بعد طول انتظار أصدر المجلس الدستوري بأكثرية سبعة من أعضائه القرار رقم 3 بتاريخ 2 أيار 2025 والذي أعلن بموجبه حفظ صلاحيته للنظر في الطعن المقدم بالمرسوم رقم 56 تاريخ 11 آذار 2025 والذي أصدره رئيس الجمهورية عملا بالمادة 86 من الدستور التي تسمح له وفقا لشروط معينة وبعد موافقة مجلس الوزراء بإصدار الموازنة بمرسوم في حال لم يبتّ فيها مجلس النّواب قبل انتهاء العقد الاستثنائيّ في نهاية كانون الثاني.
ولا شكّ أن أهم نقطة في القرار لا تتعلق بالمواد التي أبطلها المجلس الدستوري لكن في اعتباره أن صلاحيته تشمل مرسوم إصدار الموازنة، ما يعني أن صلاحيته لا تنحصر في القوانين التي يقرّها مجلس النواب لكنها قد تمتدّ أيضا إلى المراسيم التي تحتوي على مضمون تشريعيّ. ونظرا لأهميّة هذه النقطة، لا بل خطورتها سنعمد إلى مناقشة ما ذهبت إليه أكثرية المجلس الدستوريّ في هذا الموضوع تحديدا بغية التحذير من نتائجه المحتملة من دون الغوص هنا في معالجة المواد التي تمّ إبطالها.
وقبل المضيّ في ذلك، يجدر التنويه بالمخالفة التي سجّلها عضوان من المجلس، هما ألبرت سرحان وفوزات فرْحات، واللذيْن اعتبرا على العكس من ذلك “أن المادة 19 من الدستور حدّدت بشكل واضح وصريح صلاحيّة المجلس الدستوري بمراقبة دستورية القوانين والبت بالنزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية ما يعني حكماً عدم اختصاص المجلس الدستوري بالنظر في مشروعيّة أعمال إدارية وإن كانت موضوعاتها تتناول مادة تشريعية”. وقد برّر سرحان وفرحات موقفيْهما المطابق لموقف المفكرة القانونية بأن المجلس يستمدّ صلاحيته في مراقبة دستور القوانين من الدستور نفسه وأن من شأن منح المشرّع صلاحية تعديل هذه الصلاحية المسّ باستقلاليّته. وهذا ما سنعود إليه أدناه.
أوّلًا: مغالطة القوانين الأساسية
استند المجلس الدستوري في قراره إلى المادة 18 من قانون انشائه الصادر سنة 1993 والتي أعطتْه صلاحية النظر بدستورية القوانين “وسائر النصوص التي لها قوة القانون”. وكانت المفكرة القانونية في مقال مسهب حول الموضوع قد شرحت أبعاد هذا النص القانوني المستغرب وبيّنت تداعياته الخطيرة على الانتظام القانوني القائم في لبنان. وقد برر القرار اختصاص المجلس الدستوري انطلاقا من منطق قانوني متدرّج سنعمد إلى عرضه أولا ومن ثم تفكيكه بغية دحضه.
اعتبر المجلس الدستوري أن “قانون الموازنة العمومية يتمتّع بطابع القانون الأساسي المنصوص عليه في الدستور، وهو في عداد المواد الأساسية المذكورة في الفقرة الخامسة من المادة 65 من الدستور، ما يشير إلى أهميته القصوى بحيث أنّ وجود الدولة مرتبط ارتباطاً عضوياً بماليتها وبانتظام تلك المالية وصدقيتها وشفافيتها”.
ولا شك أن أهمية الموازنة في حياة الدولة الحديثة هي من الأمور التي لا يمكن إلا التسليم بها. لكن قول المجلس الدستوري أن الموازنة تتمتع بطابع “القانون الأساسي” هو قولٌ يفتقر إلى الدقّة كون مفهوم القوانين الأساسيّة لا وجود له في لبنان. فالقانون الأساسي (loi organique) هو مفهوم يوجد في فرنسا حيث ينص دستور الجمهورية الخامسة على فئة معينة من القوانين تعرف بالقوانين الأساسية، تكون خاضعة لأصول خاصة في كيفية اقراراها ولا يمكن إصدارها إلا بعد عرضها على المجلس الدستوري ليبتّ في دستوريّتها أي أن رقابة المجلس الدستوري هي إلزاميّة، بينما رقابته على القوانين العاديّة لا يمكن أن توجد إلا في حال تمّ الطعن بالقانون. وهكذا يتبين أن مفهوم “القانون الأساسي” لا وجود له في لبنان كون الدستور اللبناني لا ينصّ عليه ولا يحدد أيّ شرط خاصّ يتعلّق بإقرار مثل تلك القوانين.
