قرار التمييز نقل ملف التحقيق في قضية اغتيال سليم: إدانة موضوعية لتجاوز أصول التحقيق


2025-05-09    |   

قرار التمييز نقل ملف التحقيق في قضية اغتيال سليم: إدانة موضوعية لتجاوز أصول التحقيق
جدارية للقمان سليم

أصدرت محكمة التمييز قرارًا بنقل ملف التحقيق في قضية اغتيال الكاتب السياسي لقمان سليم. القرار المؤرخ في تاريخ 20/3/2025 جاء استجابةً لطلب النقل المقدّم من شقيقة سليم رشا الأمير وأرملته مونيكا بيرغمان، وقد صدر عن الغرفة السّادسة لمحكمة التمييز برئاسة القاضية رندة كفوري وعضويّة المستشارين سميح صفير وفادي العريضي. وفي خلاصته، قرّرت المحكمة نقل الدعوى من دائرة قاضي التحقيق الأول بالإنابة في بيروت بلال حلاوي، إلى قاضٍ آخر يكلّفه الرئيس الأول الاستئنافي في بيروت. وقد علمت “المفكّرة” أنّه تمّ تكليف القاضيّة رُلى صفير لمتابعة الدعوى على إثر قرار النقل.

وبالعودة إلى تفاصيل الطلب، يُشار إلى أنّ عائلة سليم كانت طلبت نقل الملف على خلفية أداء القاضي حلاوي والقرارات التي اتّخذها خلال إجراءات التحقيق، ومنها قراره عدم الاستعانة بالخبرة الدولية الألمانية التي سبق أن طلبها سلفه القاضي شربل أبو سمرا لاعتباره أنّها تشكل انتهاكًا للسيادة اللبنانية، وتصريحه في إحدى جلسات التحقيق أنّه سيتابع التحقيق إلى أن يثبت أنّ “الجهة المتهمة بالجريمة” لم تقم بها. وقد خلصت العائلة إلى القول أنّ القاضي يكنّ عداوةً لطرفٍ ومودّة لطرفٍ آخر، ممّا يؤثّر على حسن سير العدالة ويبرّر الارتياب المشروع بإمكانية قيامه بتحقيق محايد. 

وقد بُنيَ قرار المحكمة بنقل الدعوى على حيثيتيْن هامتين: 

الأولى، تصدّت فيها محكمة التمييز للحجّة الشكلية التي أثارها القاضي حلاوي لردّ طلب النقل ومفادها انتفاء موضوعه تبعًا لإصداره قراره فيها في تاريخ 5/12/2024، هذا القرارالذي نصّ على تسطير مذكرة تحرٍّ دائم وإيداع الملف في القلم مؤقتًا للحفظ. وقد رأت المحكمة أنّه خلافًا لإدلاء قاضي التحقيق، لا يتمتع قرار الحفظ المؤقّت بقوة القضية المحكوم بها، وأنه بإمكان القاضي المقرّر نقل التحقيق إليه الرجوع عنه بهدف متابعة الدعوى واستكمال التحقيقات.  

والثانية، اعتبرت المحكمة أنّ حسن سير العدالة يستدعي نقل الدعوى، بعدما ناقشت عددًا من الإجراءات والقرارات التي اتّخذها القاضي خلال مسار التحقيق، أهمها ختم التحقيق وحفظ الملف قبل استلام كتاب السفارة الألمانية، وقبل إبداء النيابة العامة مطالعتها في الأساس، وبالرغم من المطالعة الفرعية التي طالبت فيها النيابة العامة الجهة المدعية بإبراز مذكرة خطية وبيان طلباتها.

ولئن رأت أن ضمان “حسن سير العدالة” يكفي لتبرير نقل الدعوى، فإنها لم تجد ضرورة في النظر في السبب الثاني لنقل الدعوى، وهو الارتياب المشروع بحيادية القاضي. وقد عبّرت المحكمة عن ذلك بتأكيدها نقل الدعوى “بمعزل عن أخلاقيات القاضي المطلوب نقل الدعوى منه”، أي من دون حاجة التدقيق في هذه الأخلاقيات ومدى انسجامها مع مبدأ حيادية القضاء أو استقلاليته، وفق ما جاء حرفيّا في القرار. 

هذا القرار يستدعي الملاحظات الآتية: 

أولًا: اجتهاد المحكمة لتصحيح مسار تحقيقٍ لم يكتمل

بمراجعة قرار المحكمة، يظهر أن قاضي التحقيق عمد إلى مواجهة طلب النقل من خلال أمرين: أولا، أنه سارع إلى غلق الملف بعدما اعتبر أن التحقيق لم يتوصّل لكشف هوية الفاعل وثانيا، أنّه تجنّب تبلّغ دعاوى الردّ والنقل المُقامة ضدّه في هذه القضية، إلى ما بعد إصداره قراره الأخير وفقًا لما نقلته الوكيلة القانونية لشقيقة سليم. وإذ كان يخشى أن تسلم المحكمة بأن طب النقل بات من دون موضوع نتيجة إنهاء التحقيق ولو من دون نتيجة، فإنها عملت على العكس من ذلك على تجاوز هذا العائق، من خلال توصيف قرار حفظ الملف على أنّه مؤقت وغير مبرم، ممّا يجيز لأيّ قاضي تحقيق آخر أن يرجع عنه بهدف استكمال التحقيقات فيه.  

