في عددها رقم 59 الصادر في نيسان 2019 المخصص لعرض مجمل الأعمال والمستجدات القانونية والحقوقية خلال سنة 2018، نشرنا تعليقات على أبرز القوانين الصادرة خلال هذه السنة. ومن بين القوانين التي تناولناها في هذا السياق قانون حماية كاشفي الفساد (المحرر).
يأتي هذا القانون ضمن مجموعة من اقتراحات القوانين التي تم تقديمها تحت عنوان مكافحة الفساد. وتشمل هذه المجموعة اقتراحات تم إقرارها كاقتراح قانون حق الوصول الى المعلومات الذي تم إقراره بتاريخ 20/2/2017 وأخرى ما تزال قيد النقاش، أبرزها اقتراح قانون لمكافحة الفساد في القطاع العام والذي يفترض أن تنشأ بموجبه هيئة مستقلة لمكافحة الفساد، فضلا عن اقتراح قانون بتعديل قانون الإثراء غير المشروع. وكان تم تقديم هذا الاقتراح من قبل 8 نواب من ممثلي أبرز الكتل النيابية، وهم: عماد الحوت وآلان عون وجوزف معلوف وغسان مخيبر وياسين جابر ووليد خوري وزياد القادري وعلي فياض، بتاريخ 24\6\2010. وقد أنجزت العمل عليه لجنة الإدارة والعدل في عام 2015.
أهداف
يستند هذا الاقتراح إلى المادة 33 من اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد المتعلقة بحماية المبلغين وهو يهدف إلى تحقيق الأهداف الآتية:
-تحفيز الأشخاص الذين لديهم معطيات حول أعمال فساد في الخدمة العامة بالبوح بها وذلك من خلال ضمان حمايتهم من أي إجراء قد يتخذ بحقهم وأيضا من خلال فتح المجال لمنح مكافآت ومساعدات لكاشفي الفساد،
-فعالية الملاحقة بحيث أعطيت “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد” (التي لم تنشأ بعد ونعرفها أدناه اختصارا بالهيئة) صلاحيات شبيهة بصلاحيات النيابة العامة بتحريك الدعوى العامة بعد إجراء الاستقصاءات والتحقيقات المناسبة. ويؤمل من ذلك أن تتوفر لدى الأجهزة المعنية معطيات كافية لردع الفساد وملاحقته.
هذا مع العلم أنّ القانون رسم لذاته حدودا قوامها أن تقتصر الحماية المضمونة على الذين يكشفون الفساد للهيئة بمعنى أن الكشف المحمي بهذا القانون هو الذي يتم ضمن الضوابط والقنوات الرسمية فقط. أما فيما عدا ذلك (أي بما يتصل بكشف الفساد خارج هذه القنوات)، فقد اقتصر القانون على التذكير بالمادة 387 من قانون العقوبات التي تبرئ مرتكب الذم من أي عقاب إذا كان موضوع الذم عملا ذا علاقة بالوظيفة وثبتت صحته.
مضمون
ومن أبرز ما تضمنه هذا القانون تعريف الفساد بأنه “استغلال الموظف للسلطة أو العمل بهدف تحقيق مكاسب أو منافع غير متوجبة قانوناً. وقد أعطى الإقتراح للموظف تعريفاً واسعاً للموظف يشمل عملياً كلّ من يؤدي وظيفة عامة أو خدمة عامة أو عملا يؤدّى لصالح ملك عام أو منشأة عامة أو مرفق عام أو مؤسسة عامة أو مصلحة عامة، سواء تولاها بصورة قانونية أو واقعية”.
إضافة إلى ذلك، أوجد القانون منظومة من التدابير والضمانات التي تقرر لكاشف الفساد وذلك من أجل حمايته من جهة ومن أجل تحفيزه على كشف الفساد من جهة أخرى. ففيما يتعلق بالحماية، نصت المادة 8 فقرة أ من القانون على أن لـ”الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد” (وهي هيئة لم تنشأ بعد) أن تتخّذ قرار الحماية عفواً أو بناءً على طلب كاشف الفساد. وتجدر الإشارة إلى أن القانون تضمّن حماية الكاشف من الأضرار الوظيفية في حال كان موظفا والأضرار غير الوظيفية كالتعرّض للكاشف أو لأحد أفراد عائلته أو لأحد العاملين لديه، بسبب تقدّمه بالكشف، وما قد يحصل في حال تعرضه لضغوطات أو إجراءات ثأرية أو تهديدات. وللهيئة أن تطلب من النيابة العامة أو القوى الأمنية المختصة اتّخاذ الإجراءات الأمنية المناسبة لحماية الكاشف وأحد أفراد عائلته والعاملين لديه أو الخبراء والشهود. ويضع الإقتراح على عاتق النيابة العامة والقوى الأمنية في هذه الحالة وجوب الإستجابة لطلب الهيئة فور استلامه.
أما بخصوص الضمانات الممنوحة لكاشفي الفساد، فهي تشمل إلى جانب السرية الذي أقّره القانون في ما يتعلق بهويّة هذا الأخير، إمكانية منحه مكافآت أو مساعدات في حال أدى الكشف إلى حصول الإدارة على مبالغ أو مكاسب مادية، مثل تحصيل الغرامات واستعادة الأموال، أو إلى تجنيب الإدارة خسارة أو ضررا ماديا.
كما تم منح كاشف الفساد عذرا مخففا أو عذرا محلا في بعض الحالات.
مواضيع النقاش والخلاف
تمت مناقشة هذا القانون في الهيئة العامة بتاريخ 24\9\2018 تحت عنوان تشريع الضرورة حيث هدفت هذه الجلسة إلى إقرار قوانين التي يتطلبها مؤتمر سيدر. وقد تحدث خلال الجلسة 26 نائبا منهم رئيس الحكومة ووزير المالية إلى جانب وزيري العدل سليم جريصاتي والدولة لمكافحة الفساد نقولا تويني. ومن أبرز نقاط النقاش بين النواب التي دارت خلال الجلسة:
أولا، التذكير بأن تفعيل هذا القانون يبقى وقفا على إصدار قانون آخر وهو قانون مكافحة الفساد في القطاع العام والذي يفترض أن يتم بموجبه إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وقد ذكر وزير الدولة لمكافحة الفساد بأن هذا القانون هو أمّ القوانين وأمّ منظومة مكافحة الفساد.
ثانيا، مدى وجوب الإعلان عن إسم كاشف الفساد، بعدما تبين من نص الاقتراح أنه يتعين على كاشف الفساد تضمين كتاب المعلومات المكشوف عنها اسمه الكامل ونشاطه المهني وعنوانه ورقم هاتفه. وقد أثار هذه المسألة النائب جميل السيد معلنا منذ بدء حديثه أنه يبدي هذه الملاحظات من “منطلق خبرته السابقة كلواء. فبالنهاية، كاشف الفساد هو مخبر وكلامه قد يؤدي إلى خراب بيت الفاسد وتاليا إلى انعكاسات ستطال حياته. فأن يطلب من الكاشف أن يكشف عن اسمه الكامل فذلك يعني أنه يحكم عليه تلقائيا بالإعدام. فالكشف عن هذا الاسم يتم تداوله أمام “هيئة طويلة عريضة” بحيث تصبح أي حماية قانونية غير نافعة. فيما أيد عدد من النواب منهم الان عون وسامي الجميل ونقولا صحناوي هذا الطرح، نبّه النائب علي فياض إلى أنّ إعفاء الكاشف من كشف اسمه يؤدي إلى الإكثار من الإخبارات المدسوسة وأنّ حماية السرية مضمونة في القانون بموجب المادة 6 منه التي تحظر على الهيئة الإفصاح عن اسم الكاشف من دون موافقته المسبقة. وقد بدا لافتا تمسك عدد من نواب كتلة الوفاء للمقاومة بضرورة إعلام الكاشف عن اسمه. وإزاء تصريح الرئيس بري بأن الكشف عن هوية الشاهد قد يعرضه للخطر، علق نواف الموسوي قائلاً:”انتو قلتوا هذا القانون قانون حماية كاشفي الفساد”. وهو يقصد أن القانون يعلن فشله في حال كانت الحماية القانونية أضعف من الحماية الواقعية لكاشفي الفساد. كما أشار النائب سيمون أبي رميا إلى أنّ التخوف من فضح كاشف الفساد من قبل الهيئة يؤدي عمليا إلى التشكيك بها قبل تأليفها وهو يعني ضمنا التشكيك بأساس هذا القانون وقدرته على حماية كاشفي الفساد فعلا.
وقد انتهى هذا النقاش إلى الاتفاق على إبقاء النص كما هو أي أن يعلن الكاشف عن اسمه وعنوانه، على أن تضمن الهيئة الحفاظ على سريته مع إجراء تعديل واحد لجهة أن لا تضّمن الهيئة اسم كاشف الفساد ضمن لائحة الشهود إلا بموافقته.
ثالثا، مدى فعالية الحوافز الممنوحة لكاشف الفساد بموجب هذا القانون بالمادة العاشرة من الاقتراح التي تتناول الأعذار المحلة والمخففة لكاشفي الفساد. وقد تفرعت هذه المسألة إلى إثنتين:
بالمقابل، عارضه النائب الان عون معتبرا أن لتحفيز كاشف الفساد حدود: “فهل يعقل لكاشف فساد بمبلغ مليون دولار وبمجرد التصريح به أن يبقيه معه؟” وقد أصّر عون على وجوب وضع سقف معين لمحافظة كاشف الفساد على المنفعة وأن يكون مشروطا. وقد أردف النائب علي فياض أن لكل قانون أعراض وسلبيات ونحن مهمتنا الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات، وهو يقصد على الأرجح من ذلك أنّ التحفيز على كشف الفساد لا بد أن تتم موازنته بوجوب ردع الفساد وعدم السماح لمرتكب الفساد بالاحتفاظ بالمنفعة بمجرد الكشف عنه.
وقد جرى نقاش في هذا الخصوص حول مدى تورط كاشف الفساد به فقد رأى النائب آلان عون وجوب التمييز بين الراشي والمرتشي بحيث أن روحية النص تذهب في هذا الاتجاه بمعنى أنه يكون الأثر مختلفا إذا كان الشخص هو بالأساس فاسد. وقذ ذهب النائب فياض في الاتجاه نفسه حيث رأى وجوب التمييز بين من قام بالفساد ومن شارك به من ضمن مجموعة بحيث يكون فقط لهذا الأخير أن يستفيد من العذر المحل. وفي الاتجاه نفسه ذهب النائب السيد الذي رأى وجوب حصر العذر المحل بمن تبين التحقيقات أنه لم يكن مبادرا إلى الفساد. إلا أنه بعد نقاش طويل، انتهت غالبية النواب إلى تأييد موقف وزير العدل، نظرا لأهمية التحفيز وبحجة أن الخطورة لا تكمن بالفاسد إنما أيضا بالمفسد.
وعليه انتهى النواب إلى المصادقة على اقتراح القانون بعد اجراء تعديلات طفيفة عليه أهمها عدم ذكر اسم كاشف الفساد كشاهد إلا بموافقته، إضافة إلى إمكانية التقدم بالمعلومات الكاشفة للفساد بواسطة أية وسيلة من دون إشتراط أن تكون هذه الوسيلة خطية مثلما كان يشير النص الذي أقرته لجنة الإدارة والعدل. وقد تم التصويت بالمناداة بعد ما سجل النائب جميل السيد وحده الاعتراض على هذا القانون.
ملاحظات:
القانون يستدعي عددا من الملاحظات:
أولا، أن نفاذه يبقى معلقا على إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التي ما يزال إنشاؤها ينتظر إقرار اقتراح قانون آخر هو اقتراح قانون مكافحة الفساد في القطاع العام. ويذكر أن قانون حق الوصول للمعلومات أيضا أعطى هذه الهيئة غير الموجودة صلاحية النظر في الطعون المقدمة ضد قرارات رفض إعطاء المعلومات،
ثانيا، إنه ينطبق فقط في حال تم كشف المعلومات التي يعتقد أنها تتعلق بالفساد أمام “الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد”. وتبعاً لذلك، هو يُبقي خارج إطار هذا القانون فئاتٍ عدة من كاشفي الفساد، وفي مقدمتهم العاملين في الإعلام الاستقصائيّ، وبشكل أعمّ الذين يدلون بمعلومات عن الفساد أمام مراجع قضائيّة وإعلاميّة، حتى ولو لجأوا في موازاة ذلك أو في وقت لاحق إلى الهيئة.
ومن هذه الزاوية، يبدو القانون غير كافٍ لمكافحة الفساد، ولا سيّما في ظلّ مواد قانوني العقوبات والمطبوعات الحاليين، التي تبقى غير ملائمة. فماذا إذا أهملت “الهيئة الوطنيّة” المعلومات المسلّمة إليها أو تعاملت معها بشكل غير جديّ، كما يحصل حاليّا مع العديد من هيئات الرقابة العاملة في لبنان؟ هل يتعيّن إذ ذاك على كاشف الفساد أن يصمت على أساس أنّ أيّ كشف للفساد خارج هذه الهيئة لا يدخل ضمن الحماية القانونية؟ ثم، ماذا إذا استشعر كاشف الفساد ضرورة الكشف سريعاً عن الفساد لتنبيه الرأي العامّ على وجود مخاطر معينة؟ وفيما يُمكن تفهّم أن يتمّ اللجوء إلى الهيئة للإستفادة من بعض تدابير الحماية كالحصول على مكافآت أو تعويضات، لا يمكن بالمقابل فهم الأسباب التي تشترط أن يتم اللجوء إليها حصراً. ومن هنا، يبدو حصر الحماية بحالات كشف الفساد للهيئة وفقط للهيئة، وكأنه يبتعد إلى حدّ ما عن الغاية التي انوجد القانون من أجلها. وأكثر ما يُخشى هو أن يُفسر القانون وفق منطق الإستدلال العكسيّ، على أن أي كشف عن الفساد أمام مرجع آخر من دون المرور بالهيئة يشكّل خروجاً عن المسار المحدّد في القانون ولا يستفيد إذاً من أيّ حماية. في قراءةٍ مماثلة للنصّ، نصبح أمام قانون يهدف إلى تقنين الكشف عن الفساد أكثر مما يهدف إلى حماية المبادرين إليه. وقد يصل هذا التقنين إلى حدود المنع في حال تمّ إخضاع تعيين أعضاء الهيئة المراد إنشاؤها لقواعد المحاصصة والمحاباة.
ثالثا، أن أخطر ما في هذا القانون هو إمكانية إسقاط الحماية المعطاة لكاشف الفساد في حال تبين للهيئة انتفاء الرابطة السببية بين الضرر الوظيفي الحاصل لكاشف الفساد وقيام طالب الحماية بكشفه. لا بل أن الإقتراح يذهب أبعد من ذلك بحيث يسقط السرية عن هوية الكاشف والمعلومات التي يدلي بها، في حال تبين للهيئة أن طلب الحماية قد تم افتراءً أو عن طريق الغش او باختلاق مستندات أو وقائع. والإشكالية الأساسية هنا تتأتّى من التأثير السلبيّ لمواد مماثلة على استعداد الأشخاص في كشف الفساد، ولا سيما في ظل تراجع منسوب الثقة بالمؤسسات العامة.
رابعا، يلحظ أيضا أن القانون ألغى تضمين تعريف الفساد أيّ إشارة إلى الفساد الحاصل في القطاع الخاصّ. كما أن القانون خلا من أيّ تفصيل لهذا التعريف أو تعداد للأفعال التي يشملها الفساد. وفيما أن لهذا الأمر حسناته لجهة إبقاء المجال مفتوحاً للتوسع في تعريفه، فإنه يخشى في الوقت نفسه أن تفسر الهيئة أو القضاء مفهوم الفساد بشكلٍ ضيّق. ولربما الإتّجاه الثاني هو الأكثر رجحاناً في ظل الخلل الحاصل في النظام السياسي، وضعف استقلالية القضاء، وتعدد ارتباطاته بالمصالح السياسية.
خامسا، أن نجاح هذا القانون يبقى مرتبطا بثقة العامة بانتظام العمل المؤسساتي. فلا يعقل أن يجد طريقه إلى التنفيذ بشكل واسع في حال غلب الخوف من الانتقام (من دون رادع) على الضمانات التي بإمكان هذا القانون أن يوفرها.
- نشر هذا المقال في العدد | 59 | نيسان 2019، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
لمن القانون في لبنان؟