من ناحية ثانية، يستشهد المجلس الدستوري بالمادة 65 من الدستور التي تعتبر في فقرتها الأخيرة أن الموازنة هي من المواضيع الأساسية. لكن هذه الفقرة لا تتكلم في الحقيقة عن قانون الموازنة بل عن مشروع قانون الموازنة الذي يحتاج من أجل إقراره إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الوزراء. وبالتالي لا علاقة للمادة 65 بقانون الموازنة الذي يقره مجلس النواب بالغالبية العادية مثل باقي القوانين بل هي تحدد الشروط من أجل إقرار مشروع قانون الموازنة الأمر الذي يحيله رئيس الجمهورية بمرسوم إلى مجلس النواب. إذ أن أهمية مضمون الموازنة لا علاقة له من الناحية الدستورية بأي شكل من الأشكال بطبيعة قانون الموازنة ولا يمكن لذلك إعلان وجود فئة من القوانين الأساسية التي لا سند دستوري لها في لبنان إطلاقا.
وإذا كانت المغالطة الأولى للمجلس الدستوري لا تأثير فعلي لها كون الطابع “الأساسي” للموازنة لا يغير في شيء من نتيجة الطعن، لأنّ النقطة الجوهريّة التي ركن إليها المجلس لا تتعلّق “بأساسيّة” الموازنة لكن بمضمونها التشريعي الذي سمح له بإعلان اختصاصه، الأمر الذي يستلزم متابعة تحليل قرار المجلس.
ثانيًا: مغالطة تعريف النصوص التي لها “قوة القانون”
في خطوة أولى، يمهّد المجلس الدستوري لتبرير اختصاصه بإعلان التالي: “وحيث إنّ النصوص التي لها قوّة القانون هي تلك التي تضطلع بها السلطة التنفيذية، إمّا بناء على تفويض من قبل السلطة التشريعية – أي المراسيم التشريعية – وإمّا لتلافي تلكؤ المجلس النيابي في القيام بدوره كما في المادة 86 من الدستور”1
ولا شك أن هذا الموقف هو مستغرب لأنه في الحقيقة ينطوي من جهة على مغالطة ومن جهة ثانية على محاولة للالتفاف.
فالمغالطة تكمن في رغبة المجلس الدستوري بتعريف النصوص التي لها قوة القانون، إذ اعتبر أنها تلك التي تصدرها السلطة التنفيذية مثل المراسيم التشريعية أو مرسوم نشر الموازنة. وإذا كان هذا الموقف يتضمن إقرارًا ضمنيّا بإمكانية تفويض مجلس النواب لسلطته التشريعية في بعض المجالات خلافا لما يذهب اليها البعض بعدم جواز ذلك، فإنه في الحقيقة يؤدّي إلى الدمج بين المعيارين الشكلي والمادي من أجل تعريف فئة “النصوص التي لها قوة القانون”. فهذه النصوص ليست فقط تلك التي تحتوي على مضمون تشريعي لكنها أيضا تلك التي اتخذتها السلطة التنفيذية أي مجلس الوزراء (فعليا رئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس الوزراء).
وهكذا يتبيّن أن المجلس الدستوري أدخل معيارا شكليا (صدور النص عن السلطة التنفيذية) من أجل اعتبار أن المضمون التشريعي للنصّ يتمتع بقوة القانون. إذ أن المضمون التشريعي وحده لا يكفي بل هو يحتاج إلى صدوره عن السلطة التنفيذية، وهو أمرٌ مُستغرب لأنّ المضمون لا يتعلّق بمن أصدر النصّ لكن فقط بمادة النصّ، ما يعني أنّ المجلس الدستوريّ عرّف المضمون التشريعيّ انطلاقا من معيارٍ شكليّ وهو التناقض القانوني بعينه.
ولا شك أن هذا التناقض لا يمكن فهمه إلا كمحاولة استباقية من أجل الالتفاف على النصوص الأخرى التي تحتوي على مضمون تشريعي. فقوانين الأحوال الشخصية للطوائف هي نصوص تحتوي على مضمون تشريعيّ أكيد لا بل هي من أهم النصوص التشريعية التي تتعلق بحياة الإنسان الخاصة وحرياته الشخصية. فقول المجلس الدستوري أن النصوص التي لها قوة القانون تضطلع بها السلطة التنفيذية هو في الحقيقة إعلان منه بعدم اختصاصه للنظر في دستورية تلك النصوص نظرا لحساسية هذا الموضوع وأبعاده الطائفية لأن السلطات الطائفية التي تصدر تلك النصوص ليست جزءا من السلطة التنفيذية ولا يمكن لها أن تكون كذلك، كونها تفتقر إلى الشرعية الديمقراطية وهي غير مسؤولة أساسا أمام مجلس النواب. لا بل أكثر من ذلك، من المعروف أنّ السلطات الطائفية السنيّة والشيعيّة تتمتّع بتفويض تشريعيّ صريح لسنّ أحكام لا تتعلق بالأحوال الشخصية، بل أيضا بالتنظيم الإداري لتلك الطوائف. وبالتالي يكون المجلس الدستوري الذي يجاهر بصلاحيته للنظر في مرسوم نشر الموازنة يعلن بشكل مضمر عدم اختصاصه للنظر بكل النصوص التي تتخذها السلطات الطائفية عملا بالتفويض التشريعي التي حصلت عليه من مجلس النواب. فالمضمون التشريعي هو فقط ما تصدره السلطة التنفيذية وهو التناقض الذي لا تناقض بعده ويقارب العبث.
ثالثًا: مغالطة مفهوم “المضمون التشريعي”
يتابع المجلس الدستوري تحليله، فيعلن التالي: “وحيث إنّ صلاحيّة إقرار الموازنة تعود من حيث مضمونها ومن حيث صراحة مواد الدّستور التي تنظّم مالية الدولة إلى السلطة التشريعية بموجب قانون، وإنّ إعمال أحكام المادة 86 من الدستور من شأنه نقل هذه الصلاحيّة إلى السلطة التنفيذيّة” مضيفًا أنّ “قانون المحاسبة العمومية يعرّف الموازنة بأنها صكّ تشريعيّ تقدّر فيه نفقات الدولة ووارداتها عن سنة مقبلة، ويُجاز بموجبه الجباية والإنفاق”.
ومن ثم ينتهي المجلس الدستوري في تحليله إلى إعلان أن القوانين المالية “محفوظة للتشريع وتقع صلاحية النظر والفصل في دستوريتها، من حيث مضمونها، للمجلس الدستوري صاحب الاختصاص حصراً” ما يعني أن مرسوم إصدار موازنة 2025 “له قوّة القانون من حيث مضمونه كونه محفوظاً أساساً للتشريع في المجلس النيابيّ، وتعود تبعاً لكلّ ما تقدّم للمجلس الدستوري سلطة الرقابة على دستوريته”.
إن أول ما يمكن ملاحظتُه أنّ المجلس الدستوريّ لا يعرّف ما المقصود بالمضمون التشريعي، إذ هو لا يقول مثلا أنّ القانون هو النصّ الذي يحتوي على أحكام عامّة وغير شخصيّة، ولا هو يقول أنّ القانون هو كلّ نصّ يحتوي على قاعدة تتعلّق بحقوق المواطنين في علاقتهم المتبادلة أو علاقتهم مع الدولة كما يعتبر الفقيه الألماني الشهير “لابند” بل هو يقول أن المضمون التشريعي هو ذاك المحفوظ في الدستور لمجلس النواب.
لكن الدستور اللبناني لا يحتوي على تحديد لمواضيع تعتبر تشريعية بمضمونها بل هو فقط يكتفي بمنح السلطة التشريعية لمجلس النواب، وينص أحيانا أن بعض المواضيع لا يمكن إصدارها إلا بعد موافقة مجلس النواب عليها. وهكذا يتبيّن أن المجلس الدستوري تبنّى في حقيقة الأمر تعريفا شكليا للمضمون التشريعي، إذ اعتبر أن المادة التشريعية هي تلك التي ينص عليها الدستور بغضّ النظر عن محتواها وهو الأمر الذي يحتاج إلى شرح دقيق.