وهذا الاجتهاد إنّما يتماشى مع أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية الذي ينصّ على صلاحية قاضي التحقيق بإعادة فتح التحقيقات عند ظهور أدلة جديدة في بعض الحالات ومنها منع المحاكمة لأسباب واقعية (المادة 127). وعليه، لا يمكن التغاضي عن معطيّات جوهرية قد تنتج عن اكتمال الإجراءات التي تجاهلها القاضي حلاوي ومنها جواب السفارة الألمانيّة وإبراز مذكرة الجهة المدعية ومطالعة النيابة العامة، والتي قد تفضي إلى ظهور أدلة جديدة في الملف . 

ثانيًا: البحث عن أسباب موضوعية لنقل الدعوى 

فيما تنصّ المادة 340 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على أسباب عدة لتبرير نقل الدعوى من قاضٍ إلى آخر، اعتبرت محكمة التمييز أنّ النقل يكون مبررا بوجوب ضمان “حسن سير العدالة” في حال حادتْ الدعوى الجزائية عن مجراها وأصولها الشكلية وأصول البتّ فيها بالسرعة الممكنة. وقد ارتأت المحكمة أن هذا السبب متوفر في القضية الحاضرة طالما أن القاضي حلاوي عمد إلى ختم التحقيق قبل استكمال الإجراءات، وكأنه بذلك يخلّ بواجبه في احترام أصول التحقيق الجزائيّ. 

وقد شكّل قرار المحكمة في هذا الخصوص تذكيرًا بليغا على أهمية احترام الأصول الشكلية في التحقيق من باب احترام حقوق المتقاضين، بحيث يعطي تجاهلها أو القفز فوقها للمتقاضي المتضرّر حقّا بطلب نقل الدّعوى إلى قاضٍ يكون أكثر التزاما بها. وقد بدتْ المحكمة في استنادها على هذا السبب لنقل الدعوى، وكأنها أرادت التذكير بأنه بمعزل عن أخلاقيّات القاضي أو مسألة الثقة بشخصه أو بحياديّته (وهي أمور قد تقبل تقديرات متباينة)، فإن ثمة أصولًا جوهرية موضوعية يجدر على أي قاض الالتزام بها في القضايا المطروحة عليه تحت طائلة فقدانه مشروعية مواصلة النظر فيها. بمعنى أنّ  الإجراءات التي أعابتها المحكمة على القاضي حلاوي لا تتعلّق بالضرورة بأخلاقياته أو شخصه، بل يستشف منها خلل أو خطأ موضوعي في أداء القاضي يؤدّي إلى إعاقة حسن سير العدالة وعدم البت في الدعوى المطلوب نقلها. 

وما يزيد من أهمية هذا القرار، هو أنه استهدف القاضي الذي يتولى حاليا بالإنابة مهمة “قاضي تحقيق أول في بيروت”، وهي مهمة تخوله النظر في قضايا بالغة الأهمية والخطورة، فضلا عن توزيع مجمل القضايا التي ترد إلى قضاء التحقيق في بيروت. فكأنما محكمة التمييز أرادت أن تحذّر ببلاغة كلية، من خطورة تولّي القاضي حلاوي هذه المهمة رغم تجاوزه أبسط أصول التحقيق، مع التخفيف قدر الممكن من إمكانية رمي قرارها في آتون السياسة وصراعاتها.     

ثالثًا: تجنّب إدانة شخص القاضي من دون تنزيهه 

أخيرا، ورغم أنّ المحكمة اختارتْ تبرير نقل الملفّ بضمان “حسن سير العدالة” وليس الارتياب المشروع، فإنها تعمّدت إضافة فقرة بليغة مفادُها “بمعزل عن أخلاقيّات القاضي المطلوب نقل الدّعوى منه”. ويفهم من ذلك ليس فقط أنّ خيارها تفادي النظر في مدى توفر الارتياب المشروع لا يعني بالضرورة أنه ليس متوفّرا، بل أيضا أنها تعمدت تنبيه قرّائها أن هذه المسألة تبقى مطروحة وأن بالإمكان إثارتها مجدّدا أمام أيّ مرجع مختصّ آخر (مثلا هيئة التفتيش القضائي) عند الاقتضاء. وليس أدلّ على ذلك من أنها اختارت استخدام عبارة “أخلاقيات” القاضي (وهي عبارة محمّلة بالمعاني بشأن سلوكياته كقاضٍ) بدلا من مفهوم “الارتياب المشروع” والذي هو يشكل سبب النقل الثاني المدعى فيه.   

خلاصة

إذ يُشكّل قرار محكمة التمييز نقل ملفّ اغتيال لقمان سليم من دون ريب خطوة في اتجاه الكسر مع نهج الإفلات من العقاب وخصوصا في قضايا الاغتيال السياسيّ في لبنان، يؤمل أن يشكّل انعطافة حقيقية في اتجاه أداء أكثر حيادية وتجرّدًا، في هذه القضية كما في عشرات القضايا الأخرى التي ما تزال عالقة أمام القضاء. فلنراقب.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، أحزاب سياسية ، قرارات قضائية ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني