قراءة في ديباجات الدساتير المصرية 1956- 2013


2014-01-24    |   

قراءة في ديباجات الدساتير المصرية 1956- 2013

ديباجة الدستور هى تعبير عن أهم المبادئ التي يؤمن ويتمسك بها الشعب، لا تقبل النقصان ولكن تقبل الزيادة خلال التحولات والمراحل المختلفة التي يمر بها هذا الشعب. هى المبادئ التي يعمل الدستور، في أبوابه المختلفة، على تكريسها وحمايتها. ولذلك نقرأ، على سبيل المثال، في ديباجة الدستور الفرنسي اقرارا لاعلان عام 1789 الذي ينص على مبادئ حقوق الانسان والسيادة الوطنية، كما تؤكد على ديباجة دستور 1946 والتي أقرت مجموعة من المبادئ التي يتفق عليها الشعب الفرنسي وفي مقدمها المساواة والعدل، كما تمت اضافة الالتزام بالميثاق البيئي لعام 2004. نلاحظ، انه بالرغم من ان الجمهورية الفرنسية الحالية هى الخامسة، وانه تعاقب على فرنسا اعلانات ودساتير مختلفة، لم يقم المشرع الدستوري الفرنسي بحذف ما قام به من سبقه ولكنه قام بالاضافة عليه والاستعانة به، لأن الدستور بالنهاية هو تعبير عن ارادة الشعب، ولأن المبادئ التي يتفق عليها الشعب لا تختلف مع اختلاف الحكام وطرق الحكم.

قد شهدت مصر خلال الثلاث سنوات السابقة، صدور اعلان دستوري في مارس 2011 كان بمثابة دستور مؤقت، ثم صياغة دستورين في سنتين متتاليتين هما دستورا 2012 و2013. وفي المرتين، تم بدء الصياغة من ورقة بيضاء، رغم انه في 2013 كان من المفترض فقط ادخال بعض التعديلات على الدستور السابق، وتمت كذلك اعادة صياغة ديباجة الدستور في المرتين دون أي اشارة الى مبادئ في دساتير سابقة. لذلك نطرح في هذا المقال تساؤلا حول صياغة ديباجات الدساتير المصرية المتعاقبة منذ 1956 حتى 2013، فما هى النقاط المشتركة بينها، وما أهم المبادئ التي وردت فيها، في محاولة لتحليل وفهم مفهوم "ديباجة الدستور" عند المشرع الدستوري المصري.
 
ديباجة دستور 2013: مخالفة لأعراف ديباجات الدساتير السابقة
في حين تميزت دساتير 1956، 1971، و2012 بمقدمة صغيرة يليها أو يتضمنها اعلان مبادئ يؤمن ويتمسك بها المصريون، تميزت ديباجة دستور 2013 بطولها واستعراضها لتاريخ مصر على مر العصور. بالاضافة الى ذلك تميزت ديباجة دستور 2013 بطريقة صياغتها "الانشائية"، و"العاطفية". 

فقد ذكرت الديباجة بتأسيس "أول دولة مركزية" في مصر ايام الفراعنة، وايمانهم قبل ظهور الأديان السماوية، كما تناولت الديباجة مساهمة ودور مصر في الأديان السماوية الثلاث خاتمة الفقرة ب "هذه مصر وطن نعيش فيه ويعيش فينا". وهي مستندة الى جملة قالها من قبل البابا شنودة، والتي يرفعها العديد من المصريون كشعار لوطنيتهم "مصر ليس وطن نعيش فيه وانما وطن يعيش فينا"، وهو ما يعكس "عاطفية" المشرع الدستوري في التعبير عن الوطنية المصرية. وقد قصد المشرع الدستوري من هذه الفقرة التأكيد على هوية مصر الفرعونية، ثم على كونها شهدت مرور الأديان السماوية الثلاث، وأيضا على عروبتها وانتمائها الأفريقي، ولكن يؤخذ عليه القيام بذلك بطريقة "انشائية" ليس مكانها ديباجة الدستور.
وقد استعرض بعد ذلك المشرع الدستوري تاريخ مصر الحديث من عصر محمد علي حتى ثورة 25 يناير- 30 يونيو مؤكدا على وطنية الجيش المصري ومذكرا بانتصارات الشعب المصري في تحركاته المختلفة دون أن يذكر مبادئ هذه التحركات التي يقوم عليها المجتمع المصري، فكان من الأحرى أن يقوم المشرع الدستوري باستنباط المبادئ التي يتمسك بها الشعب المصري والتي أكدها على مدار هذه الحراكات دون سرد انشائي لبعض المحطات في تاريخ مصر الذي يعرفه المصريون جيدا.