فالموازنة كما كان يعتبر العديد من الفقهاء لا تحتوي على قواعد حقوقية عامة بل هي على العكس تنص على أحكام تفصيلية وتقنية تتعلق بالجباية والإنفاق، ما يجعلها أقرب إلى تدبير إداريّ منها إلى تشريع عامّ. لكن ذلك لم يمنع الدّستور من النصّ على وجوب إقرارها في مجلس النواب. وكذلك الأمر بالنسبة إلى قوانين العفو العامّ مثلا التي قد تطال قضية واحدة أو شخصا واحدا فقط وعلى الرغم من ذلك أراد الدستور أن لا يصدر العفو العام إلا بقانون. فعندما ينصّ الدستور على وجوب اتخاذ تدبير ما بموجب قانون هو في الحقيقة لا يقول أنّ مضمون هذه القوانين هو تشريعي بل هو يحدد الجهة التي يحق لها اتخاذ هذا المضمون أي مجلس النواب المنتخب والذي يعبر عن الإرادة العامة. ومن هنا نفهم لماذا ينصّ الدستور في لبنان مثلا على أن الجنسية والعقوبات الجزائية وحرية تأليف الجمعيات والطباعة والاجتماع وتولي الوظائف العامة، كلها يتمّ إقرارها بقوانين أي بعد موافقة السلطة المنتخبة بحيث لا تنفرد السلطة التنفيذية لوحدها بوضع تلك الأحكام أو تعديلها ما يشكّل ضمانة أساسيّة لحماية المواطنين.
وهكذا يتبين أن الدستور عندما يفرض تدخل مجلس النواب في موضوع محدد هو في الحقيقة يريد تحصين هذا الموضوع عبر اتباع آلية شكلية تفرض تدخل الممثلين عن الشعب من أجل إقرار أي نص قانوني يتعلق بهذا الموضوع. فالمجلس الدستوري بقوله أن المسائل المالية هي تشريعية بمضمونها يكون قد أعطى تعريفا لمضمون تشريعي لم يقل به الدستور، بل على العكس إن الهدف الحقيقي للدستور بقوله أن الموازنة يتمّ إقرارها بقانون هو منح الموازنة تعريفا شكليا أي وجوب موافقة مجلس النواب عليها. وهذا ما تبنّته الغالبية العظمى من فقهاء القانون في ألمانيا القيصريّ2 قبل الحرب العالمية الأولى، إذ اعتبرُوا أنّ القانون الماديّ (أي النصّ الذي يحتوي على قاعدة تتعلّق بحقوق المواطنين وحرياتهم) لا يمكن أن يصدر وفقا للدستور إلا بعد إقراره بقانون شكلي، أي بعد موافقة المجلس المنتخب ما يمنع تبني تلك المواضيع بأوامر يصدرها الملك منفردا.
فقرار المجلس الدستوري يكرر الخطأ الذي وقع فيه قانون إنشائه إذ هو يفهم بالنصوص “التي لها قوة القانون” تلك التي تحتوي على مضمون تشريعي بينما قوة القانون كما تبيّن أعلاه هي النصوص التي أقرتها السلطة التشريعية ما يمنحها حصانة بوجه كل السلطات الأخرى في الدولة لا سيما السلطة التنفيذية. وهذا هو الفهم الصحيح الذي أطبق عليها فقهاء القانون الدستوري في فرنسا وهو ما ينقله لنا “مالبرغ” عندما يكتب:
“Par conséquent, d’après les données fournies par le droit positif français, voici quelle est la notion constitutionnelle de la loi. La loi, c’est d’abord toute décision émanant des Assemblées législatives et adoptées par elles en forme législative. C’est là assurément une définition purement formelle. Quant au fond, la loi (au sens de la constitution) ne se caractérise ni par sa matière ni par la nature intrinsèque de ses prescriptions ».3
فالقانون هو فقط وحصرا النصّ الذي أقرّه البرلمان، بينما مضمونه لا يدخل بأيّ شكل من الأشكال في تعريفه. إذ أنّ قوة القانون هي قدرة هذا الأخير، سواء كان مضمونه عاما أو خاصا، على إلزام جميع الأفراد ومؤسسات الدولة على حدّ سواء بأحكامه. فإقرار القانون في مجلس النواب هو الذي يعطي القانون قوته إذ يجعله يسمو على كل النصوص القانونيّة والأنظمة التي تصدرها سائر السلطات، كما يتيح له المبادرة والتدخّل في أي مجال من تلقاء نفسه. فسمو القانون هو من سمو السلطة التي اتخذته، أي أن قوة القانون تنبع من شكله وليس من مضمونه، وهذه مسلّمة من مسلمات القانون الوضعي في الدولة الحديثة. لا بل أن “مالبرغ” كتب موقفه هذا في ظل الجمهورية الثالثة في فرنسا (1875-1940) التي كانت قوانينها الدستورية تنص أيضا على أن بعض المواضيع يجب إقرارها في البرلمان من بينها الموازنة والقوانين المالية، لكن ذلك لم يدفعه إلى القول بأن هذه المواضيع تدخل في تعريف قوة القانون.
وفي الاتجاه نفسه، إن المضمون التشريعي لا يمكن حصره بالمواضيع التي نص الدستور على وجوب إقراراها بقوانين، كون مجلس النواب يمكن له أن يتدخّل في أيّ موضوع يريد، ما يعني قدرته على منح أي مادة قوة القانون. فالمراسيم الاشتراعية تتدخل في مادة تشريعية لكنها لا تتمتع بقوة القانون كونها تصدر كليا عن السلطة التنفيذية لأن مجرد تعديل المضمون التشريعي لا يشكل معيارا كافيا للقول أن العمل بات متمتعا بقوة القانون. ويعتبر “دوغي” مثلا أن الأعمال التنظيمية التي تتخذها الحكومة هي قوانين مادية لأن مضمونها العام والآمر ونتائجها على الانتظام القانوني للدولة لا يختلفان في شيء عن القوانين التي يقرها البرلمان. لا بل إنه يتحدى الجميع في إمكان إثبات الفرق المادي بين القوانين والأنظمة التي يعتبرها متشابهة بالكامل، والوسيلة الوحيدة للتمييز بينها هي عبر التخلي عن المعيار الماديّ والركون إلى المعيار الشكليّ.4 لا بل إنه يضيف أن كل الفقهاء الذين حاولوا التمييز بين القانون بمعناه المادي والأنظمة الحكومية فشلوا في ذلك واضطروا إما إلى العودة إلى التعريف الشكلي أو ميزوا بين المواضيع التي يحق للبرلمان التدخل بها وتلك التي تعود للسلطة التنفيذية ما يعني الانطلاق من الاختصاص المختلف لكل سلطة وهو أيضا معيار شكلي5.
وفي رد مباشر على المجلس الدستوري، يقول “دوغي”، وكأنه موجود اليوم بيننا، أن إعلان الاختصاص للنظر في طعن ضد عمل ما يتمّ انطلاقا ليس من مضمون العمل ومحتواه المادي لكن من طبيعة السلطة أو الجهة التي اتخذته6، أي أن تحديد الاختصاص تابع للتعريف الشكلي للعمل وليس لمضمونه ما يعني أن مرسوم إصدار الموازنة هو عمل إداري بغض النظر كليا عن مضمونه.
وهكذا يتبين أن مرسوم إصدار الموازنة لا يتمتع بقوة القانون حتى لو احتوى أحيانا على مادة قد تكون تشريعيّة من الناحية المادية، وبالتالي لا يمكن القبول باختصاص المجلس الدستوري لأن ذلك من شأنه المسّ بالانتظام القانوني للدولة اللبنانية القائم فقط وحصرا على التعريف الشكلي للقانون. ومن هذا التعريف تنبع كل الاختصاصات للسلطات الأخرى في الدولة كالسّلطة التنفيذية والقضاء الإداري. لا بل أن المجلس الدستوري أصرّ على إعلان حصريّة اختصاصه في هذا المجال مقصيا بالكامل مجلس شورى الدولة من حقه بالنظر في مرسوم إصدار الموازنة واستطرادا “كل النصوص التي لها قوة القانون” عملا بالفقرة الثانية من المادة 18 من قانون إنشائه التي تمنع على أيّ مرجع قضائيّ آخر في الدولة النّظر في المواضيع التي تدخل في اختصاص المجلس الدستوري.
وإذ يبرّر المجلس الدستوريّ موقفه هذا بحرصه على منع “الإفلات من رقابة دستوريّة الموازنة” كون ذلك سيسمح “باستئثار السلطة التنفيذية بمالية الدولة ما قد يؤدّي إلى الإخلال بمبدأ التوازن بين السلطات”، إلا هذا القرار هو في الحقيقة توسيع لإمكانية الإفلات من الرقابة كون كل النصوص التي لها “قوة القانون” باتت خارج اختصاص مجلس شورى الدولة وهو القاضي الإداري الطبيعي الذي يستطيع الجميع مراجعته بينما المجلس الدستوري لا يمكن التقدم منه بطعون إلا من قبل الجهات السياسية المحددة حصرا في المادة 19 من الدستور. وهكذا يكون القرار قد قلص من حقوق المواطنين لا بل هو عملا بالمادة 18 من قانون انشاء المجلس الدستوري قد منع حتى على القضاء الإداري من النظر في دستورية المراسيم الاشتراعية مثلا ليس فقط عن طريق مراجعة الإبطال لكن حتى عن الطريق الدفع بعدم الدستورية.
وقد تنبّه لهذا الأمر كلّ من العضوين ألبرت سرحان وفوزات فرحات إذ اعتبرا في مخالفتهما للقرار “أن المادة 19 من الدستور حدّدت بشكل واضح وصريح صلاحية المجلس الدستوري بمراقبة دستورية القوانين والبت بالنزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية ما يعني حكماً عدم اختصاص المجلس الدستوري بالنظر في مشروعية أعمال إدارية وإن كانت موضوعاتها تتناول مادة تشريعية، وبالتالي فإن القول بأن المرسوم الذي وضع موضع التنفيذ قانون موازنة عام 2025 هو نص له قوة القانون ويدخل ضمن نطاق اختصاص المجلس الدستوري هو قول لا يستقيم بحسب رأينا قانوناً”.
لا بل أن هذه المخالفة تبنت موقف المفكرة القانونية لناحية التنبيه لخطورة القبول بمنح المجلس الدستوري صلاحيات بموجب قوانين عادية “لأن التمادي في منح المجلس الدستوري صلاحيات بموجب قوانين عادية أو بالقياس على اجتهادات قضائية قد يطيح باستقلالية هذا المجلس، ويجعله تابعاً وخاضعاً لمزاجية التعديلات التي تقررها السلطة التشريعية، والتي هي من المفترض خاضعة لرقابة المجلس الدستوري”. فصلاحية النظر في النصوص التي لها “قوة القانون” جاءت في قانون عادي ما يعني إمكانية سحبها من المجلس الدستوري بقانون عادي أيضا إلا إذا أعتبرنا أنه بموجب هذا القرار سيصبح أيّ تعديل لقانون انشاء المجلس الدستوري من أجل سحب تلك الصلاحية مخالفًا للدستور ما يوجب إبطاله في حال تم الطعن به أمام المجلس الدستوري، علما أن كل تلك الإشكالية ما كانت لتثار في حال لم يكن قانون إنشاء المجلس الدستوري قد تضمن هكذا نص مستغرب حول “النصوص التي لها قوة القانون”.
رابعًا: في مخالفة الأصول والشروط الدستوريّة
بعد أن أعلن المجلس الدستوري اختصاصه للنظر بمرسوم إصدار الموازنة عالج النقاط التي تتعلّق بدستوريّة صدُور هذا المرسوم. وقد وافق المجلس الدستوري على كلّ النّقاط التي أثارتها المفكّرة القانونيّة في مقالها المذكور أعلاه، إذ هو اعتبر أنّ المهلة الدستوريّة تبدأ من تاريخ إحالة المرسوم ولا علاقة لوضع مشروع قانون الموازنة على جدول الأعمال بغية احتساب هذه المهلة “لأن الدستور الذي أجاز استثنائيا في المادة 86، إصدار مشروع القانون بمرسوم وفقاً للشروط التي حدّدتها تلك المادة، اكتفى بوجوب طرحه (أي إحالته) على المجلس النيابي قبل بدء عقده بخمسة عشرة يوماً، دون أي إجراء آخر، ولو أنه قصد وضعه على الجدول وبدء مناقشته، لكان نص على ذلك صراحة، كما ذهب إليه في المادة 58 منه التي تجيز أيضا إصدار مشروع القانون بمرسوم”.
كذلك اعتبر المجلس الدستوري أن مجلس النواب كان في ظل عقد استثنائي حكمي بسبب اعتبار الحكومة مستقيلة ما يعني أنه كان يحق له التشريع من دون الحاجة إلى دعوته إلى عقد استثنائي. ولا شك أن هذا الموقف ينسجم مع الممارسة التي سار عليها مجلس النواب الذي اعتبر أنه يحق له التشريع خلال العقد الاستثنائي الحكمي وهو عمد إلى إقرار العديد من القوانين خلال العقد الحكمي، لذلك يكون المجلس الدستوري قد وافق على تلك الممارسة وهو عمد إلى الحكم على مجلس النواب انطلاقا من الموقف الذي ارتضاه هذا الأخير وسار عليه مرات عديدة.
وتطرق المجلس الدستوري إلى إشكالية إصدار الموازنة من دون أن يترافق ذلك مع صدور قانون قطع الحساب هو الأمر الذي يطرح علامات استفهام جدية ومنطقية حول جواز ذلك لكنه في النهاية تبنى الموقف الذي قالت به المفكرة القانونية إذ اعتبر أن “غياب قطع الحساب يؤدي إلى غياب الشفافية في جباية المال العام وإنفاقه وبالتالي إلى التشكيك في صدقية الموازنة العامة وتنفيذها، كما يؤدي إلى فتح الباب واسعاً أمام تفشّي الفساد” لكنه أضاف أن “الأمر يختلف بالنسبة للمادة 86 من الدستور التي تمنح رئيس الجمهورية صلاحية استثنائية بإصدار قانون الموازنة بناء على قرار مجلس الوزراء ولا تشير إلى وجوب إقرار قانون قطع الحساب، بل تعالج حصراً موضوع الموازنة العامة، ما يعني أنّ الدستور فصل في هذه المادة بين قطع الحساب والموازنة، وتجاوز دور المجلس النيابي الذي يقع على عاتقه موجب الموافقة على قطع الحساب، والقول بعكس ذلك يؤدي الى تكبيل يد مجلس الوزراء وبالتالي إلى تعطيل المادة 86 من الدستور في حال تلكأ المجلس النيابي عن إقرار قطع الحساب”.
في الخلاصة، يتبيّن أن المجلس الدستوري ساهم من خلال قراره بمفاقمة الخلل الذي أحدثته المادة 18 من قانون إنشائه وهو في الحقيقة مسّ بالانتظام القانوني للدولة اللبنانية عبر تبنيه لتعريف للقانون ينطلق من المضمون وليس من الشكل مهددا بذلك صلاحيات القضاء الإداري في هذا المجال. لا بل هو تبنّى تعريفا متناقضا للنصوص التي لها قوة القانون، إذ اشترط صدورها عن السلطة التنفيذية متنصلا هكذا من إمكانية الطعن أمامه بالنصوص الصادرة عن السلطات الطائفية. وإذا كان توسيع صلاحيات المجلس الدستوري من الأمور المطلوبة والضرورية، لكن ذلك يجب أن يتمّ بموجب تعديل دستوريّ يؤدّي إلى تحصين المجلس بشكل يتمّ الحفاظ على الانتظام القانوني للدولة اللبنانية. فالمجلس الدستوري في قراره هذا لم يكسب صلاحيّة جديدة كما قد يظن البعض بل هو في الحقيقة تخلّى عن فرصة ثمينة إذ كان بإمكانه رفض7 تطبيق المادة 18 من دون إبطالها (كونه لا يستطيع ذلك) كي يقول لمجلس النواب والسلطة السياسية التي تقف خلفه أنّ اختصاصه ينبع من الدستور مباشرة وليس من قانون مستغرب أقره مجلس النواب في غفلة من الزمن.