صَادقَ مجلس نوّاب الشّعب، في 21 ماي الفائت، على القانون المُتعلّق بتنظيم عُقود الشّغل ومَنع المناولة. أحدَثَ هذا القانون تنقيحَات في مجلّة الشّغل بخصوص إعادة تنظيم العلاقات الشغليّة. مَثَّلَ القانون أداة دعائيّة سلطويّة لـ”منظومة 25 جويلية” تحت شعار: “الدّولة الاجتماعيّة العادلة والمنحازة للعمّال”، بل أكثر من ذلك تمّ توصيفه على أنّه “حالة ثوريّة استثنائيّة” تُبشّر بانقلاب الوضع الاقتصادي للعمّال.
ضمن هذا السياق، استُعمِلَ القانون المذكور من قبل المساندين للسّلطة القائمة كآليّة فرز بين المنتصرين لحقوق العمّال (المدافعين على القانون) والمُعادين لها (المنتقدون للقانون). وهكذا تَمَّ سحب نصّ القانون من مجال إمكانيّة التّداول الموضوعي والعقلاني إلى مجال مُكثّف من التجييش السياسي، ومن الانفعالات التي شَوّهَت النّقاش حول قضايا إقتصاديّة تهمّ بنية المجتمع. بل تَمّ ترسيخ اعتقادات خاطئة بشأن هذا القانون، في انسجام مع خاصيّة الشعبويّة بوصفها “خطّة لإثارة الأهواء والمشاعر”[1] تُهَمِّش وتُبَسّط الواقع المَادّي المُعقّد.
تنقيحات مَفتوحة على التّأويل
تتعلّق التّنقيحات التي أُدخِلت على مجلّة الشّغل بِتنظيم عقود الشّغل ومَنع المناولة. في الجانب المتعلّق بإعادة تنظيم عقود الشّغل وَقَعَ التّنصيص على التخلّي على صيغة العقود محدّدة المدّة والإبقاء فقط على العقود المبرمة لمدّة غير معيّنة. غير أنّ نصّ القانون حَافظَ على بعض الاستثناءات الموجودة في المجلّة، والتي يمكن من خلالها إبرام العقود لمدّة معيّنة، تتمثّل في”القيام بأعمال استوجَبَتها زيادة غير عادية في حجم الخدمات أو الأشغال أو التعويض الوقتي لأجير قار متغيب أو توقَّفَ تنفيذ عقد شغله أو القيام بأعمال موسمية، أو بأنشطة أخرى لا يمكن حسب العُرف أو بحكم طبيعتها اللجوء فيها الى عقود لمدة غير معينة”. تبدو هذه الاستثناءات فضفاضة وقابلة للتّأويل، بخاصّة وقد علّمتنا التّجربة في تونس أنّ الاستثناء يتحوّل إلى قاعدة لكونه مدخلا لكلّ التّجاوزات، مثل الارتكاز على “زيادة الإنتاج” لتشريع العُقود محدودة الزّمن. ومن المعلوم أنّ جميع الشّركات تشهد أوقات ذروة في الطّلب لتغطِيَة السّوق المحليّة في المناسبات الاستهلاكيّة، أو لتلبية حاجيات السّوق العالميّة بالنّسبة للشّركات المصدّرة كليّا أو جزئيّا، وهو ما يشير إلى أنّ هذا العنصر سيكون مدخلا محتملا لمواصلة الالتجاء إلى العقود المحدّدة.
في السّياق نفسه اعتمد النصّ القانوني الجديد على العلاقات الشغليّة المؤقّتة في النّشاطات الموسميّة، ويبدو أنّه يُقصَد بذلك أساسا مجالي الفلاحة والسّياحة. أمّا فيما يتعلّق بالأنشطة الاقتصاديّة المرتبطة التي صنّفها القانون في خانة “العُرف”؛ على الأرجح تَعني بالأساس قطاع البناء والأشغال. إنّ السّؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ لماذا لم يحدّد المشرّع القطاعات المعنيّة بوضوح، وإنّما حَافظَ على نفس الصّيغ القديمة المبهمة في مجلّة الشّغل. ومن المعلوم أنّ القطاعات المذكورة تُعدّ الأكثر اتّسَامًا بالهشاشة والتّهميش، حيث يُشكّل فيها العمّال خزّانا من العاطلين الذين يُمارسون العمل المأجور بشكل موسميّ ويرزخون تحت “قابليّة الاستبدال” الدّائمة. وتُفرز العمالة المؤقّتة هشاشة مضاعفة تعود إلى ضعف التنظيم النّقابي وضعف الالتزامات المحمولة على المُؤجِّر. بناء على ذلك حافظ النصّ القانوني الجديد على الوضعيّة الشغليّة الهشّة والغير مسقّفة زمنيّا بالنّسبة للعَملَة الموسميّين.
النّقطة الأخيرة التي أتى بها التّنقيح في مجال عقود العمل؛ هي توحيد مدّة فترة التّجربة في 6 أشهر قابلة للتّمديد مرّة واحدة بنفس المدّة، بعد أن كانت تختلف بين القطاعات والأصناف المهنيّة. ومع ذلك حَافظَ المشرّع على مدّة تجربة طويلة (سنة باعتبار التّمديد) يمكن أن يستغلّها المؤجّر لاستبدال العمّال بشكل متواصل في إطار عقود مؤقّتة للتّجربة، بخاصّة في ظلّ عدم وضوح الاستثناءات التي تَمَّ التّنصيص عليها لإبرام العقود المحدّدة زمنيّا.
أما في مجال المناولة، والتي مَثّلَت محور البروباغاندا حول القانون، فإن القانون مَنَعَ بشكل صريح مناولة اليد العاملة وجَرّمهَا. وقد عَرّفَهَا: “تُعّد مناولة لليد العاملة كلّ العقود أو الاتّفاقات المبرمة بين مؤسسة مؤجّرة لليد العاملة ومؤسسة مستفيدة يتمّ بمقتضاها إجارة اليد العاملة ووضعها من المؤسسة المؤجّرة على ذمة المؤسسة المستفيدة”. بهذا المعنى تمّ إلغاء الوسيط بين الأجير والمؤَجِّر. في هذا السياق تمّ إعتبار نشاطي الحراسة والتّنظيف مناولة يد عاملة، بما يحيل إلى أنّه تمّ منع تكوين شركات لتأجير قوّة العمل في المجالين المذكورين. لكن في المقابل فَسحَ القانون المجال لإبرام عقد في إسداء الخدمات والأشغال بين “مؤسّسة مستفيدة” و”مؤسّسة مُسدية”. وعرّف القانون إسداء الخدمات أو القيام بأشغال على أنّها تقديم خدمات أو أشغال تتطلب معارف مهنيّة أو تخصّصا فنيّا لفائدة المؤسّسة المستفيدة بشرط ألا ترتبط بالنّشاط الأساسي والدّائم للمؤسّسَة، وألاّ يكون العمّال المستخدمون تحت إدارة المؤسسة المستفيدة ومراقبتها، على نحو يُتيح مناولة العمل ويَمنَع مناولة اليد العاملة. وبصورة أدقّ يُمكِن لشركة ما تفويض جزء من إنتاجها أو أعمالا مرتبطة بها لشركة ثانية مستقلّة إداريّا وتنظيميّا، وتكون الشّركة المتعاقدة هي المسؤولة على ظروف عمل أعوانها. أمّا مناولة اليد العاملة فتتمثّل في تأجير العمّال لشركة أخرى للقيام بوظائف تخصّ النّشاط الأصلي أو التّكميلي للشّركة المعنيّة دون أن تكون لها أيّة مسؤوليّة تجاه العمّال الذين وُضِعُوا تحت إشرافها، فيما يحقّق المقاول فائضا ريعيّا متأتّيا من الفارق بين الأجر الذي يتلقّاه من الشّركة التي استأجرت قوّة العمل وبين الأجور الفعليّة التي يدفعها للعمّال. في عدّة وضعيّات لا يبدو التّباين واضحا بين الاثنين مثل مجالات الحراسة والتّنظيف والصِّيَانة.
مَنعَ القانون بشكل واضح وصريح مناولة اليد العاملة في الحراسة والتّنظيف. في المقابل بَقيَ باب التّأويل مفتوحا لإمكانيّة مُناولة اليد العاملة في مجالات أخرى مثل؛ الصّيانة والإعلاميّة التي تتطلّب معارف مهنيّة خاصّة وفق القانون. إمكانيّة التّأويل مرتبطة بوجود فصل يَفرِض على المؤسّسة المستفيدة (الأصليّة) تطبيق نظام التّأجير الخاصّ بها على أعوان المؤسّسة المُسدية للخدمات أو الأشغال التي لا تخضع لنظام تأجيري قطاعي أو خاصّ. فرغم الضّمانات الظّاهرة التي وُضِعَت للحيلولة دون ممارسة المناولة، إلا أنّها تبقى فضاضة في بعض الجوانب. على سبيل المثال وأخذا بعين الاعتبار أنّ كلّ الشّركات تقريبا لها نظامها التّأجيري الخاصّ؛ يُمكن أن تَقوم شركة خدماتيّة في صيانة آلات الخياطة بتوفير عمّال صيانة لأكثر من مصنع نسيج لكون الصّيانة نشاطا تكميليّا وليس أصليّا، لكنّه نشاط دائم مقابل عدم ديمومة العامل الذي تشرف عليه وتراقبه الشّركة المُسدية للخدمات. تُحقِّق هذه الأخيرة أرباحا من فارق الأجر، وهو جوهر مناولة اليد العاملة.
هشاشة العمل واقع بنيوي يتجاوز القانون
ممّا لا جدال فيه أنّ التّنقيحات التي طرأت على مجلّة الشّغل تُمثّل مكسبا جزئيّا ومهمّا لجزء من العمال والعاملات، لأنها ستُوفّر لهم نوعا من الاستقرار المهني والاجتماعي، وتُمكّنهم من نفس الحقوق التي يتمتّع بها الأعوان القارّون، كما ستمكّنهم من الولوج إلى الخدمات البنكيّة، خصوصا بالنّظر إلى واقع العمل الهشّ الذي كرّسته تنقيحات مجلّة الشّغل في العام 1996، والتي أفرزت استغلالا فاحشا لليد العاملة المؤهّلة وغير المؤهّلة في القطاعين العامّ والخاصّ، حيث أصبحت العقود محدّدة المدّة والالتجاء لتأجير العمالة (المناولة) هما القاعدة، كما أصبحت العقود تُبرَم بشكل شهري ويُحرَم فيها الأعوان من حقوقهم الدّنيا مثل العُطَل خالصة الأجر، وتَحوَّلَ طرد الأعوان قبل إتمام السّنة الرّابعة بمدة وجيزة (الحدّ الأقصى لتحويل العقد معيّن المدّة إلى عقد غير معيّن المدّة قبل التّنقيح) مطية لحرمانهم من التّرسيم، وبمثابة العُرف لدى المؤسّسات التّونسيّة. وهُنا يذكر أن الاتّحاد العام التونسي للشّغل خاضَ، منذ العام 2011، عدّة نضالات لوقف مناولة اليد العاملة كان آخرها الاتّفاق الذي تمّ إبرامه مع المجلس البنكي والمالي للتخلّي عن انتداب أعوان بنكيّين عن طريق المناولة، وتسوية وضعيّة المنتدبين وفق هذه الآليّة في أجل أقصاه سنة 2023، غير أنّ البنوك لم تَلتزم بالاتّفاق. ورغم ذلك تمّ إقصاء الاتّحاد من النّقاشات التي تَعلّقت بالتّنقيحات الجديدة، وهو ما يؤكّد طابع السّلطة الحالية المعادي للعمل النّقابي.
من بين الأضرار التي لحَقت بموضوع التّشغيل منذ الثّورة؛ تجريده من طابعه الاقتصادي وتحويله إلى ملفّ اجتماعي تتحكّم فيه بشكل أوسع الزّبونيّة السّياسيّة. فقد أصبح الانتداب في القطاع العامّ يتمّ في أغلبه على قاعدة الملفّات الاجتماعيّة. وأصبح الولاء السّياسي والانتماء الجهوي يلعبان دورا مهمّا في التّوظيف، وفي تسوية ملفّات التّشغيل الهشّ في الوظيفة العموميّة من مختلف الحكومات المتعاقبة والأغلبيّات البرلمانيّة. واصلت السّلطة الحالية تكريس هذا النّمط المُشَوَّه من العلاقات السّياسيّة والاجتماعيّة ولكن بشكل مغاير، عبر تصوير التّنقيحات المُدخَلة على مجلّة الشّغل بمثابة “الإنجاز التّاريخي” الذي سيُنهي استغلال العمّال على يد رئيس الجمهوريّة الذي بابت يُعبّر لوحده عن الإرادة العامّة مقابل معسكر الأعداء، بما في ذلك النّقابات.
في هذا الصّدد، من المهمّ الإشارة إلى أنّ المكاسب التي تفتكّها الفئات المهمّشة من سلطة معيّنة لا تعني ضرورة أنّ هذه السّلطة حليفتها. لقد حقّق العمّال معظم المكاسب التّاريخيّة في ظلّ حكومات يمينيّة. على سبيل المثال؛ في العام 2000، في ظلّ الرّئيس الفرنسي اليميني جاك شيراك، وَقعَ سنّ قانون (La loi Aubry (II القاضي بتقليص ساعات العمل الأسبوعي إلى 35 ساعة بهدف مكافحة البطالة المرتفعة، وذلك تحت ضغط النّقابات. بشكل عام يرضخ اليمين الحاكم للمطالب التي تفرضها النضالات النّقابيّة والسّياسيّة عندما لا يكون ميزان القوى لصالحه. أمّا في السّياق التونسي، فيبدو أنّ المكسب الجزئي الذي تحقّق بفضل تنقيح مجلّة الشّغل يعود إلى طبيعة الرّئيس الشعبويّة الذي يَعمَل على احتكار الفعل السّياسي وتهميش أو قمع كلّ قوّة ضغط. هذه الطّبيعة الشّعبويّة تفسّر عدم وضوح الهويّة الطبقيّة-السياسية للرّئيس قيس سعيّد الذي يُقدّم نفسه نصيرا الفقراء والمهمّشين، لكنّه في المقابل لا يمسّ من مصالح رأسمال المحلّي والأجنبي.
يبدو أن هاجس رئيس الجمهوريّة كان سحب ملفّ المناولة من الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل وكسب ولاء العاملين وفق آليّة المناولة، والذين يقدّر عددهم حسب تصريحات مختلفة، وفي غياب إحصائيّات رسميّة، بحوالي 230 ألف عامل، وقرابة الثّلثين من بينهم يعملون في مجال الحراسة والتّنظيف. ومجلّة الشغّل في مجملها منحازة للأعراف، ليس في باب التّعاقد فقط وإنّما في أسباب الطّرد وغرامة الطّرد وإجراءات التّقاضي وتفقديّة الشّغل، وهذا من قبيل الذّكر لا الحصر. وأهمّ من ذلك، لا يمكن معالجة أشكال التّوظيف الهشّ بمعزل عن موضوع العمل ككلّ. ومشكلة العمل لا يمكن أن تُحَلَّ خارج مراجعة النّموذج الاقتصادي القائم، حيث تُمثّل الهشاشة والبطالة إحدى سماته البنيويّة.
وفق دراسة أنجزَهَا المعهد التّونسي للدّراسات الاستراتيجيّة التّابع لمؤسّسة رئاسة الجمهوريّة، في العام 2019، يَبلغ عدد المشتغلين في تونس 3.56 مليون شخص، منهم 1.6 مليون (44%) يعملون بشكل غير منظّم. ويعني ذلك أنّ حوالي نصف المشتغلين في تونس يعملون من دون عقود، ولا يتمتّعون بأيّ حقّ من الحقوق التي اكتسبها العمّال. هذا دون الحديث عن سياسة الأجور الدّنيا التي تتبنّاها البلاد كميزة تنافسيّة لتشجيع الاستثمار المُلَوِّث، ومحدود القيمة المُضافَة. أدّى هذا النّمط إلى إنتاج بطالة هيكليّة تقريبا ثابتة تُقدّر بحوالي 700 ألف عاطل عن العمل. لقد أنتج الاقتصاد المحلّي بوصفه اقتصادا طَرفيًّا نوعا من التّراتبيّة في الهشاشة بين المشتغلين بأجور زهيدة ضمن العمل المنظّم، وبين العاملين بشكل غير منظّم، وبين العاطلين عن العمل أو ما يعرف بـ”العَمَالة الزّائدة” التي أفرزتها المنظومة النيوليبرالية كاحتياطي لضبط فائض الإنتاج. هذه المشكلة الأخيرة تمّ تكريسها في التّنقيحات الأخيرة من خلال فسح المجال لإبرام العقود محدّدة المدّة عند ارتفاع الإنتاج. من هذا المنظور يبدو القول بالقضاء على التّشغيل الهشّ، بمجرّد تغيير بعض فصول مجلّة الشّغل، من قبيل البحث عن استعطاف الجمهور والتّغطية على غياب برنامج حكم له القدرة فعلا على القطع مع شروط إنتاج الهَشاشة الاقتصادية والاجتماعية.
[1] Pierre Rosanvallon, Le siècle du populisme :