ثم يقوم في النهاية المشرع الدستوري بذكر المبادئ التي يؤمن بها الشعب المصري، وهي الجزء الأهم في الديباجة والتي يستند اليها المشرع والمحكمة الدستورية في أى خلاف حول تفسير نص دستوري ليستنبط منها الحل. ولكن للأسف، كان هذا الجزء هو الأقصر ولم يتناول كل المبادئ التي يقوم عليها المجتمع المصري والتي تعتبر أساس النصوص الدستورية والقانونية.

كان من الأحرى على المشرع الدستوري في 2013 الاستناد الى المبادئ المكرسة في دستور 2012، والاستعانة بديباجة دستوري 1956 و1971 ليستنبط منها أهم المبادئ التي تجمع الشعب المصري، والتي تعد أساس المواد التي صاغها في أبواب الدستور المختلفة، لكي تمثل المرجع لأي خلاف حول تفسير مواد الدستور، والأساس لأي تشريع.

وهذا الأمر يطرح اشكالية حول القيمة القانونية لديباجة دستور 2013، فباستثناء النص على أن الحكومة مدنية[1] وأن المرجع في تفسير مبادئ الشريعة الاسلامية هي المحكمة الدستورية العليا، لم تكرس الديباجة أية مبادئ أو مفاهيم "فوق دستورية" لا تقبل الانتقاص عند أى تعديل دستوري.   
 
"الثورة" عامل مشترك بين الدساتير المصرية
في الدساتير الأربعة موضوع المقارنة (1956- 1971- 2012-2013) وردت كلمة "الثورة" في الدستور. ففي حين أشار دستورا 1956 و1971 الى ثورة 1952 على اساس انها نصر حققه الشعب بعد كفاح طويل، اشار دستورا 2012 و2013 الى ثورة 25 يناير بتعريف من قام بها، والتأكيد على انحياز القوات المسلحة لها. ويعد ذلك أمر لافتا للانتباه، ففي حين أن ثورة 1952 قام بقيادتها تنظيم "الظباط الأحرار" في الجيش المصري، لم يذكر أي من دستوري 1956 أو 1971 دور القوات المسلحة في الثورة، بل شرعوا في التأكيد على أن الشعب هو صاحب الثورة. أمر معاكس حصل مع ثورة 25 يناير التي قادها الشعب: فقد أصر الدستوران اللذان كتبا في إثرها على تأكيد دور القوات المسلحة فيها، وتحديدا على انحيازها للشعب الذي هو من قام بها.

الجدير بالذكر، أنه في حين ذكر دستورا 1956 و1971 ثورة 1952 فقط، وذكر دستور 2012 ثورة 25 يناير فقط، فان دستور 2013 قام بذكر ثورات مصر كلها بداية من ثورة 1919 حتى ثورة 25 يناير- 30 يونيو مؤكدا أن الأخيرة امتداد لنضال وطني وتتويج للثورات التي قبلها. ولعل تجميع الثورات ونضالات الشعب المصري على هذا الوجه يقبل النقد، وخصوصا لجهة ذكرها وتعظيمها في موازاة اغفال تام لمجمل المبادئ التي أنتجتها. وبذلك بدا المشرع الدستوري وكأنه يخلط بين كتابة التاريخ وكتابة الدستور مفضلا الأولى على الثانية؛ فاسترجاع الثورات وزعمائها مكانه كتاب التاريخ وليس ديباجة الدستور كما حصل، في حين أن استخلاص المبادئ التي قامت بسببها هذه الثورات، والتي تتقارب بشكل كبير، فمكانها هو ديباجة الدستور، وهو أمر زهد عنه المشرع الدستوري وكأنه خارج الموضوع.  
 
