عند مدخل بلدة سحمر في القطاع الشرقي في البقاع الغربي، منزل دمرته إسرائيل، فانتقلت العدوى، عدوى الدمار، إلى المحلات والمنازل بقطر لا يقل عن 300 متر. بالقرب من الغارة الإسرائيلية ترتفع لافتة زرقاء “سحمر ترحب بكم”، وعلى بعد أمتار منها منزل مدّمر آخر ومؤسسة يعمل صاحبها في تجارة زيت الزيتون حيث تتدحرج مئات الغالونات الزرقاء من بطنها المبقور بالقصف، المخصصة عادة لتخزين الزيت لتعليبه وتصديره. طالما تشاوف أهالي القطاعين الشرقي والغربي في البقاع الغربي بجودة زيتونهم وزيته وخصوصًا طعمه على كل بلدات البقاع. يردّون ذلك إلى طلّتهم الحدوديّة على قضاء حاصبيا في القطاع الشرقي، وفي الغربي يفتحون على قضاء جزين ثم قضاء النبطية، وفي الحالتين “الهوا جنوبي، وزيتون الجنوب طيّب وغالي”.
الهواء الجنوبي عينه ينسحب على معاناتهم المزمنة المستمرة مع الاعتداءات الإسرائيلية، إذ لطالما تعاملت معهم إسرائيل كجبهة إسناد للجنوب، من بوابة البقاع، واجتاحت بلداتهم في 1982 وتمركزت فيها لغاية 1985. نتحدث هنا عن سحمر ويحمر ولبايا وزلايا وقليا في القطاع الشرقي، يفصلها نهر الليطاني، وتحديدًا في النقطة التي يبدأ منها الحوض السفلي، أي ليطاني الجنوب من نبع عين الزرقا في خراج يحمر. وعلى الضفة الثانية لحوض الليطاني، أي القطاع الغربي، ترتكن بلدات مشغرة وعين التينة وميدون التي تفتح على قضاء جزين. وقد خصّت إسرائيل خراج يحمر وزلايا من الشرقي، وميدون من الغربي بالقصف بالعنقودي الإسرائيلي كما 25 موقعًا كانت الحكومة اللبنانية قد أكدت تلوّثها بالعنقودي في آخر تحديث قبل 10 أيام من وقف إطلاق النار. ومع محيط النهر في يحمر وزلايا وميدون، وجد أهالي يحمر قنابل عنقودية في بلدتهم وبين بيوت بعضهم.
“لهذا السبب قرّرت ألّا أترك سحمر”
في هذا الجزء من البقاع الغربي، تركّز العدوان الإسرائيلي في هذه البلدات الثماني، التي أطلق رئيس مجلس النواب نبيه بري على أهلها قبل سنوات توصيف “نص الشيعة”، حيث يتمركزون بين قضائيّ حاصبيا ومرجعيون جنوبًا وبين بلدات القرعون ولالا وبعلول على الضفة الشرقية لبحيرة القرعون. وتحدّهم على الجهة الغربية في البحيرة بلدات بيت مارع وصغبين وعيتنيت. هنا، أوقع العدوان أكثر من مائة شهيد، من بينهم 12 عنصرًا من الدفاع المدني التابع لمركز الهيئة الصحية في سحمر باستهداف مباشر، وعشرات الجرحى، بعضهم ما زال في المستشفيات قيد العلاج، عدا عن مئات الوحدات السكنية والتجارية المدّمرة والمتضررة بدرجات متفاوتة، تبعًا لمدى قربها من الأمكنة المستهدفة. وحصة سحمر من كل هذا المصاب هي الأعلى: “كلّ عمره الإسرائيلي عينه حمرا من سحمر من زمان مش من هلأ”، يقول ابن البلدة الذي صمد فيها 66 يومًا، ولم ينزح رغم التهديد الإسرائيلي لكل البقاع بالإخلاء في 23 أيلول 2024.
كنت أقف مع ميثم (اسم مستعار)، الذي لم يرغب في الظهور بدور البطل الصامد، كما قال لـ “المفكرة”، في وسط سحمر المدمّرة حيث تصطفّ على جانبي طريقها الرئيسية الأبنية والمؤسسات التي سويّ معظمها بالأرض. محلات خَلّع عصف صواريخ الطيران الحربي أبوابها فانكشفت بضائعها للمارة، فيما يملأ زجاج واجهاتها الرصيف على الجهتين بعدما أُبعد من الطريق، مع الركام، تسهيلًا لعبور العائدين، كون البلدة تشكل بوابة كل القطاع الشرقي.
“كيف بقيت في سحمر رغم كل هذا الدمار؟” أسأله. لم يجب ميثم على سؤالي بل طلب مني مرافقته إلى مقبرة البلدة، وتحديدًا إلى مجموعة من القبور التي اصطفّت بجانب بعضها البعض حول نصب حفرت عليه أسماء 12 شهيدًا مع تاريخيْ ميلادهم واستشهادهم في 20 أيلول 1984. أكبر هؤلاء عمرًا من مواليد 1945، أي كان عمره حين استشهاده 39 عامًا، بينما لم يكن أصغرهم قد بلغ الـ 15 عامًا، من مواليد 1969، وآخر مواليد 1968 وثالث في 1966…. استشهد هؤلاء بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982 وقبل أن تتحرّر سحمر من الاحتلال في 1985. يومها، في 20 أيلول 1984 اعتقل جيش الاحتلال 12 من أبناء البلدة، صفّهم في ساحتها، وأعدمهم بالرصاص أمام عائلاتهم. من بين هؤلاء ابن الـ 15 مع شقيقيه، وعمرهما 18 و23 عامًا على التوالي، وشهيدين آخريْن شقيقين في 23 و29 من العمر. تقول الأسماء الموضوعة على شاهدة كل قبر، أنّ من دفنوا الشهداء حرصوا أن يضعوا الأخوة من بينهم قرب بعضهم البعض، كي لا يقطع حتى الموت صلة الرحم.
وفيما كنت أتكهّن سبب اصطحابي لزيارة القبور الـ 12 التي يجمعها نصب تذكاري، يجيبني ميثم “في واحد من هودي الشهدا بيقربني”. يطلب مني ألّا أذكر صلة القربى لكي لا أكشف هويته. كان ميثم قد بلغ بالكاد العاشرة من عمره عندما شهد على هذه المجزرة ووحشيتها، ولا يمر يوم من دون أن يفكر فيها: “أنا ما بترك سحمر، هيدا قرار أخدته من وقت عدوان نيسان 1996”. كان ميثم ممّن شجّعوا أهالي سحمر من العائلات على مغادرة البلدة: “يعني مش ممكن كان يبقى أطفال بالبلدة بهيك ظروف”. ربما سعى، ومن دون قصد، ألّا يشهد الأطفال الآخرون على المجازر، كما حصل معه قبل 40 عامًا. غير ذلك، يرى أنّ تفريغ البلدة يسهّل على الاحتلال دخولها وتدميرها: “ما بتركها، ما بقدر أتركها”. فعل ذلك أيضًا ولم يكن قد تجاوز الـ 16 من عمره: “في عدوان نيسان 1996، زعل مني أهالي لأني ما قبلت فلّ معهم، وكمان ما تركت سحمر بعدوان 2006، بس هيدا العدوان غير مسبوق، ولا يقارن بما قبله”.
لا يحسن ميثم القتال: “بس كان في مسنين ومدنيين بحاجة لمساعدة”. في إحدى ليالي العدوان وبعدما نفّذ سرب من الطيران الحربي الإسرائيلي زنارًا ناريًا لفّ سحمر، قتلت إسرائيل في هذه الليلة عشرة من أبناء البلدة “في ثوان”، كما يقول. ويومها أغار الطيران الحربي على قليا واستشهد 3 من أبنائها، وبدأ الإصابات تنهال على مستشفى البقاع الغربي التابع للهيئة الصحية في سحمر. على الفور، قصد ميثم المستشفى وساعد الطاقم الطبي في “توضيب الشهداء الـ 13 وفي نقل الجرحى، وأي شي تاني قدرت إعمله”. لا ينسى هذه الليلة “برّاد المستشفى بيساع بس 6 شهدا، ولم يكن بالإمكان التحرّك في البلدة للدفن إلّا بعد ثلاثة أيام، بس الحمدالله كان الطقس بارد”. ومساعدة الطاقم الطبي في المستشفى كانت إحدى المهمات التي يحرص عليها دائمًا: “كنا كمان نصلّي ع الشهدا ونهتم بدفنهم بشكل لائق”.
هنا فرضت ظروف الاستشهاد نمطًا جديدًا من الدفن لاحظته في قضاء بعلبك أيضًا: “بتجي بوكلين بتحفر حفرة كبيرة ويتمّ تقسيم القبور فيها بأحجار من اللبن”. قبل الحرب، عندما كان الموت فرديًا، كان يتم حفر قبر واحد لكل ميت. لاحظت في تجوالي على مقابر شهداء عدوان 2023-2024 وجود قبور جاهزة فارغة، وهو ما وافقني عليه ميثم “كانت تتجهز القبور لأنّه ما كان عنّا رفاهية البقاء في المقبرة لوقت طويل حيث قد نتعرّض للاستهداف”. وكان قاسيًا، وفق ميثم تجهيز القبور مسبقًا “يعني كل واحد كان يفكر بينه وبين حاله إنّه هيدا يمكن يكون هالقبر الفارغ قبره”، مع سقوط شهداء في كل يوم.
في الطريق الأساسية نحو ساحة سحمر حيث الدمار في أوجه، يشير ميثم إلى دكان مخلوع الباب: “هيدا واحد من الدكاكين ل كنا نستغل غياب المسيّرات حتى نخطف إجرنا ونجي ناخد منه أغراض”. كان يكتب على ورقة السلع التي يأخذها، ثم يصوّرها ويترك الورقة لصاحب الدكان مع اسمه: “وأوقات إذا في خطوط اتصل فيه وخبره شو أخدت”، والحساب دائمًا بعد انتهاء الحرب والعودة. أما عندما ينقطع الخبز من البلدة التي لم يعد أي من الباعة يقصدها بطبيعة الحال، فقد كان أحد الأهالي يقصد بلدة القرعون التي يفصلها عن سحمر حاجز للجيش اللبناني: “كان لي يقطع الحاجز من سحمر يصير بعالم تاني الحياة فيه طبيعية، والراجع يتشاهد (أي ينطق شهادة لا إله إلا الله) بس يقطع الحاجز لأنه راجع ع البلدة، وما بيعرف بأي لحظة ممكن يُستهدف”. الذهاب إلى القرعون كان يحصل فقط عندما تغيب المسيّرات الإسرائيلية من الأجواء “وهذا نادرًا ما كان يحصل”. أسأل ميثم عن حجم استهداف سحمر بالأرقام، فيبدأ العدّ على أصابعه ثم يتوقف بعد دقيقة: “ع القليلة مئة غارة، استشهد بنتيجتها نحو 55 شهيدًا في البلدة، من بينهم 6 عناصر من الدفاع المدني التابع للهيئة الصحية الإسلامية في استهداف مركزهم مباشرة في سحمر”.
اتّبع من بقيوا في سحمر تحت العدوان تقشّفًا غذائيًا يساعدهم على الصمود لأطول فترة ممكنة “كنا ناكل وجبة الصبح ووجبة بعد الضهر مأخر، حتى ما نتعشى”. تتركز الوجبات على المؤن بالدرجة الأولى، وما توفر من معلبات “كنت موّنت شوية معلبات ما بدها برادات وبتفتحي وبتاكلي ع السريع”. ساعد هذا النظام ميثم “صرت حس حالي خفيف الحركة، صرت إشرب مي أقل، لأنها ما كانت متوفرة كل الوقت، وكمان اختصرت الذهاب إلى الحمام، وخصوصًا بعد انقطاع المياه”.
أهالي يحمر يقرأون الفاتحة في مكان مشرف على المقبرة
أصل إلى يحمر، وتحديدًا إلى الطريق نحو ساحتها، فأرى صفًا من أفراد عائلات الشهداء وقد وقفوا على الطريق ووجوهم نحو المقبرة فاتحين أياديهم يقرأون سورة الفاتحة للشهداء والموتى في المقبرة. أركن سيارتي وأنضم إليهم أشاركهم الصلاة لأرواح من فقدوا. كانت المقبرة فارغة والدرجات الخمس التي تفصلها عن الطريق خالية من الصاعدين منها أو النازلين إليها، لكن شريطًا أحمر كان ما زال يحيط بالأرض حول بعض القبور. هنا، في المساحة المسيّجة بالشريط داخل المقبرة كان الجيش اللبناني قد فجّر يوم الخميس 28 تشرين الثاني، خمس قنابل عنقودية، وسادسة أمام باب حسينية البلدة وثلاث قنابل بالقرب من منزل، وثلاث أخرى أمام منزل ثانٍ. يتقيّد الأهالي في وقوفهم في مكان مشرف على المقبرة بتعليمات البلدية: “صلولهم من فوق، ممكن يكون بعد في عنقودي ع الشجر وبيوقع مع الهوا، أو تحت الأرض وخصوصًا من بعد ما نزل الشتي ويمكن طمر قنابل”.
هذا الكلام يؤكده عضو مجلس بلدية يحمر مبارك مبارك لـ “المفكرة”: “قلنا لهم ما ينزلوا ع كروم الزيتون قبل ما نتأكّد من خلوّ الأراضي من العنقودي”. يزوّد مبارك “المفكرة” بصورة قنبلة عنقودية اكتشفها الأهالي في مقبرة البلدة: “بعتناها للجيش اللبناني وأكد لنا أنها عنقودية”. قبل المقبرة، رأى أوّل الواصلين إلى ساحة البلدة قنبلة أخرى أمام حسينية يحمر، “تبيّن أنّها عنقودية أيضًا”، يؤكد مبارك. بعدها توجّه فوج الهندسة في الجيش اللبناني إلى يحمر وفجّر القنابل الظاهرة.
يلفت مبارك الذي رافق الجيش في أوّل عملية تفجير للعنقودي الذي استعملته إسرائيل في العدوان الحالي، أنّ فوج الهندسة فجّر القنبلة العنقودية على باب الحسينية وخمس قنابل أخرى بين القبور (في المقبرة) وثلاث قنابل أمام أحد المنازل وقنبلتين أمام بيت آخر.
جزء من مقبرة سحمر والشريط الذي كان يزنّر مكان القنابل العنقودية التي فجرها الجيش اللبناني
ونبّه الجيش بلدية يحمر والأهالي إلى ضرورة الحذر لأنّه قد يكون هناك قنابل عالقة في الأشجار وقد تقع عند هبوب ريح أو هواء قوي، بانتظار عودة فرقة لإجراء مسح شامل. وعمّمت البلدية على الأهالي ليس فقط عدم قطف حقول الزيتون، بل أيضًا تجنّب التجوّل في حواكير البيوت وحتى السيّر خارج الطرقات الإسمنتية والإسفلت. “يعني محبوسين، والأهم ممنوعين عن زيتوننا وعن الزراعات الشتوية التي تسند معيشة الناس”، يقول مختار يحمر سمير عباس لـ “المفكرة”.
تعرّضت يحمر للقصف في منطقة البيدر والحارة التحتانية وساحة البلدة وأطرافها مما أدى إلى استشهاد 16 من أبنائها. من بين هؤلاء 6 شهداء قضوا في مجزرة ارتكبتها إسرائيل على محطة وقود عند مدخل يحمر كانوا يتزوّدون بالبنزين. واستهدف الطيران الحربي منزل الحاجة مسعدة حمود، والدة زوجة المختار عباس التي استشهدت مع اثنين من أبنائها وحفيدها. واستشهد ستة آخرون في قصف متفرق.
“قتلت إسرائيل بيّي قبل 50 سنة وهلأ قتلت بيته”
عند المنعطف الذي يتفرّع إلى طريقين يقود الأيمن منه إلى قليا بعد يحمر، فيما تأخذنا الطريق اليسرى إلى لبايا، تقول سيدة كانت تساعد زوجها في ترتيب محله المبعثر نتيجة قصف منزل على بعد 500 متر عنه، إنّ آلية بوكلين قد قصدت بلدة لبايا للتوّ “قصفوا بيت قاضي فوق بآخر ساعة قبل وقف إطلاق النار”. فقرّرتُ قصد لبايا. عند منعطف على يمين مدرسة لبايا الرسمية التي تضرّرت جزئيًا نتيجة استهداف منزل عائلة القاضي، كما بيوت أخرى من حوله، تأخذني الطريق إلى مدخل المنزل المستهدف لأعرف لاحقًا أنّه منزل عائلة المحامي العام الاستئنافي في البقاع القاضي ياسر محمد مصطفى.
سألت أحد الجيران وكان يتفقّد المنزل الذي لم يبقَ منه شيء إن كان بإمكاني التقاط بعض الصور، فطلب مني التريّث وغاب عن نظري. لحظات ويأتي نحوي رجل خمسيني خرج من وراء الركام، هو القاضي مصطفى صاحب البيت. وسرعان ما نقل لي القاضي لوعته من الدمار الذي لحق بالمنزل الذي ورثه عن والده “الشهيد” الذي استهدفته إسرائيل في حقله عندما كانت البلدة محتلّة في الثمانينيات. ويضيف القاضي مصطفى أنّ أباه كان يعمل مياومًا في فلسطين، قبل نكبة احتلالها، وأنّه بنى هذا البيت القديم بيديه حجرًا فوق حجر وخلال سنوات. وفيما أنا أتحدث مع القاضي، ألمح امرأة تبدو كمن خرجت للتوّ من الركام، يغطّي غبار القصف الأسود ملابسها كلّها، فيما صُبِغت يداها من محاولتها انتشال بعض الأغراض باللون نفسه والغبار عينه. كانت هذه فاطمة مصطفى، شقيقة القاضي التي ولدت في هذا المنزل قبل 67 عامًا وما زالت تعيش فيه، ولا تعرف مكانًا غيره.
قبل أن أسأل فاطمة أيّ شيء، فاضتْ بالحديث كمن يحتاج لتفريغ هذا الانفعال الهائل الذي تعيشه وقد كانت قد وصلت من مكان نزوحها في طرابلس للتوّ. كانت فاطمة قد وضّبت بفرح أغراضها للعودة إلى لبايا والبيت مع شقيقها القاضي وعائلته حين أعلمها الأخير، وقد بكّرت النهوض، أنّ إسرائيل دمّرت المنزل.
فاطمة على أنقاض منزل عائلتها المدمّر في لبايا
تبدأ فاطمة من ثلاثة حجارة لا يقلّ طول كلّ منها، أو ما بقي منها، عن خمسين سنتمترًا بعرض 35-40 سنتمترًا: “هودي حملهم بيّي من محلّ بعيد بالضيعة. كانت أمي تساعده، تحط له اياهن ع ضهره ليطلع فيهم لهون”، تقول وهي تمسح على الحجارة بحنان غير آبهة ببقايا الرماد الأسود ورائحة الأسلحة المستعملة. بدأ البيت بغرفة صغيرة “حتى بالأوّل صاروا يناموا فيه أهلي بعد ما سقفوا الغرفة بكم لوح خشب”. ومن عمله في فلسطين يوميًا صار البيت يكبر ليضمّ العائلة الصغيرة يومها قبل 73 عامًا.
بسرعة، وبين غصّة باكية وأخرى، تنتقل فاطمة في حكايتها من مشهد إلى آخر مع حركة يديها التي لا تتوقّف وكأنّ لسانها يعجز وحده عن التعبير عن مكنوناتها وقهرها. لا تأبه بترك مصاغها وبعض الأشياء الثمينة، وحتى المال في البيت. هي لا تتحدث إلّا عن البيت نفسه: “هيدا بيت العيلة، هون خلقنا كلّنا، ع البيت جبنا بيّي وقت قتلته إسرائيل، هون ماتت أمي… هون ريحة أهلي. هون تعبهم وشقاهم حتى علّموا أخوتي وخصّصوهم.. هون كان بيي ما يجدد حتى يترك المصاري ليتعلّموا أولاده”. وهنا في البيت المدمّر، ارتاحت فاطمة بعض الشيء لأنّها عثرت على شروال والدها الأسود وقد احتفظت به العائلة كما تركه “كلساته السود بجيبة الشروال اليمين”، تقول وهي تفلش الشروال أمامي وتُخرج منه، بعد كل هذه السنوات، جوز الكلسات وتضمّه إلى قلبها. بالقرب من كيس قماش وضعت فيه الشروال، تركض فاطمة نحو حجر آخر وعليه بعض الأمتعة. تحمل منديلًا نسائيًا مطويًا بعناية: “والحمدالله لقيت مناديل أمي لي اشترالها اياهن أخي قبل وفاتها بأسبوع، شوفي شوفي هيدا أوّل منديل”. وتفتح المنديل قبل أن تبدأ بتقبيله وبالبكاء: “والله توجّعوا مناديلك يا أمي، والله خافوا من القصف يا أمي، بس الحمدالله لقيتهم”. تواظب فاطمة منذ وفاة والدتها قبل نحو ثلاثين عامًا على غسل المناديل كل عام وتشميسها ومن ثم إعادتها مرتّبة إلى مكانها. بعد المناديل والشروال اللذين وضعتهما عند مدخل البيت، تصعد فاطمة الدرجات نحو الركام مجددًا وأنا أتبعها إلى أن تصل إلى فرشتين بقرهما القصف فخرج منهما الصوف: “هودي عاملتهم أمي من صوف غنماتها، كانت تقصّ الصوف وتغسله لتعمل فرشات حت تنيّمنا عليهم أنا وأخوتي”. لاحقًا عندما كبر الأبناء وتعلّموا، كما أراد محمد مصطفى وزوجته، لم يتخلّوا عن فرش الصوف: “هودي من ريحة أمي وبيّي ما منتركهم”.
وكانت فاطمة حين وصلت إلى ركام البيت وجدت ابن الجيران قد عثر على مرطبان لبنة مكعزلة وآخر يحتوي على مكدوس الباذنجان. تمسح فاطمة الغبار عن مرطبان اللبنة بيدها: “كنت عاملة 17 مرطبان لبنة مونة الشتوية، هيدا بس بقي صاغ، ما رح ناكله بدنا نتركه ذكرى من البيت”.
تعود فاطمة وتنزل درج البيت إلى مدخله مسرعةً حيث رُكنت سيارة دمّر الطيران الإسرائيلي جزءًا منها: “هيدي كانت سيارة الصغير المدلل، (تقصد القاضي شقيقها) وعطاني اياها”. عاندت بداية تعلّم القيادة: “قلت له العلم ع كبر ما بينفع، بس هو ما قبل، قلّي بدك تسوقيها”. تحوّلت السيارة إلى سيارة “الجمعية”: “سوقها ع مهلي وإرجع ع مهلي ما عملت ولا حادث الحمدالله”. صارت تذهب بها مع أخواتها إلى “الحقلة، ونركب أنا وإياهن وأولادهن فيها ونروح، وهلأ ضربتها إسرائيل”. لكنها، وهي تنفض غبار القصف ورائحته عنها، تبدأ فاطمة بالضرب على سيارتها بكفها وهي تسألني: “بتعرفي ليش بحبها وما بتخلى عنها؟” ثم تجيب نفسها “كانت أمي تعرف هديرها من بعيد وتقلّي إجا ياسر، ويطلع ياسر جايي عن جدّ، صوتها يذكرني بأمي”.
من كاراج السيارة تقفز فاظمة نحو المدخل العلوي للمنزل: “شوفي هيدا كعب الأرزة لكان طولها تلاتين متر، صارت هلأ شي عشر شقف”. كانت الأرزة التي تحرس مدخل المنزل “تكبر شي 30 سنتيمتر بالسنة عكس بقية الأرز لي بينما 5 سنتيمرات في السنة بس، كانت حلوة متل البيت، وراحت معه”.
تقول فاطمة إنّها وأخوتها سيبنون البيت من جديد “بس ما رح يكون البيت القديم لي بنوه أهلي، قتلت إسرائيل بيّي قبل خمسين سنة وهلأ قتلت بيته لي تركلنا ايّاه، شو إلها معنا إسرائيل؟ ما خلّت عين ما بكّتها”.
محاولة رفع الركام عند مدخل سحمر
عنقودي في خراج زلايا..وفرحة العودة إلى الزيتون
بقدر ما يُفرح إقبال أهالي بلدة زلايا على قطاف الزيتون نائب رئيس بلديتها كريم حسين اليوسف، يحزنه الدمار الذي لحق بها، كما القنابل العنقودية التي قصفتها إسرائيل في خراج القرية على مجرى نهر الليطاني: “تأكدنا إنّه في عنقودي بالأرض لي ع النهر”. تمتد الأرض “لي عالنهر” 3 كيلومترات طولًا بين يحمر وزلايا ومثلها بين الأخيرة وقليا، وبعرض كيلومتر “وهيدي المنطقة لوثتها إسرائيل كمان بالعنقودي بعدوان 2006، ونضّفناها بس السنة الماضية انفجرت قنبلة بقطيع راعي وقتلت له عنزة”. ورغم ذلك يشكر اليوسف، الله لأنّ قصف العنقودي لم يطل منطقة الزيتون: “الحمدالله ما عنّا عنقودي بقلب الضيعة ولا بحقول الزيتون، وهيدا سمح للناس ترجع تنقذ ولو مونتها من الزيت، نحن ما معوّدين نشتري زيت زيتون، ما منحب إلّا زيتاتنا”.
عاد اليوسف، كما كثر من أبناء زلايا ليجد منزله متضرّرًا بشدة “دمّروا بيت ابن عمي حدّي وبيتي كتير تضرّر”. يسكن حاليًا في منزل ابن شقيقته ريثما يتمّ الكشف على منزله ومعرفة ما إذا ما كان يمكن ترميمه أم لا: “الناس عم ترجع لعند أقاربها أو إذا في شي بيت فاضي بيسكنوا فيه، عنّا عيلة فقدت بيتها وسكّناهم ببيت أختي لي قاعد أنا وعيلتي مع ابنها وعيلته، وفي ناس بقيت مستأجرة”.
وسط الدمار في زلايا تسعى البلدية، وفق اليوسف لإصلاح شبكتي المياه والكهرباء “الناس ما بتقدر تقعد بلا كهربا وبلا مي، وشوي شوي عم نرجّع الخدمات ع حي ورا حي”.
يقول نائب رئيس بلدية زلايا إنّ إسرائيل استهدفت بيتًا استشهد فيه ثلاثة من أبناء البلدة في 23 أيلول: “فطلبنا من العائلات المغادرة مع أطفالها، وفلّت الناس”. مع العائلات نزح رعاة زلايا بقطعانهم نحو أراضي كفرمشكي وكوكبا في قضاء راشيا.
المغتربون ينجدون قليا
يتحدّث حسن نايف ملحم، ابن بلدة قليا، وهي آخر بلدات البقاع الغربي على حدود أولى قرى الجنوب في قضاء حاصبيا، ليس فقط عن العدوان الإسرائيلي على البشر بل أيضًا على أرزاق الناس. يملك حسن مع أخوته أكثر من 500 رأس ماعز. بعد الإنذار الإسرائيلي على البقاع لم يكن ممكنًا للأخوة ملحم النزوح بقطعانهم، فبقُوا في قليا. جاء الطيّران الحربي الإسرائيلي واستهدف منازلهم فيما كان معظمهم قد خرج لتفقّد المواشي والاهتمام بها. استشهدت زوجة حسن وكذلك ابن أخيه. عندها قررت العائلة، وبعد دفن شهيديها النزوح. ساقوا قطعانَهم تحت القصف إلى مجدل عنجر حيث باعوها بـ “الرخص”. يُقدّر ثمن رأس الماعز الحلّابة أكثر من 250 دولارًا في هذا الوقت من السنة: “معزاياتي كتير غاليين وبعت الراس بـ 90 دولار، وأخوتي باعوا بسبعين، راح رزقنا وتعب عمرنا ع الفاضي”.
مع وقف إطلاق النار، عاد حسن إلى اللامكان: “بجي بصف البيك آب قدام بيتي المهدم وبقعد”. يقول إنه يشعر اليوم وكأنه “زغلول عصفور” أي ذاك الطائر الصغير الذي نبت ريشه للتو في العش، وعليه أن يتعلم الطيران ليبدأ من الصفر: “كل شي بنيته خسرته وخسرت زوجتي وكمان ابن أخي، إسرائيل دمرت حياتي ورزقي وقتلت زوجتي”. وكما زوجة حسن وابن أخيه، استشهد في قليا أيضًا صاحب قطيع ماعز مع ابنته، وهي طالبة في الثالث ثانوي تتحضر لدخول الجامعة، وبقيت مع والدها لمساعدته.
يقول رئيس بلدية قليا مهيب عبدالله إنّ إسرائيل استهدفت بشكل مباشر 40 وحدة سكنية وسوّتها أرضًا. مع كل استهداف، تضرّر نحو 15 وحدة سكنية أو تجارية في محيطه. طال الاستهداف المباشر مستوصف البلدة ومكتبتها العامة وعناصر من الدفاع المدني التابع للهيئة الصحية الإسلامية حيث استشهد ثلاثة من بينهم ودمرت إسرائيل سيارتهم. مع هؤلاء استهدف الطيران الحربي معملًا لأدوات التنظيف فاستشهد صاحبه مع ابنه الذي لم يتجاوز الـ 15 عامًا، وكان لاعب كرة قدم مميز في البلدة، وذلك في 23 أيلول الماضي. كان الرجل مغتربًا في البرازيل وقرر العودة للعيش مع عائلته في بلدته قليا. بعد استشهاده مع ابنه، غادر من تبقى من الأسرة إلى البرازيل مجددًا.
من مشهد إقبال أهالي البلدة على قطف زيتونهم، يعرف عبدالله أنّ الناس لا تترك أرضها: “حتى المغتربين معلّقين بالضيعة كتير”. تميّزت قليا في ثالث يوم على وقف إطلاق النار بإنجاز معظم ورش تأهيل شبكة المياه والكهرباء وطبعًا رفع الركام من الطرقات: “كله بتمويل من المغتربين”، يؤكد عبدالله. تتمتّع قليا بجالية مغتربة في البرازيل والعديد منهم متموّل ولديه أعمال هناك: “ساعدوا النازحين عن البلدة في أماكن نزوحهم. حتى أنّهم كانوا يشترون مواد غذائية وكل ما يحتاجه الصامدون في قليا ويرسلونه إلينا عندما يتمكنون إدخاله في ظل العدوان. قدّم المغتربون أيضًا منازلهم لإسكان من دمرت إسرائيل بيوتهم أو لمن تضررت مطارحهم بانتظار ترميمها “كل يوم بيسألوني شو محتاجة الضيعة؟ شو محتاجين الناس”، يقول عبدالله.
من قطف الزيتون في قليا
ويحمد رئيس بلدية قليا الله على نجاة قليا من القصف العنقودي: “مسحنا كبلدية الأراضي وبين البيوت وحتى أرضنا ل ع النهر خالية من العنقودي، عنا 10 استراحات بين مقاهي ومطاعم ع الليطاني كلها آمنة وزيتوننا آمن أيضًا”.
النصف الممتلئ من الكأس المرّ
يرسم ابن قليا، ومعتمد منطقة البقاع الجنوبي الثانية في الحزب التقدمي الاشتراكي رأفت ناصر، خريطة نزوح أهالي المنطقة: “فتحت بلدات البقاع الغربي من القرعون إلى جب جنين ومحيطهما وصولًا إلى المرج، بيوتها للأهالي من النازحين، كما بلدات وقرى قضاء راشيا”. ساهم هذا التعاضد، الأهلي في إعادة العلاقات القديمة بين ناس المناطق والتي كانت الأجواء التي تبعت اغتيال الرئيس رفيق الحريري قد أثّرت عليها سلبًا: “الناس بكل المناطق فتحت بيوتها، وطبعًا في جزء كبير استأجر”. وصل توزّع نازحي البقاع الغربي إلى الإقليم والشوف أيضًا: “وساهمنا كوكالة داخليّة في الحزب بتأمين منازل مجانية، وكذلك مساعدات للنازحين في كل مناطق نزوح من تهجّروا تحت النار”.
ووصلت عائلات من لبايا وقليا وسحمر ويحمر وميدون إلى عكار وطرابلس. حتى الذين استأجروا في القرعون والبلدات الآمنة في البقاع الغربي وراشيا، “ممتنّين للناس من مناطقهم إلى عكار وطرابلس، وخصوصًا لأن أهالي المناطق التي نزحوا إليها لم يخافوا منهم بعد موجة استهداف النازحين في أماكن نزوحهم: “حاولت إسرائيل أن تخيف الناس منّا، وألّا تترك لنا مكانًا آمنًا” يقول مختار يحمر سمير عباس “بس الناس غمرتنا بأفضالها وما سمعنا كلمة تزعجنا، إلى أن عاد من تمكّن من العودة وفقًا لوضع منزله”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.