري لجهة عدم الإبطال المتكرر لقوانين الموازنة رغم المخالفات الدستورية، فإنّ المجلس الدستوري أصرّ مجددا على إبطال مادة أبطلها في موازنات ماضية. المادة المبطلة هي المادة 21 وتتعلّق بإجراء تسوية ضريبية بخمسين بالمئة من قيمة الضرائب المعترض عليها أمام لجان الاعتراض. ولم يُبطل المجلس المادة فقط لأنّها من فرسان الموازنة كما ذكرنا سابقا، بل لمخالفتها عددا من المبادئ الدستورية. وهي مادّة سبق أن أبطل المجلس الدستوري مادة مطابقة لها في القرار 2/2018، وقد ذكّرت بذلك المفكرة مرارا قبل إقرار الموازنة.

فقد أكّد المجلس الدستوري أنّ هذه المادة تخالف مبدأ المساواة بين من دفع ضريبته من جهة ومن تخلّف عن القيام بموجبه لمصلحة هذا الأخير، “ومن شأنها تشجيع المواطنين على التخلف عن تسديد الضرائب المتوجبة عليهم، وحمل الذين دأبوا على الالتزام بتأدية واجبهم الضريبي، على التهرب من تسديد الضرائب المتوجبة عليهم، أملاً بصدور قوانين إعفاء ضريبي لاحقاً”. كما أكّد المجلس أنّ هذه المادة “تؤدي إلى التفريط بالمال العام، وبالتالي زيادة العجز في الموازنة العامة، في وقت تزاد فيه الضرائب والرسوم على سائر المواطنين من أجل تغذية الموازنة وتخفيض العجز المتنامي فيها”. كما أكّد المجلس الدستوري أنّ هذه المادة تخالف مبدأ استقلالية القضاء بحيث “لا يجوز للسلطة الاشتراعية أن تستبق قرار القضاء بشأن نزاع معروض عليه، ووضع قانون يتناول هذا النزاع، وإلا كان مخالفاً لمبدأ استقلالية السلطة القضائية ولمبدأ الفصل بين السلطتين الاشتراعية والقضائية”.

إلا أنه يلحظ هنا أن المجلس الدستوري أغفل التذكير بأن هذه المادة تتعارض مع قراره السابق 2/2018 وأن المشرع قد عمد إلى مخالفتها عنوة. وهو بذلك ضيّع فرصة للتشديد على وجوب احترام قراراته وعدم الالتفاف حولها.  

تغليب ضمانات استقلالية القضاء على مبدأ مجانية التقاضي

نصّت المادة 99 من قانون الموازنة أن “يستوفي صندوق تعاضد القضاة رسماً مقطوعاً قدره خمسون ألف ليرة لبنانية عن كل شكوى جزائية أو ادعاء مباشر، يدفع عند تقديم الشكوى أو الادعاء المباشر وكذلك في كل مرحلة من مراحل التحقيق والمحاكمة…”. وفي حين اعتبر مقدّمو الطعن أنّ هذه المادة تنتقص من الضمانات المقررة سابقاً للمتقاضين ومخالفتها مبدأ العدالة الاجتماعية، فضلا عن مخالفتها مبدأي الشيوع وسنوية الموازنة، فإنّ المجلس الدستوري ردّ الطعن بهذه المادة. وقد استند المجلس في ذلك إلى المادة 20 من الدستور، حيث اعتبر أنّها “أناطت بالسلطة التشريعية وضع قانون يرسم شروط وحدود الضمانة القضائية التي يدين بها القضاة والمتقاضون تجاه السلطة التشريعية، فيكون الدستور بذلك قد ارتقى بالضمانة القضائية إلى مستوى الضمانة الأساسية الجوهرية ذات القيمة الدستورية” مضيفا أنّ هذه المادة” تأتي، في الظروف الحالية، لتحصين الضمانة القضائية..، توصلا إلى تأمين مقومات الصمود لدى القضاة، وتحقيقاً لاستقلالهم المادي والمعنوي، دون المساس بحقوق المتقاضين لأية جهة كانت”.

يتبدّى من جرّاء هذا القرار أنّ المجلس الدستوري قد شدد على وجوب مراعاة إحدى ضمانات استقلالية القضاء، وهي الضمانة المادية، من دون أن يعير أيّ اهتمام لمبدأ مجانية التقاضي، وبخاصة في القضايا الجزائية. وهو بذلك أضاع فرصة لمناقشة هذا المبدأ وتحديد مدى قوته أو نفاذه. 

يلحظ أن المجلس الدستوري كان تطرق سابقا لمجانية العدالة وإنما في قضايا مدنية (الإيجارات)في قراره رقم 3/2017 المتعلّق بالطعن المقدّم بقانون الإيجارات. آنذاك أكّد المجلس أنّ “العدالة في لبنان ليست مجانية، وإن كانت هذه المجانية هدفا مشروعا يتوجّب السعي لتحقيقه تشريعيا، وطالما أنّ هناك قانونا يحدّد الرسوم القضائية، وطالما أنّ الدستور لم ينص على أنّ العدالة في لبنان هي دون كلفة…”

تفسير الزيادة في الرواتب للقطاع العام: وزارة المالية أخطأت التطبيق

نصّت المادة 111 من قانون الموازنة المادة على إعطاء العاملين في القطاع العام والمتقاعدين وكل من يتقاضى راتباً أو أجراً أو مخصصات من الأموال العامة ناتجة عن وظيفة، ضعفي أساس الراتب الشهري أو أساس الأجر على أن لا يقل اجمالي ما سيتقاضاه المستفيد عن خمسة ملايين ليرة وعلى أن لا تزيد عن إثني عشر مليون ليرة لبنانية. وفي حين أنّ مقدّمي الطعن طالبوا بإبطال المادة بسبب عدم تصويت المجلس النيابي عليها وبسبب عدم وضوحها، ردّ المجلس الدستوري طلب الإبطال مقابل إعطاء تفسيره الخاص للمادة.

فقد اعتبر المجلس الدستوري، وفي ظلّ رقابته على التشريع التي لا تقتصر على مضمون النص التشريعي بل تمتد الى أصول التشريع الدستورية، أنّ مجرّد تصويت الهيئة العامة على القانون برمّته يعني ضمنا موافقته على هذه المادة التي كانت موجودة في مشروع الموازنة. ويعيدنا ذلك إلى قضية تطرّقت إليها المفكرة إبّان جلسات مناقشة الموازنة الأخيرة حول الآلية الواجب اتّباعها للتصويت على المواد والبنود، حيث تبيّن أنّ ما فرضه الدستور للتصويت على الموازنة بندا بندا يتعلّق بالاعتمادات وليس بالمواد القانونية للموازنة.

أمّا في التفسير، فقد رأى المجلس أنّ ما ورد في هذه المادة، “يفسر ويجب أن يطبق على اعتبار أن قيمة الزيادة على أساس “الراتب الأساسي” يجب أن لا تقل عن خمسة ملايين ليرة ولا تزيد عن إثني عشر مليون ليرة لبنانية وذلك تحقيقاً لمبدأ العدالة الاجتماعية”. ويأتي هذا التفسير على عكس ما ذهب إليه ما نفذته وزارة المالية بحيث اعتبرت أنّ مجموع الراتب بالإضافة إلى الزيادة لا يجب أن يزيد عن 5 ملايين ليرة. وعليه، يُفترض أن تقوم وزارة المالية بتصحيح هذا الخلل وفقا لما ورد في تفسير المجلس الدستوري للنص، إلّا أن ذلك يعني مبدئيا أنّ النفقات التي توقّعتها وزارة المالية في الموازنة ترتفع حكما ويرتفع معها العجز.

المجلس الدستوري والاستقلالية المالية: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

نصّت المادة 17 من قانون الموازنة على أنّه يمكن نقل الاعتمادات المتعلّقة بالمجلس الدستوري من بند إلى آخر بقرار من رئيس المجلس وموافقة وزير المالية. وقد اعتبر مقدّمو مراجعة الطعن أنّ هذه المادة تنتهك مبدأ فصل السلطات وتنتهك لاستقلالية المجلس الدستوري، وتغفل صيغة جوهرية تتعلق بأخذ موافقة المجلس الدستوري، أو أقله استطلاع رأيه بشأنها.

حاول المجلس الدستوري حلّ مُعضلة جواز نقل الاعتمادات من بند إلى آخر من قبل رئيس المجلس الدستوري. حيث سندا للمادة 83 من الدستور، لا يمكن نقل الاعتمادات من بند إلى آخر إلا بقانون عملا بالقاعدة العامة التي كرستها المادة المذكورة والتي تفرض التصويت على الموازنة بندا بندا. كما أنّه سندا لقانون المحاسبة العمومية (م. 26) لا يجوز نقل اعتمادات من احتياطي الموازنة لتغذية بنود الموازنة التي نفذت اعتماداتها إلا بمرسوم يصدر بناء على اقتراح الوزير المختص ووزير المالية. وقد استند المجلس لعدم إبطال هذه المادة إلى أنّ عدم جواز نقل الاعتماد من بند إلى بند موجود في قانون المحاسبة العمومية، ويحق للمجلس النيابي تعديل القانون الذي سبق وأقرّته شرط ألّا يُخالف المبادئ الدستورية. وقد أفاد قرار المجلس أنّ إدراج هذه المادة في القانون كانت بناء على طلب المجلس نفسه.

ويتبدّى على عكس ما ذهب إليه الطعن، أنّ هذه المادة تزيد من استقلالية المجلس بحيث بسّط إجراءات نقل الاعتمادات إذ جعلها تتم بقرار من رئيس المجلس الدستوري مباشرة بعد موافقة وزير المالية بدل ضرورة استصدار مرسوم عن رئيس الجمهورية يحتاج أيضا إلى توقيع رئيس مجلس الوزراء والوزراء المختصين، إلّا أنّ هذه الاستقلالية تبقى منقوصة في ظلّ تعلّقها بموافقة وزير المال. 

كما يبقى من المستغرب أن يورد المجلس الدستوري في قراره أنّه هو بنفسه من طلب إدراج هذه المادة ضمن قانون الموازنة، على نحو يوحي بوجود تضارب مصالح، تضارب مصالح يجعل المجلس في وضعية الخصم والحكم.

يمكنكم/نّ هنا الاطلاع على نص القرار

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، مصارف ، إقتراح قانون ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني