قراران قضائيان مميزان في حماية “الحرية الشخصية” (تطبيق نادر للمادة 403 من قانون اصول المحاكمات الجزائية)


2012-04-10    |   

قراران قضائيان مميزان في حماية “الحرية الشخصية” (تطبيق نادر للمادة 403 من قانون اصول المحاكمات الجزائية)

"حيث ان المادة 403 من قانون اصول المحاكمات الجزائية قد اوجبت على هذه المحكمة عندما يبلغها خبر توقيف احد الاشخاص بصورة غير مشروعة ان تطلق سراحه بعد ان تتحقق من عدم مشروعية احتجازه؛ وحيث ان المشرع اللبناني وبموجب احكام الدستور اللبناني، كما والقوانين المرعية الاجراء، قد كرس مبدأ الحرية الفردية واقر مبدأ عدم جواز التوقيف الا بشكل استثنائي محيطا الحرية الشخصية للفرد بسياج متين من الحماية؛ وحيث ان هذه الحماية قد عبر عنها المشرع في قانون اصول المحاكمات الجزائية، عندما حدد بشكل حصري الحالات التي يمكن فيها لأي سلطة توقيف احد الأشخاص، وعندما ضيق من شروط التوقيف ونص عليها بشكل واضح".
هذه الحيثيات وردت حرفيا في قرارين صادرين بتاريخ 15-3-2012 عن القاضي المنفرد الجزائي في صور بلال بدر، وقد قادته الى اطلاق سراح المدعى عليه، بعدما تثبت من عدم مشروعية توقيفه. وقد اوضح في خاتمتهما و"على سبيل المناقشة العلمية"، ان قرارا مماثلا باطلاق السراح لعدم مشروعية التوقيف "لا يحتاج الى استطلاع رأي المدعية، لأننا لسنا بمعرض تخلية سبيل كي يتم التقيد بمبدأ الوجاهية". وهو بذلك امر بتنفيذ القرار من دون الحاجة الى اعلام المدعية او اعلام النيابة العامة الاستئنافية وضمن تاليا للمدعى عليه استعادة حريته من دون اي تأخير.
واللافت ان اللجوء الى هذه الصيغة قد حصل بعد ايام من صدور قرارين استئنافيين[1] بفسخ قرارين سابقين للقاضي نفسه باخلاء سبيل المدعى عليه نفسه في القضيتين نفسهما. وكأنه يرد على ابقاء المدعى عليه موقوفا خلافا للقانون من خلال استخدام المادة 403 أ.م.ج التي، هي، تسمح بالافراج عنه فورا كما سبق بيانه. 
والواقع ان قرارات بدر قد استندت الى اسباب موضوعية بينة لا تحتمل اي جدل: فالجريمة ليست مشهودة كما جاء في مذكرة التوقيف الصادرة عن النيابة العامة الاستئنافية في الجنوب، بدليل ان الافعال المدعى بها كانت موضوع شكوى مقدمة قبل شهرين من توقيف المدعى عليه. كما وان عقوبة الجرائم المدعى بها اقل من سنة حبس[2]، وهو سبب ثان يجرد بحد ذاته النيابة العامة من امكانية توقيف هذا الاخير وفق ما جاء في قانون اصول المحاكمات الجزائية ويجعل قرارها في هذا الصدد مخالفا ل"ابسط القواعد القانونية" و"المبادئ العامة الدستورية والقانونية" (العبارات مستمدة من قراري 15-3-2012). وللاسف، فقد ذهب قرار محكمة استئناف الجنح بفسخ قراري اخلاء السبيل المشار اليهما اعلاه في الاتجاه نفسه. فلم تعر هذه المحكمة اي انتباه الى الاسباب الموضوعية المشار اليها اعلاه، وارست حكمها على حيثية ذات طابع عام تخلو من اي تعليل جدي مكتفية بالاحالة "الى المعطيات المتوفرة في ملف هذه الدعوى" من دون تحديد ماهية هذه المعطيات او ما يتأتى عنها من نتائج قانونية. وما يزيد موقف هذه المحكمة قابلية للانتقاد هو ان قرارها صدر باكثرية اعضائها، وقد خالفه احد مستشاريها القاضيمازن عاصي الذي لم يخف تبرمه من تجاهل الحجج والملاحظات التي ادلى بها والتي تثبت عدم مشروعية التوقيف. وهذا ما نتبينه بوضوح من خلال قراءة نص مخالفته المدونة في اسفل الحكم. فبعدما اشار الى عدم توفر شرط الجريمة المشهودة وايضا الى عدم جواز التوقيف في الجرائم التي تقل عقوبتها عن سنة وفق ما سبق بيانه، دون صراحة في مخالفته بان "الابقاء على توقيف المستأنف عليه رغم الملاحظات التي عرضتها (اي القاضي المخالف) يشكل مخالفة للقانون". فهل يعقل ان تفسخ محكمة الاستئناف قرارا باخلاء سبيل شخص، متجاهلة حججا شديدة الوضوح والقوة، ورغم اعتراض قاض من داخل البيت (احد اعضائها) وخلال المذاكرة، وكل ذلك من دون اي تعليل؟ بل، وعلى مستوى آخر، ما معنى ان يعمد القضاة الى الاسهاب في تبرير مواقفهم وقراراتهم الآيلة الى اخلاء سبيل احد المدعى عليهم (كما فعل القاضيان بدر وعاصي)، فلا يستشعر القضاة الراغبون بابقاء التوقيف (النيابة العامة واكثرية اعضاء محكمة الاستئناف) اي حاجة للرد على حججهم، سواء اتت من المحكمة الادنى درجة او ضمن المحكمة نفسها؟ والا تظهر "الحرية" من خلال هذا المشهد وكأنها استثناء بحاجة الى الف سند وسند، فيما يظهر "التوقيف" بمثابة (الاصل) والذي بامكان اي صاحب سلطة ان يأمر به دونما حاجة الى اي شرح او تفسير؟
ومن هنا، وفي ضوء ما تقدم، يكتسي قرارا بدر اهمية قصوى على صعيد العمل القضائي. ففيما ان توجهه في حماية الحرية الشخصية يلتقي تماما مع توجه عدد من القضاة كان لهم فضل كبير في حمايتها "بسياج متين" (العبارة مستمدة من قراري بدر) في سنتي 2009 و2010 في مواجهة الممارسة غير القانونية التي كانت المديرية العامة للأمن العام قد اعتمدتها ازاء اللاجئين العراقيين بابقائهم موقوفين لسنوات طوال من دون اي سند قانوني متذرع بانه ليس لهم اقامة شرعية[3]، فانه يتميز في نقاط ثلاث: الاولى، ان الاحتجاز التعسفي هنا تناول مواطنا لبنانيا مما يمنع المشاركين فيه من استخدام الخطاب الغرائزي (حماية المجتمع اللبناني ضد غزو اللاجئين والاجانب) لتبريره ويشكل دليلا قاطعا على ان هذه الممارسة البشعة (اي الاحتجاز التعسفيوما يكشفه من استهتار بحرية الآخرين) لا تستثني احدا، والثانية، انه استخدم المادة 403 ا.م.ج كآلية لاطلاق سراح المحتجز تعسفا، وهي آلية تمنح بالطبع القاضي المختص هامشا اوسع في التدخل الفوري من خلال احكام يشرف هو على تنفيذها، والثالثة، ان بدر سعى من خلال هذا التدخل الى فرض القانون ليس في وجه اجهزة امنية تعسفت في استخدام سلطتها (كما فعل قضاة الامور المستعجلة) او آمر سجن اهمل موجباته، انما في وجه قرارات قضائية بابقاء التوقيف خلافا للقانون. ومن هذه الزاوية، سجل بدر مواقف ريادية ليس بشأن دور القضاء في حماية الحرية الشخصية وتسييجها وحسب، انما قبل كل شيء بشأن استقلالية القاضي وتشبثه في اداء هذا الدور.  
واخيرا، تجدر الاشارة الى ان المدعى عليه بقي رغم ذلك موقوفا لما يقارب الشهر من دون وجه حق، وكان من الممكن ان يبقى مدة اطول لولا مواقف القاضي الناظر في قضيته، فمن يعوض التعسف بحقه؟ واهم من ذلك، اي تدابير، اي اصلاحات كيلا يتكرر ما حصل؟
 
 



[1] القراران الاستئنافيان صادران في 8-3-2012 عن الغرفة الثالثة في محكمة استئناف الجنوب والتي تتألف من ماجد مزيحم رئيسا وعلي البراج ومازن عاصي مستشارين. وقد صدر القراران بالأكثرية مع مخالفة مازن عاصي.
[2] يلاحظ  ان المدعى عليه قد أحيل موقوفا أمام القاضي المنفرد الجزائي في صور بعدما نسبت اليه النيابة العامة في الجنوب اقترافه لجنحتي المادتين (578 و584) في القضية الأولى وجنحتي المادتين (584 و554) في القضية الثانية.
 
[3] قاضية الامور المستعجلة في زحلة سينتيا قصارجي، 11-12-2009 (قضية يسرى العامري)، وقاضية الامور المستعجلة في جديدة المتن ميراي حداد، 28-1-2010 (قرارات ثلاثة صادرة في اليوم نفسه) وقاضية الامور المستعجلة في بيروت زلفا الحسن، 8-6-2010 (قرارين اثنين) وقد آلت القرارات الصادرة في القضايا المذكورة الى الزام الدولة بالافراج عن اللاجئين فورا بعدما تثبتت من عدم مشروعية الاحتجاز.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني