في الوقت الذي يتمّ التحقيق فيه مع وزير الاقتصاد السابق أمين سلام في ملفّ ابتزاز شركات التأمين أثناء تولّيه الوزارة، وبعد إصدار محكمة الجنايات في بيروت قرارًا بإدانة فادي تميم مستشار سلام بجرم الرشوة في القضية نفسها، أصدرت الهيئة الاتهامية في بيروت برئاسة القاضي ماهر شعيتو والمستشارين خالد ماضي وجوزف بو سليمان في 15/5/2025 قرارها الاتهامي بحق شقيق الوزير ومستشاره كريم سلام، في قضية ابتزاز شركات التأمين أيضًا، التي أوقف فيها منذ 3/4/2025 ولم يزل. وقد تمّ اتهام كريم سلام بجناية الرشوة (352 عقوبات) والظنّ به بجنحة الإثراء غير المشروع المنصوص عليها في المادة 14 من القانون رقم 189/2020،.بينما منعت المحاكمة عنه بجرائم الاختلاس (360/359 عقوبات) والتزوير واستعمال المزور (359 و454 عقوبات) والرشوة (351 عقوبات) التي ظنّ به فيها قاضي التحقيق الأول، وأحالت المتهم إلى محكمة الجنايات في بيروت لمحاكمته.
ويُذكر أن قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة بلال حلاوي، كان قد أصدر قراره الظني في القضية بتاريخ 8/5/2025 وقرّر إخلاء سبيل سلام بكفالة مالية قدرها 200 مليون ليرة، علمًا أن المبالغ غير المبرّرة التي على أساسها أسندت الهيئة الاتهامية جرم تبييض الأموال لسلام تجاوزت السبعة ملايين دولار أميركي، وقد فسخت قرار إخلاء السبيل وأبقت على المتهم موقوفًا.
وكانت النيابة العامة الماليّة قد استأنفت القرار الظنّي الذي منع المحاكمة عن سلام بجنح المادة 3 من القانون 44/2015 (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب) حيث اعتبر أن لا صلاحيّة للنيابة العامة المالية للادّعاء بجنحة تبييض الأموال، وبجرم المادة 14 من القانون 189/2020 (الإثراء غير المشروع)، على اعتبار أنّ سلام قد أعاد مبلغ ال100 ألف دولار الذي سبق أن قبضه من شركة المشرق للتأمين كرشوة.
وكان أبرز ما تناولهُ القرار الاتّهاميّ من الناحية القانونية، النقاط التالية:
– اعتبار كريم سلام موظفًّا بمفهوم المادة 350 عقوبات بوصفه مستشارًا لوزير الاقتصاد السابق. وبالتالي، فإن التماسه المال من جورج ماطوسيان (نائب رئيس مجلس إدارة شركة المشرق للتأمين) عبر المستشار في وزارة الاقتصاد فادي تميم وبالاتفاق معه، وقبضه مبلغ 100 ألف د.أ لم يُعده إلا بعد تدخل القضاء، يجعل منه مرتكبًا لجرم الرشوة المنصوص عليه في المادة 352 من قانون العقوبات.
– اعتبار أن ما قام به كريم سلام لا يعدّ اختلاسًا للمال العام بل التماسًا لرشوة كون المبلغ الذي قبضه لم يدخل حسابات وزارة الاقتصاد وهو غير معدّ أصلًا لدخولها، وبالتالي “تنتفي عناصر جناية المادة 360/359 عقوبات، ما يستتبع منع المحاكمة عن المدعى عليه لجهتها، كما وجنايتي المادتين 359 و454 لعدم حصول تزوير أو دس في أي من قيود الوزارة”.
– قامت الهيئة الاتهامية بالاعتماد على التقرير الصادر عن هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان الذي يتضمّن البيانات الخاصة بالحسابات المصرفية العائدة لكريم سلام، التي نظّمتها جمعية المصارف، وذلك بناء على قرار النيابة العامة المالية رفع السرية المصرفية عن حساباته. وقد انتهى التقرير إلى أن حركة حسابات سلام تبين أن حساباته المصرفية تغذت بشكل أساسي عبر رواتب وإيداعات وشيكات مصرفية بعضها من شركات تأمين أو حسابات موظفين في شركات تأمين وتحاويل خارجية وداخلية تجاوزت قيمتها ال7 ملايين د.أ.
– اعتبرت الهيئة أنّ عدم تبرير كريم سلام للمبالغ المذكورة تثبت تحقّق جرم الإثراء غير المشروع المعاقب عليه بموجب المادة 14 من القانون 189/2020 الذي ينص في المادة 10 منه على أنه يعتبر إثراء غير مشروع كل زيادة كبيرة تحصل في الذمة المالية بعد تولّي الوظيفة العامة، متى كان لا يمكن تبريرها بصورة معقولة نسبة لموارده المشروعة، ويعتبر عدم التبرير المذكور عنصرًا من عناصر الجرم. وتكون بذلك قد استجابت لاستئناف النيابة العامة المالية لهذه الجهة وفسخت القرار الظني لقاضي التحقيق من هذه الناحية.
ـ ردّت الهيئة استئناف النيابة العامة المالية ضد قرار قاضي التحقيق الذي منع المحاكمة عن سلام بجرم تبييض الأموال المنصوص عليه في المادة 3 من القانون 44/2015، مستعيدةً نفس تبرير قاضي التحقيق حيث اعتبرت أن المادة 19 من قانون أصول المحاكمات الجزائية حدّدت حصرًا الجرائم التي يدخل اختصاص النظر فيها ضمن صلاحية النيابة العامة المالية، وليس من بينها جرم تبييض الأموال، فلا تكون الأخيرة مختصّة للادعّاء به. وردّت ما طلبته النيابة العامة المالية من اعتبار صلاحيّتها متحقّقة في ضوء تلازم الجرم مع الجرائم المتحققة والداخلة في صلاحيتها. وأحالت الهيئة نسخة من الملف إلى النيابة العامة الاستئنافية في بيروت للنظر بأمر الادعاء بحق المدعى عليه بجرم المادة 3 من القانون رقم 44/2105 في حال توافر الشروط اللازمة.
وعليه يستدعي هذا القرار إبداء الملاحظات التالية:
توسيع مفهوم الوظيفة العامة في قضايا الفساد
اعتمدت الهيئة الاتهامية في بيروت تفسيرًا موسّعًا لمفهوم “الموظف العمومي” المنصوص عليه في المادة 350 من قانون العقوبات، حيث اعتبرت أن كريم سلام، بصفته مستشارًا لوزير الاقتصاد السابق، يُعدّ موظفًا في معرض تطبيق أحكام الرشوة والجرائم المتصلة بالوظيفة العامة، وذلك بالنظر إلى طبيعة عمله، ومشاركته في اجتماعات رسمية، واطّلاعه على ملفات شركات التأمين، وتواصله المباشر مع ممثليها. وقد أكّدت الهيئة هذا التوصيف تماشيًا مع ما ورد في القرار الظني الصادر عن قاضي التحقيق الأول بالإنابة.
وأشارت الهيئة إلى أن مفهوم الموظف في المادة 350 من قانون العقوبات لا يُقاس بالمعايير الإدارية الشكلية المنصوص عليها في قوانين الوظيفة العامة، بل يخضع لمعيار موضوعي يرتبط بطبيعة المهام التي يضطلع بها الشخص في خدمة مرفق عام. واعتبرت أن صفة الموظف لا ترتبط بوجود أجر، أو عقد خطي، أو تعيين رسمي، بل تُستمد من واقع ممارسة الشخص لمهام ذات طابع عام، سواء بصورة قانونية أو واقعية. ولم تستجب الهيئة إلى ما أدلى به المدعى عليه بأنه ليس مستشارًا في وزارة الاقتصاد وأن لا علاقة له بالوزارة وأن ما يقوم به كان في سبيل مساعدة شقيقه الوزير.
ويمثّل هذا التفسير امتدادًا مباشرًا للتوجّه التشريعي المعتمد في القوانين الحديثة ذات الصلة بمكافحة الفساد، لا سيما:
- القانون رقم 189/2020 (التصريح عن الذمة المالية والإثراء غير المشروع)، الذي وسّع في مادته الأولى تعريف الموظف العمومي ليشمل أي شخص يؤدّي خدمة عامة، سواء أكان معيّنًا أم منتخبًا، دائمًا أم مؤقّتًا، مدفوع الأجر أو غير مدفوع، وفي أي مرفق أو منشأة عامة أو مؤسسة ذات طابع عام، بما في ذلك الاستشاريون.
- القانون رقم 306/2022 (تعديل قانون سرّية المصارف)، الذي تبنّى التعريف نفسه، وأكد خضوع هذه الفئة لأحكام رفع السرية المصرفية، واعتبر أيضًا أن الأشخاص المستعارين أو المؤتمنين أو الأزواج والأولاد القاصرين، يُعدّون بحكم الواقع مشمولين بالحماية القانونية.
وبذلك، أتخذت الهيئة الاتهامية توجّها قضائيًا يواكب هذا التطوّر التشريعي، ويُشكّل مرجعًا لتوسيع نطاق المساءلة القانونية في قضايا الفساد، بما يمنع التذرّع بالشكل أو الصفة الوظيفية الرسمية للتهرّب من المحاسبة. وهو توجّه يُسهم في إرساء مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وتعزيز فعالية القوانين المتعلّقة بمكافحة الإثراء غير المشروع والرشوة وسائر جرائم الوظيفة العامة.
تطبيق نادر لقانون رفع السرية المصرفية وفق القانون 306/2022/
تضمّن ملفّ هذه القضية أحد أبرز التطبيقات العملية للقانون المتعلّق بسريّة المصارف بعد تعديله بموجب القانون 306/2022، الذي استثنى في المادة الثانية الموظف العمومي من أحكام السرية المصرفية. كما منع المصارف من التذرّع بسرّ المهنة أو بسريّة المصارف، وألزمها بتقديم جميع المعلومات المطلوبة فور تلقّيها طلبًا من القضاء المختصّ في الدعاوى المتعلقة بجرائم الفساد والجرائم الواقعة على الأموال وفقًا لقانون العقوبات وفي الجرائم المحددة في المادة 19 أ.م.ج بالإضافة إلى الجرائم المحدّدة في المادة 1 من قانون 44/2015 (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب) ودعاوى الإثراء غير المشروع.
ولم يكن للإجراءات التي أنجزت في الملف الراهن في موضوع رفع السرية المصرفية أن تتم لولا التعديلات على قانون السرية المصرفية وخصوصًا لناحية الأشخاص المستثنين من أحكام السرية والجهات القضائية المخولة رفعها، والتي كانت موضوع معركة تشريعية في حينها، وقد واكبت المفكرة القانونية آنذاك الأخذ والرد حول الموضوع الذي انتهى بإقرار قانون 306/2022.
وفي الإجراءات، حسب ما جاء في القرار الظني والقرار الاتهامي، فإن النيابة العامة المالية قررت بتاريخ 18/7/2024 رفع السرية المصرفية عن حسابات كريم سلام وتكليف جمعية المصارف في لبنان بتنظيم كشف للحسابات المصرفية العائدة إليه في المصارف اللبنانية لا سيما فرنسبنك، وأنه بتاريخ 68/2024 تقرر إنفاذ القرار عبر هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان التي ورد جوابها بتاريخ 2/12/2024 يتضمن تقريرًا مفصّلًا تبيّن فيه وجود عدة حسابات مصرفية عائدة إلى كريم سلام. وأثبت التقرير أن حسابات كريم سلام تغذت بمبالغ تفوق الخمسة ملايين ونصف مليون دولار أميركي تعذّر تحديد مصدرها، وشيكات مصرفية بلغت قيمتها أكثر من مليوني دولار أميركي منها شيكات من حسابات شركات تأمين وحسابات موظفين في شركات تأمين، إضافة إلى عدد من التحاويل غير المبررة.
إثراء الموظف غير المبرر هو بالضرورة إثراء غير مشروع
وبالرغم من هذه المؤشرات القوية على تحقق الزيادة غير المبرّرة في الذمّة المالية، قرّر قاضي التحقيق الأوّل في بيروت بالإنابة، بلال حلاوي، منع المحاكمة عن سلام بجرم الإثراء غير المشروع، استنادًا إلى مذكرة دفاعية قدّمها الأخير، زعم فيها أن هذه الحركات المصرفية تعود إلى “شيكات اشتراها من أموال عالقة في المصارف نتيجة الأزمة المالية”.
غير أنّ الهيئة الاتهامية في بيروت رفضت هذه الحجّة وفسخت قرار قاضي التحقيق، معتبرةً أن الوقائع المصرفية الواردة في التقرير – من تحويلات وشيكات غير مبرّرة – تشكّل بحدّ ذاتها عنصرًا من عناصر جرم الإثراء غير المشروع المنصوص عليه في المادة 14 من قانون 189/2020، والتي تعتبر أن كل زيادة كبيرة في الذمة المالية لا تُبرّر بصورة معقولة تُعدّ إثراءً غير مشروع.
التمسك بقراءة حرفيّة لقانون الإثراء غير المشروع يخلّ بالمنطق القانوني
رغم أهمية تطبيق قانون الإثراء غير المشروع في هذه القضية بخلاف قاضي التحقيق، فإن الهيئة الاتهامية انتهت إلى التخفيف من مفاعيل تطبيق هذا القانون من خلال اعتبار أن جرم الإثراء غير المشروع (المنصوص عليه في المادة 14 من قانون 189/2020) هو جنحة وليس جناية. ويتأتى ذلك من قراءة حرفيّة لهذه المادة كما نشرت في الجريدة الرسمية (العدد 41 سنة 2020) حيث جاء أن عقوبة الإثراء غير المشروع هي “الحبس” من ثلاث إلى سبع سنوات. وعليه، رأت الهيئة الاتهامية ضمنا أن هذا التعبير “الحبس” إنما يعني أن الجرم هو جنحة سندا للمادة 51 من قانون العقوبات التي نصت على عقوبة الحبس تتراوح بين عشرة أيام وثلاث سنوات إلا إذا انطوى القانون على نصّ خاص.
ومن شأن هذا التوصيف أن يؤثر سلبا على هذه الملاحقة وأي ملاحقاتٍ مستقبلية، أقله لجهة احتساب الحدّ الأقصى للتوقيف الاحتياطي أو التجريد التلقائي من الحقوق المدنية أو أحقية طلب إعادة الاعتبار.
وهذه القراءة تتعارض مع معطيات عدة أهمها الآتية:
أولا، أنها لا تأخذ بعين الاعتبار إرادة المشرع المعلنة في التشدد في محاسبة جرائم الفساد والإثراء غير المشروع، وبخاصة بعد بروز أدلة على ارتباط الأزمة المالية والاقتصادية مباشرة بهذه الجرائم،
ثانيا، أن ثمة شكوكا حول مدى صحة استخدام كلمة “حبس” في القانون وهي الكلمة التي انبنى عليها توصيف الجرم بالجنحة. فمن البين أن اقتراح القانون كان ينصّ على عقوبة “الاعتقال” الجنائية، وأن مواقع رسمية عدة نشرت نسخة عن قانون الإثراء غير المشروع تضمنت صراحة عقوبة “الاعتقال” (وليس الحبس) وهي عقوبة جنائية. ومن أهم هذه المواقع، موقع الجامعة اللبنانية والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
استبعاد جرم تبييض الأموال ينعكس سلبا على ملاحقة الجرائم المالية
على غرار ما جاء في القرار الظني، قرّرت الهيئة الاتهامية منع المحاكمة عن كريم سلام بجرم المادة 3 من القانون 44/2015 (مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب) على اعتبار أن المادة 19 من قانون أصول المحاكمات الجزائية “حددت حصرًا الجرائم التي يدخل اختصاص النظر فيها ضمن صلاحية النيابة العامة المالية وليس من بينها جرم تبييض الأموال، فلا تكون الأخيرة مختصة للادعاء به حتى لو كانت الملاحقة تتناول جرائم أخرى من اختصاصها، ولا محل بالتالي للقول بأن حسن سير العدالة والتلازم القائم بين الجرائم تلك وبين الجرم محل الاستئناف الراهن، يوليها مثل تلك الصلاحية لانتفاء النص”. وبالتالي فقد ردّت الهيئة استئناف النيابة العامة المالية للقرار الظني والذي اعتبرت فيه أن صلاحيتها متحققة للادعاء بجرم تبييض الأموال في ضوء تلازم الجرم مع الجرائم المتحققة والداخلة في صلاحيتها.
وليست الهيئة الاتهامية وقاضي التحقيق الجهتين الوحيدتين اللتين اتخذتا هذا المنحى في هذه المسألة، إذ إن هناك أكثر من قرار لمحكمة التمييز الجزائية تعتبر أن جرم تبييض الأموال خارج عن صلاحية النيابة العامة المالية. ولكن، هذا التوجّه يحمل العديد من الإشكاليات القانونية التي ينبغي الوقوف عندها:
أوّلا: التلازم الجُرمي يفرض وحدة المرجع القضائي
لا يمكن افتراض ارتكاب جرم تبييض الأموال المنصوص عليه في القانون 44/2015 من دون ارتكاب جرمٍ أصلي ينجم عنه أموال غير مشروعة، وبالتالي يجعل من تبييضها جريمة. إذا أن ارتكاب جرم من الجرائم المنصوص عليها في المادة الأولى من قانون مكافحة تبييض الأموال كجرائم الفساد والسرقة وإساءة الائتمان والرشوة وصرف النفوذ وتجارة المخدرات، هو عنصرٌ أساسي من عناصر جرم تبييض الأموال. ويقع الفعلان ضمن مشروعٍ جرميّ واحد، وهما حتما متلازمان من الناحية القانونية، كما أدلت النيابة العامة المالية في استئنافها في القضية الراهنة. ومن الثابت أنّ حسن سير العدالة يقتضي أن ينظر المرجع القضائي نفسه في الدعاوى المتلازمة، نظرًا لما لنتيجة كلّ منها من تأثير على نتيجة الأخرى. وإلا فيكون المطلوب تجزئة ملفات الفساد التي عادة ما تتضمّن أكثر من جريمة متلازمة مثل الاختلاس والسرقة والتزوير والرشوة ضمن مشروع جرمي واحد، وتوزيعها ما بين النيابات العامة الاستئنافية والمالية، بما يعرقل سير العدالة ويربك عمل النيابات العامة وقضاة التحقيق.
وهذا ما جاء في مطالعة النائب العام المالي الفرعية في إحدى القضايا بتاريخ 24/11/2006: “حيث أنه يقتضي قبل إبداء المطالعة في الأساس، البحث في ما إذا كانت النيابة العامة المالية صالحة للملاحقة والادعاء في هذه الدعوى؛ وحيث أن المادة 19 من قانون أصول المحاكمات الجزائية حددت صلاحية النيابة العامة المالية وأعطتها حق الملاحقة في جرائم محددة حصراً، أي أن صلاحية النيابة العامة المالية هي صلاحية استثنائية؛ وحيث أن القانون رقم 318/2001 لم يُحدد صلاحية الملاحقة في جرم تبييض الأموال، هل هي للنيابة العامة الماليّة أم للنيابة العامة الاستئنافية، وتالياًً فإنه يتوجب إيجاد المعيار الذي يحدد صلاحية الملاحقة؛ وحيث أن المادة الأولى من قانون تبييض الأموال حددت الأموال غير المشروعة التي يجب اعتبارها جرم تبييض أموال، ومن ضمنها جرائم السرقة أو اختلاس المال العام وجرائم ترويج وتزييف العملة وتقليدها، وهذه الجرائم هي من صلاحية النيابة العامة المالية؛ وحيث يقتضي القول بالاستناد إلى ما تقدم أن صلاحية النيابة العامة المالية لملاحقة جرم تبييض الأموال تكون متحققة عندما يكون هذا الجرم ناتجاً عن ارتكاب جرمٍ آخر هو من صلاحية النيابة العامة المالية؛” [1]
ثانيا: ازدواجية المعايير القضائية
ينمّ التوجّه الذي اتخذته الهيئة الاتهامية في هذه القضية عن ازدواجية في المعايير تؤدّي إلى اضطراب وعدم اتّساق في الأداء القضائي. إذ أن قاضي التحقيق في قراره الظني قد أسند إلى سلام جرائم التزوير واستعمال المزور والرشوة، وكذلك الهيئة الاتهامية أسندت إليه جرمي الرشوة والإثراء غير المشروع، وهي جميعها من الجرائم التي جاءت في ادّعاء النيابة العامة المالية، ولا تندرج ضمن الجرائم المحدّدة في المادة 19 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تحدّد صلاحية النيابة العامة المالية. وكذلك كان الأمر في ملفات أخرى راهنة مثل قضية حساب الاستشارات المعروفة بقضية “أوبتيموم” التي يُلاحق فيها الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة والمحاميين ميشال تويني ومروان عيسى الخوري وتنظر فيها الهيئة الاتهامية في بيروت في الوقت الحالي. ففي تلك القضية، ادّعت النيابة العامة المالية على الحاكم السابق ورفيقيه بجملة جرائم بينها السرقة والتزوير والإثراء غير المشروع وهي جميعها من خارج الجرائم المحددة في المادة 19 أ.م.ج. ولم يثر قاضي التحقيق الأول في بيروت بالإنابة بلال حلاوي مسألة صلاحية النيابة العامة المالية في قراره الظني، ولا الهيئة الاتهامية في بيروت (بأعضاء مختلفين عن الهيئة الناظرة في قضية سلام)، في قرارها التمهيدي الذي أصدرته في القضية. وهذا ما يدل على تناقض لا يخدم حسن سير العدالة في هذه القضية وفي سواها من قضايا الفساد.
ثالثا: تجاوز صلاحيات قاضي التحقيق
لجأ قاضي التحقيق الأول في قراره الظني إلى “منع المحاكمة” عن سلام بجرم تبييض الأموال لعدم اختصاص النيابة العامة المالية للادعاء بهذا الجرم. ويلاحظ أن قاضي التحقيق الأول قد تجاوز صلاحياته، فالمادة 64 أ.م.ج. تسمح لقاضي التحقيق بالامتناع عن التحقيق إذا وجد في ادعاء النيابة العامة عيبًا من شأنه أن يجعل وضع يده على الدعوى غير صحيح. أما الهيئة الاتهامية فقد قرّرت “عدم سماع الدعوى العامة” لتحريكها من مرجع غير مختص وأحالت نسخة من الملف إلى النيابة العامة الاستئنافية للنظر بالادعاء.
رابعا: إمكانية المضي بالتحقيق رغم الشكليات
في كل الأحوال، كان باستطاعة الهيئة الاتهامية وأيضًا قاضي التحقيق تجاوز هذه المسألة الشكلية من خلال ممارسة صلاحياتهم بالتحقيق في الجرائم المتلازمة مع الفعل المدعى به من دون ادعاء مسبق، إذا افترضنا عدم صحة ادّعاء النيابة العامة المالية. فالمادة 60 من قانون أصول المحاكمات الجزائية تنصّ على أنّ قاضي التحقيق “إذا اكتشف أثناء التحقيق أفعالًا جرمية غير متلازمة مع الفعل المدعى به، فيحيل الملف إلى النائب العام ليدّعي بهذه الأفعال. أما إذا كانت الأفعال المكتشفة متلازمة مع الفعل المدعى به فلا يلزمه للتحقيق فيها ادّعاء مسبق”. فكيف إذا كانت الحال جرم تبييض أموال الذي لا يمكن أن يقوم دون توفّر جرم آخر سابق له نتج عنه أموال غير مشروعة كما ذكرنا آنفًا؟
خلاصة
كثير من العمل ومسؤولية جسيمة تقع على عاتق محكمة الجنايات في بيروت، وربما محكمة التمييز من بعدها، إذا ما كانت النية التعامل بجدية وحزم في هذا الملف، تأسيسًا لنهج مستقيم في محاربة الفساد من الناحية القضائية. خصوصًا أن شقيق كريم سلام وزير الاقتصاد السابق أمين سلام هو بدوره ملاحق بجرائم فساد ارتكبها أثناء تولّيه الوزارة ومنها ما هو مرتبط بملف شركات التأمين الذي يحاكم فيه شقيقه. ولأجل ذلك ينبغي إرساء اجتهادات قضائية رائدة وجريئة يُبنى عليها في الدعاوى الراهنة وفي المستقبل أيضًا. وهذا ما لا يتحقّق بشكل فعال إلا من خلال تفعيل الأدوات القضائية التي توفّرها القوانين الحديثة المتعلقة بمكافحة الفساد وبينها رفع السرية المصرفية، وأيضًا بإشراك الجهات الفاعلة والمؤثرة في هذه الملفات مثل الدولة ممثلة بهيئة القضايا في وزارة العدل، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وهذا ما يتطلّب مبادرة جدية من هذه الجهات أيضًا التي ينبغي أن تتحمّل دورها في ملاحقة المرتكبين والدفاع عن الصالح العام.
[1] ياسر مصطفى، النيابة العامة المالية في لبنان، المنشورات الحقوقية صادر، الطبعة الأولى 2011 من ص 118 إلى 124.