يكشف الإعلان عن الحركة القضائية لسنة 2015 التي أعدتها الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي عن تطوّر تجربة هذه الهيئة في مجال إدارة المسار المهني للقضاة. اتّهم جانب من القضاة الهيئة في حركتها الأخيرة باعتماد المحاباة في إسناد الخطط القضائية. ورد أعضاء الهيئة الإتهام معتبرين أنهم توصلوا الى إرساء معايير موضوعية وشفافة للحركة القضائية. وتنشر المفكرة القانونية في هذا الإطار مقالاً لعضوة منتخبة في الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي ليلى الزين، أبرزت من خلاله رأيها في منهجية العمل ونتيجته (المحرر).
أعلنت الهيئة الوقتية للقضاء العدلي في 7-8-2015 الحركة القضائية لسنة 2015. وتكتسي الحركة القضائية التي أعلن عنها أهمية خاصة لكونها آخر حركة تنجزها الهيئة قبل إرساء المجلس الأعلى للقضاء المنتظر، ولأنها ثالث حركة للهيئة وثمرة لتجربة استمرت سنتين تميزت بالتوجه نحو تطوير معايير موضوعية للحركة القضائية.
تجاوز الاهتمام بالحركة القضائية الدورية لسنة 2015 القضاة الذين شملته الحركة القضائية. فتحولت الحركة القضائية في تطور هام لموضوع نقاش عام بين القضاة والمهتمين بالشان القضائي فضاؤه شبكات التواصل الاعلامي والمواقع الاعلامية وموضوعه السؤال حول شفافية الحركة وعدالتها.
تسلط السؤال حول معايير الحركة القضائية وكشف عن انتقادات لأداء الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي في مجال تدخلها هذا. وتكشف أهمية الإنتقادات التي وجهت للحركة القضائية والتي شككت في موضوعية معايير إعداد الحركة عن تطور فكرة “المساءلة في الوسط القضائي”. وهذا ايجابي. لكن بعض الانتقادات أغلفت أن الحركة القضائية كانت ثمرة معايير موضوعية وأن عوائق موضوعية بررت بعض نقائصها. ومن المفيد تبيان المعايير الموضوعية وتحديد العوائق الموضوعية لتقييم التجربة وللإستفادة منها.
معايير الحركة لسنة 2015
قبل الشروع في إعداد الحركة، أطلعت الهيئة جميع القضاة على جملة الخطط الشاغرة بالمحاكم والإدارة المركزية والمعهد الأعلى للقضاء ومركز الدراسات القانونية والقضائية وعلى معايير الحركة القضائية لسنة 2015 في خصوص الترقية واسناد الخطط الوظيفية والنقل بعد تحديدها والمصادقة عليها بجلسة عامة. ولا بد من الإشارة أن الهيئة كانت كاتبت، قبل تحديد المعايير، الهياكل التمثيلية للقضاة طالبة إياها بمدّها بتصوراتها ومقترحاتها حول معايير الحركة القضائية. إلا أنها لم تتلقّ أي ردّ في الغرض من أي هيكل.
وقد سعت الهيئة هذه السنة الى تطوير هذه المعايير مقارنة بالسنة الفارطة. وأقرّت الكفاءة كأهم معيار لإسناد خطة وظيفية للقاضي تليها النزاهة وتخلّت عن الأقدمية كمعيار أوّل في إسناد الخطط القضائية وجعلتها عنصرا للترجيح بين القضاة عند التساوي في الكفاءة والنزاهة. واعتمدت الهيئة عند إعدادها للحركة على وسائل عمل موضوعية وذاتية أهمها تقارير الزيارات التي أجراها أعضاء الهيئة لمختلف محاكم الجمهورية والتي تم الاستماع خلالها لمقترحات القضاة وانتقاداتهم وحتى طلباتهم وعلى احصائيات دقيقة أعدتها التفقدية العامة ضبطت من خلالها احتياجات كل محكمة من القضاة وإقتراح إعادة توزيع الخارطة القضائية حسب الحاجيات الحقيقة استنادا الى عدد القضاة بالمحاكم وعدد القضايا المنشورة وعدد القضايا المفصولة والى إحصائيات دقيقة عن الأعمال التي أنجزها القاضي طيلة السنة القضائية وإحصائية أخرى بشأن التأخير في الانجاز (التلخيص مثلا).
أما الوسائل المادية فهي التطبيقة التي قام بتركيزها للهيئة برنامج دعم اصلاح القضاء التابع للاتحادالأوروبي والتي جمعت كل البيانات الشخصية للقضاة الى جانب صورهم لتسهيل التعرّف عليهم، وكذلك كل المعلومات عن مسيرتهم المهنية كاملة. غير أن هذا لم يذلّل صعوبات عدة واجهتها الهيئة أهمها:
1- الصعوبة في سد النقص من قضاة الرتبة الأولى في جميع محاكم الجمهورية وذلك لعدم انتداب ملحقين قضائيين هذه السنة. فعدم تسمية ملحقين قضائيين كان المعضلة الأساسية لحركة هذه السنة. فبعد أن تمت ترقية 81 قاضيا الى الرتبة الثانية، تحمّلت جميع المحاكم دون استثناء هذا النقص وبقيت العديد منها تفتقد الى قضاة معينين في خطط وظيفية هامة كالضمان الاجتماعي أو السجل التجاري أو حتى خطة القاضي المنفرد.
2- الصعوبة في تسديد الشغورات بمحاكم لم تكن موضوع طلب:
فالمعلوم أن الهيئة اضطرت، وعند إعدادها للحركة القضائية لسنة 2014 وبعد إحداث محكمتي الاستئناف بالقصرين وسيدي بوزيد، الى نقلة بعض القضاة الى خارج مراكز عملهم ودون طلب منهم وذلك لمصلحة العمل. فبعد الإعلان عن المراكز التي تتطلب التسديد بمحكمتي الإستئناف بالقصرين وسيدي بوزيد ودعوة القضاة الى تقديم طلباتهم، وبعد تسجيل بقاء أغلبية المراكز المعلن عنها دون طلب، تولت الهيئة تعيين القضاة المؤهلين للترقية للرتبة الثانية والثالثة والذين لم يبتعدوا عن مراكز اقامتهم بهذه المحاكم لمصلحة العمل واعتبرت الهيئة أن هذا المعيار هو الأقرب لتحقيق المساواة ولضمان تكافؤ الفرص. وعملاً بأحكام الفصل 12 من القانون عدد13 لسنة 2013 المحدث للهيئة الوقتية للقضاء العدلي والذي حدّد مدة النقلة من أجل مصلحة العمل بسنة واحدة، استجابت الهيئة في هذه الحركة الى طلب ارجاع القضاة المشمولين بهذه النقلة الى مراكز عملهم الأصلية.
وفي نطاق تطبيق نفس الفصل وبعد تسجيل عزوف القضاة عن العمل في هذه المراكز، كان لا بد من اتباع نفس الاجراء في هذه السنة. فقد أعلنت الهيئة أثناء إعدادها للحركة في مرة أولى بتاريخ 15 جويلية 2015 ثم في مرة ثانية بتاريخ 29 جويلية 2015 عن الشغورات بالمراكز التي لم تكن محل طلب ودعت القضاة الى تقديم طلباتهم فيها. ومع ذلك لم تتلقَ إلا طلبين اثنين.
والسؤال المطروح الذي ربما غاب عن بيانات تقييم الحركة القضائية: هل تتحمّل الهيئة مسؤوليتها في تسديد الشغور حفاظا على استمرارية المرفق القضائي في هذه الجهات أم تحترم رغبة القضاة في عدم النقلة خارج مراكز اقامتهم؟
ثم من سيتحمّل هذه التضحية من القضاة؟ من سبق ان تنقّل لمصلحة العمل لسنوات أم من لم يغادر مركز اقامته كامل مسيرته المهنية؟ أم هل تقتصر التضحية على الرجال من دون النساء في حين أن الفصل 12 من القانون المحدث للهيئة لم يميّز بين رجل وامرأة (يتساوى جميع القضاة في تلبية مقتضيات مصلحة العمل) وهو أمر بديهي طالما ان الترقية و المسؤوليات العليا تمنح للرجل والمرأة دون تفرقة؟
اختارت الهيئة اتباع نفس الإجراء. وتمّ اختيار القضاة الذين لم يعملوا خارج مقر إقامتهم مراعاة لمبدأ المساواة مع زملائهم الذين عملوا مدداً متفاوتة بعيداً عن مقر إقامتهم دون تفرقة بين رجل وامرأة. وقد اضطرت الهيئة في بعض الحالات لتسديد بعض الشغورات الى نقلة عدد من القضاة الذين عملوا مدة قصيرة بمحاكم لا تبعد كثيراً عن مراكز اقاماتهم.
وانطلاقا من هذا المبدأ، تم توزيع القضاة الذين شملتهم النقلة من أجل المصلحة العامة بمختلف المحاكم التي لم تكن موضوع طلب وراعت الهيئة في ذلك عدة معايير أهمّها العنصر الموضوعي: مثل تقاسم المسافات بين الجهات، ثم العنصر الذاتي (جنس القاضي) فتم تعيين قاضيات العاصمة بدائرة محكمة الاستئناف بالكاف وقاضيات الساحل بدائرة استئناف صفاقس في حين تم تعيين القضاة الرجال بدوائر محكمة الاستئناف بالقصرين وسيدي بوزيد وقفصة)، وكذلك العنصر الواقعي. فقد رأت الهيئة انه وفي غياب فروع للمحكمة العقارية بنابل وزغوا،ن تحملت قاضيات المحكمة العقارية المركزية عناء التوجهات العينية الى مناطق بعيدة بولايات زغوان ونابل لعدّة سنوات واخذت الهيئة ذلك بعين الاعتبار وتم تعيينهن بدائرة استئناف نابل.
أما مطالب النقل العادية، فإلى جانب الاستجابة لمطالب النقل التي تعلقت بالقضاة الذين تمت نقلتهم ضمن الحركة السابقة من اجل مصلحة العمل تطبيقا لأحكام الفصل 12 من القانون المذكور أعلاه، فقد استجابت الهيئة لبعض طلبات النقل وفق المعايير التي حددتها سابقاوطبق الإمكانيات المتاحة مع مراعاة مصلحة العمل من جهة وضمان حد أدنى من الاستقرار والاستمرارية من جهة أخرى. إلاأنها وجدت صعوبة كبيرة جدا في الاستجابة لطلبات نقل قضاة الرتبة الأولى بسبب عدم وجود الإطار القضائي الذي سيعوضهم في غياب تسمية ملحقين قضائيين، عدا بعض الحالات الاجتماعية والصحية.
اسناد المسؤوليات والتجريد منها
حددت الهيئة معيارين لإسناد الخطط القضائية وهي الكفاءة والنزاهة وجعلت من الأقدمية عنصرا للترجيح. وعمليّاً، وعند التساوي في جميع المعايير المذكورة بما في ذلك الأقدمية، أجرت الهيئة قرعة بين المترشحين. وللتوضيح، لم تقتصر الكفاءة على المفهوم الصناعي للكلمة فحسب بل اتسعت الى مدى استقلالية وحياد القاضي وقدرته على الإدارة والتسيير بالنسبة للمسؤوليات الأولى.
ولا بد من الإشارة الى أن معايير إسناد الخطط هي نفسها معايير التجريد منها. فأسندت الخطط بعد التناظر بين المترشحين والتصويت وبعد الاطلاع على المسيرة المهنية للقاضي واختصاصه والاطلاع على البيانات الشخصية وأحيانا السرية وتقييم رؤسائه في العمل له، انطلاقا من أن الخطة هي حق للقضاء وليست حقا للقاضي.
كما واجه أعضاء الهيئة الذين شملتهم هذه الحركة عدة انتقادات وصلت الى حد التجريح والتشكيك. فهل يحق للقاضي العضو ان يكون مشمولا بالحركة القضائية أم في ذلك مس من شفافية عمل الهيئة؟
في حقيقة الأمر، تمّ طرح هذا الإشكال في أول اجتماعات الهيئة عند مناقشتها لقانونها الداخلي. وانتهى التداول الى عدم منعه وإقرار حق القاضي عضو الهيئة في الترقية والنقلة والمسؤولية مع شرط ان يخضع للتناظر والتصويت والاطلاع على ملفه الشخصي كباقي المترشحين وان يتم التداول في شأنه في مغيبه وأن لا ينتفع بعضويته بالهيئة للحصول على ترقية أو نقلة قبل أوانها أو خطة لا تستجيب مع المعايير المحدّدة.
ختاماً، حرصت الهيئة على تطبيق المعايير التي وضعتها. كما حرصت على احترام مقتضيات الفصل 12 من القانون المحدث لها وعلى تكريس مبدأ المساواة بين القضاة في العمل داخل الجمهورية، ومبدأ حق جميع المحاكم مهما كان موقعها في قضاء ناجع من خلال قضاة أكفّاء، وأنجزت عملاً خاضعاً للتقييم وغير محصّن من النقد مهما كان منطلقه (ذاتيا او موضوعيا) ومهما كانت غايته المعلنة والخفيّة. الا أنّ أعضاء الهيئة موقنون أنّ التقييم القائم على أسس موضوعية صحيحة ومنصفة لم يحن أوانه بعد، لأننا نفتقد الى الوسائل العلمية والبشرية للتقييم المجرّد.