هي الأمتار الأخيرة في الصراع المستمر منذ منتصف التسعينيات بين الساعين إلى تنظيم المنافسة واللاهثين خلف حماية مصالح المحتكرين. لكن هل فعلاً حان وقت إنهاء الوكالات الحصرية المحمية بالقانون منذ العام 1967، أم أن أصحاب هذه الوكالات من سياسيين ورجال أعمال مرتبطين بالسلطة لا يزالون قادرين على توجيه مجلس النواب نحو حماية مصالحهم على حساب مصالح الناس الذين يعانون اليوم من تضخم غير مسبوق؟
بعد تأجيل مناقشة اقتراح قانون المنافسة في اللجان النيابية المشتركة مرتين، يعود الاقتراح مجدداً إلى اجتماع يوم الإثنين في السابع من شباط. ففي 26 كانون الثاني، لم تنعقد الجلسة التي دعا إليها رئيس مجلس النوّاب نبيه بري، بعدما طلب رئيس اللجنة الفرعيّة فريد البستاني التأجيل أسبوعاً في محاولة لإنهاء درس جميع المواد. وقد انقسمت هذه اللجنة التي تضم النواب: فادي علامة، جورج عقيص، حسين الحاج حسن، رولا الطبش، آلان عون، جهاد الصمد، بلال عبدالله وإدي أبي اللمع منذ بداية عملها إلى طرفين: طرف يضم نواب التيار الوطني الحر والقوات والمستقبل، يريد إجراء تسوية تضمن حماية الوكالات الحصرية بالتوازي مع تعزيز المنافسة، وطرف ثانٍ تمثّل بحزب الله وحركة أمل إضافة إلى النائب جهاد الصمد رأى أنه لم يعد يوجد حماية لأصحاب الوكالات الحصرية في أيّ بلد في العالم غير لبنان، وبالتالي وجب إنهاء هذه الحالة. في المقابل، بقي الاشتراكي ممثلاً بالنائب عبدالله الذي كان تقدم باقتراح قانون لإلغاء الوكالات الحصرية في منطقة وسطى. بحسب متابعين للنقاشات المستمرة منذ سنوات طويلة، في كل مرة كان يطرح الأمر كان الانقسام يأخذ طابعاً طائفياً مصلحياً، بحيث يحدد الموقف عموماً انطلاقاً من مدى استفادة القواعد الحزبية أو الناخبة من الوكالات الحصرية الكبرى، من دون التقليل من حجم الضغوط لإنجاز قانون المنافسة ضمن سلة الإصلاحات المطلوبة دولياً.
وفي 31 كانون الثاني، تبيّن أنّ اللجنة الفرعية لم تتمكّن من الاتفاق، تحديداً على المادة الخامسة من القانون، أي تلك المتعلّقة بإلغاء الوكالات الحصرية، فطلب البستاني تأجيلاً إضافياً ليومين، بسبب “وجود فرصة للتوافق على المواد المُختلَف عليها”. وبالفعل، حصل على تأجيل لأسبوع لا ليومين. لكن، خلال هذا الأسبوع، انعقدتْ اللجنة الفرعية مرّتين. وكما في التأجيل الأول، كذلك في الثاني، لم يتمّ التوصّل إلى اتفاق نهائي، وإن انحسرت حدة الانقسام في هذه المسألة.
حجّة المتمسّكين بالوكالات بدرجة أو بأخرى هي أن أصحابها استثمروا الكثير ليحصلوا عليها ولا يمكن بالتالي تعريضهم للخسارة. هذه الحسبة لا تأخذ بعين الاعتبار ما حقّقه هؤلاء من أرباح على مدى عقود من الحصرية، التي حرمت المستهلكين من إمكانية الحصول على أسعار تنافسية. فالمحتكر يُقرّر سعر السلعة ولا يمكن لأحد منافسته، لأن القانون، ببساطة، يحميه. والدولة تقف بالمرصاد أمام كل من يُفكّر في استيراد موادّ تملك أيّ شركة الحق الحصري لاستيرادها. لا يهمّ هنا إن كانت الشركة الثانية قد استوردت بضاعة أصلية ولا يهم إن كان سيحصل عليها المستهلك بأسعار أقل. فالأولوية هي للمحتكر لا للمستهلك.
سبق لكتلة الوفاء للمقاومة أن قدّمت اقتراحاً مبنيّاً على مشروع القانون الذي اقترحه وزير الاقتصاد في حكومة الحريري المستقيلة غداة 17 تشرين منصور بطيش والذي بدا الأكثر حرصاً على كسر هذه الاحتكارات، وتحديداً بالمقارنة مع المسودة التي قدمها وزير الاقتصاد في حكومة حسان دياب راوول نعمة والتي تضمّنت أفخاخاً تسمح بالالتفاف حول إلغاء الوكالات الحصرية. وقد أُخذ بالفعل بمعظم بنوده رغم احتوائها على ثغرات أشارت “المفكرة القانونية” إليها، فيما تمّ التفاهم على بنود أخرى. ولم يبقَ إلا البند الخامس، وهو لبّ القضية. انطلاقاً من أنه لا يمكن الوصول إلى منافسة عادلة في ظلّ استمرار حماية الوكالات الحصرية.
بعدما سقطت محاولة التهويل التي اتبعتها هيئات أصحاب الأعمال وفي مقدمتها الوزير السابق محمد شقير وبدعم من رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، للإيحاء أن الدفاع عن الوكالات الحصرية هو دفاع عن الاقتصاد الحرّ ووجه لبنان الاقتصادي، تحوّل النقاش إلى كيفية حماية حق الوكيل الذي استثمر للحصول على هذه الوكالات بالتعويض عن الخسائر التي سيُمنى بها. يقول النائب آلان عون لـ”المفكرة” إن “الحملة الموجّهة ضد الوكالات غير مبرّرة، سوى بالرغبة بانتقال هذه الوكالات إلى تجّار آخرين”. ويوضح أن الأولوية يجب أن تكون للأسعار والتنافس وليس لضرب الوكالات. فهذه هي الغاية الأساسية من القانون، وبالتالي إن كانت الوكالات الحصرية تضر بهذه المنافسة، سيكون القانون في مواجهتها، أما إن لم تكن كذلك، فلماذا التصويب عليها؟
في المقابل، يوضح النائب حسين الحاج حسن لـ “المفكرة” أنّ أحداً لا يطالب بإلغاء الوكالات الحصرية، فهذا عقد بين طرفين والعقد هو شريعة المتعاقدين، لكن المطلوب عدم حماية هذه الحصرية بالقانون. الأمر نفسه يتحدّث عنه النائب جهاد الصمد لـ “المفكرة”. ويسأل: هل يُعقل أن يكون لبنان هو البلد الوحيد في العالم الذي تحمي الدولة فيه الوكالات الحصرية؟
في محاولة للوصول إلى نص توافقي، اقترح النائب سمير الجسر، في الاجتماع الأخير للجنة، أن تكون المادة الخامسة كالتالي:
“خلافاً لأيّ نص آخر:
– لا يسري بند حصر التمثيل التجاري على الأشخاص الثالثين حتى ولو أعلنه الوكيل بقيده في السجل التجاري.
ولكل شخص لبناني طبيعي أو معنوي الحقّ في استيراد أي سلعة من بضاعة لها ممثل حصري في لبنان سواء كان ذلك لاستعماله الشخصي أو للإتجار بها.
– لا يسري حصر التمثيل التجاري على جميع السلع الغذائية بدون إستثناء.
– يجوز لممثل جديد أن يمثل شركة مورّدة سبق أن كان لها ممثل حصري ويوجد إشارة دعوى على صحيفتها. وللممثل الجديد أن يسجل وكالتها في سجله التجاري الخاص من دون أيّ قيد.
– يحقّ لممثل سابق في حال تدوين إشارة حكم مبرم بالتعويض عليه على صحيفة الشركة التي كان يمثّلها أن يبلغ مضمون الحكم المبرم المدوّن إلى إدارة الجمارك كي لا يسمح بتخليص البضائع المستوردة من إنتاج الشركة المحكومة، ما لم تكن البضاعة قد شُحنت الى لبنان بتاريخ سابق على تدوين إشارة الحكم المبرم وعلى إبلاغ إدارة الجمارك، إلا بعد أن يبرز مستوردها إفادة تثبت رفع الإشارة عن صحيفة الشركة.
– تُلغى الفقرات 3 و4 و5 من المادة 4 من المرسوم الإشتراعي 34 تاريخ 5/8/1967 مع كافة تعديلاته والمضافة بالقانون المنفذ بالمرسوم 9639 تاريخ 6/2/1975.
– لا تسري أحكام هذه المادة على الدعاوى المقامة قبل صدور هذا القانون بموجب القانون 34 تاريخ 5/8/1967 وتعديلاته”.
الفقرات الثلاث الأولى ترد كما هي تقريباً في اقتراح الوفاء للمقاومة، لكن المشكلة الأساس تتعلق بالفقرة الرابعة، أي تلك المتعلقة بمنع تخليص بضائع مستوردة من شركة عليها حكم مبرم بالتعويض على صاحب الوكالة الحصرية، وكذلك في الفقرة الأخيرة، التي ترتبط بالمضمون نفسه.
هذه التعديلات أدّتْ إلى توتّر داخل جلسة اللجنة الفرعية الأخيرة. فهي في الظاهر تلغي الحصرية، لكنها بحسب قراءة الحاج حسن، تؤدي على العكس من ذلك إلى تعزيزها. في المقابل، يقول النائب بلال عبدالله لـ “المفكرة” أنّ هذه الصيغة تكرّس إلغاء الوكالات الحصرية فعلاً، لكنّها تمنع، في الوقت نفسه، الإضرار بمصالح الوكيل اللبناني لصالح المصنّع الأجنبي، فإذا أخلّ هذا المصنّع بالعقد الموقع مع وكيله، وتم التثبّت من هذا الإخلال قضائياً، يُفترض أن يعاقب المصنّع بمنع بضاعته من الدخول إلى السوق على سبيل المثال، إلى حين تسوية الوضع. وبعد ذلك، له الحرية في بيع بضاعته لأي شركة. إلا أن أي قراءة موضوعية لهذه المادة تظهر أنها ذات تطبيق محصور بالتعويضات التي تقررها المحاكم للوكلاء السابقين، مما يعني أن الخلاف بهذا الشأن بات ضيقاً.
هذا ما يؤكده عبدالله لجهة أن التوافق على المادة صار شبه منجز ولا ينقصه سوى تثبيت مسألة التعويض على الوكيل في حال أخلّ المصنّع بالعقد، وهو ما يفترض أن تبته اللجان المشتركة. مع ذلك، تشير مصادر اللجنة الفرعية إلى سعي لعقد اجتماع لأعضائها، حتى لو غير رسمي، يسبق انعقاد اللجان عند الساعة الحادية عشرة، في محاولة أخيرة للدخول إلى الاجتماع باتفاق كامل على الصيغة. وإذ لا يستبعد أي طرف التوصل إلى هذا الاتفاق، فإنّ كل منهم يعتبر أن الاتفاق يمكن إنجازه إذا وافق الطرف الآخر على صيغته. هذا مع العلم أنه بناءً على اقتراح من الحاج حسن، طلبت اللجنة من وزارة الاقتصاد تقديم تقرير عن واقع الوكالات الحصرية، يُفترض أن يعرض في اللجان المشتركة. بانتظار الجلسة التي قد تحمل توافقاً من دون استبعاد مفاجآت بضغط من لوبي الاحتكارات تعيد النقاش إلى أوله، فلنراقب.