مؤسسات الدولة في ديباجة الدستور المصري
في حين لم يتطرق كل من دستورى 1956 و1971 الى مؤسسات الدولة من شرطة وجيش وقضاء او غيرها في ديباجة الدستور، وأكدوا على مبادئ أو أهداف الشعب المصري، تطرق كل من دستورى 2012 و2013 الى مؤسسات الدولة في الديباجة.
فقد ذكرت ديباجة دستور 2012 مؤسسة القضاء بالتأكيد على استقلال القضاء وشموخه، وانه حامي الدستور بالاضافة الى ذكر القوات المسلحة ك"مؤسسة وطنية محترفة محايدة لا تتدخل في السياسة وهى درع البلاد الواقي"، هذا الى جانب ذكر الكنيسة والأزهر الشريف.
وقد اتبع المشرع الدستوري في صياغة ديباجة دستور 2013 نفس النهج في ذكر مؤسسات الدولة، ولكن للتأكيد على انحيازها للثورة ودورها في تاريخ مصر.

ومن خلال هذه المقارنة، نلاحظ أن في دستورى 1956 و1971 كانت كلمة "الشعب المصري"، أو "جماهير الشعب المصري" كلمة جامعة لكل أطياف الشعب المصري مهما اختلفت انتماءاتهم أو مواقعهم ضمن مؤسسات الدولة أم لا. ولكن في دستوري 2012 و2013، يوحي الاسهاب في ذكر مؤسسات الدولة في الدستور وكأن الشعب ومؤسسات الدولة طائفتان في المجتمع يجب ذكر كل منهم على حدة. والأخطر من ذلك كله، هو النص بشكل صريح على دور هذه المؤسسات في الدولة وفي الثورة وكأنما الهدف هو الحفاظ على مكتسبات معينة، أو الاعلاء من مكانتها على نحو يجعلها "فوق دستورية".

واللافت أن اعلاء مكانة هذه المؤسسات لم يحصل في الفترات التي شهدت دورا قويا للدولة وللجيش في الحكم، انما حصل ذلك بعد ثورة قام بها الشعب ضد فساد بعض هذه المؤسسات ووسط دعوات باصلاحها.  
 
المبادئ في ديباجات الدساتير المصرية
تقاربت ديباجات الدساتير المصرية الى حد كبير لجهة المبادئ التي كرستها مع بعض الاختلافات التي تعود الى نظام الحكم وتطورات المجتمع بشكل رئيسي.

فقد أعلت ديباجات الدساتير المصرية المتعاقبة مبادئ العدل، العدالة الاجتماعية، الحرية، الكرامة الانسانية، سيادة القانون والتطلع الى الوحدة العربية.

وعلى الجانب الأخر، وفي حين أعلى دستور 1971 مبادئ الاشتراكية، أعلى دستورا 2012 و2013 مبادئ الديمقراطية وقوامها أن الشعب هو مصدر السلطات، والتعددية السياسية وضرورة التداول السلمي للسلطة. وبينما لم يرد ذكر الشريعة الاسلامية في دستورى 1956 و1971، وذهب دستور 1956 الى اعلاء "حق الفرد في عقيدته، وفكرته" دون أن يكون على ذلك "سلطان لغير العقل والضمير"، نلاحظ الاكثار من ذكر الشريعة والأديان في دستوري 2012 و2013 سواء بذكرها صراحة أو الاشارة الى المؤسسات الدينية وفي مقدمها الأزهر والكنيسة. وهو أمر نستشف منه اعلاء قيمة الانتماء الديني في مصر في السنوات الأخيرة، منذ عهد أنور السادات، الى درجة أصبح معها من القيم "فوق الدستورية".



[1] دارت النقاشات داخل لجنة الخمسين حول النص على أن مصر دولة مدنية في ديباجة الدستور، ولكن اعترض البعض ولم يتم اعتماد تلك الصياغة. فتم الاتفاق بعدها أن يتم النص على "ان حكمها مدني"، ولكن البعض اعترض على ذلك لدى عمرو موسى، رئيس لجنة الخمسين، الذي قام بتعديل الجملة قبل التصويت النهائي لتصبح "حكومتها مدنية".
راجع بخصوص ذلك لقاء ممثل الكنيسة الأرثوذكسية بلجنة الخمسين "الأنبا بولا" في برنامج "الحياة اليوم" على قناة الحياة، بتاريخ 9-1-2014. 
انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، مصر



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني