أعلن نشر قانون المجلس الأعلى للقضاء بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية نهاية فصل هام من صراع حول مشروع هذا القانون قادته الهياكل النقابية القضائية بكثير من الحكمة والدراية على مدى ما يقارب السنة. وقد تكون من أهم محطات ذلك الصراع الالتجاء للطعن في دستورية مشروع القانون. في هذه المحطة النضالية الهامة، خاض القضاة وجمعية القضاة التونسيين خصوصا ملحمة حقيقية سواء في مستوى التأثير على نواب المعارضة للاضطلاع بعملية الطعن في ظرف سياسي اتسم بضعف هذه المعارضة أو في قيمة النص المقدم إلى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين والذي كان ثمرة جهد استثنائي جمع في وقت قياسي أجود ما في خبرة القضاة وأساتذة الجامعة. كما تؤكد هذه المعركة أن القضاة لم يكتفوا بمجرد المطالبة السلبية، بل شاركوا بجهد قانوني عالي الجهد في تجويد مشروع القانون وتنقيته.
نحن نتفهم بلا شك خيبة أمل القضاة الذين كانوا يطمحون لقانون يستجيب في نظرهم لمقتضيات الدستور والنواميس الدولية ولا يختزل دور المجلس الأعلى للقضاء في الإشراف على المسار المهني للقضاة بل يجعله الضامن الحقيقي لقيام سلطة قضائية مستقلة ومن الأكيد أن القانون لا يخلو من الشوائب التي رصدتها هيئة القضاء العدلي في بيانها بتاريخ 18-04-2016 كما أشارت إليها الجمعية في مذكرتها الصادرة بتاريخ 20 -04- 20. إلا أن هذه المآخذ على أهميتها لا يمكن أن تخفي مجموعة من المكاسب التي من عدم الإنصاف تجاهلها أو التقليل من شأنها.
لقد أجبرت نضالات القضاة المجلس التشريعي على الاعتراف في عموم الصلاحيات الموكولة لمجلس القضاء بأنه يمثل سلطة في انسجام مع مقررات الدستور وطموحات الثورة. لقد نجح القضاة أيضا في إدخال تعديلات مهمة على تركيبة المجالس من أجل مزيد الانفتاح على مكونات العائلة القضائية وعدم الاقتصار على جسم بعينه أو هيمنته على بقية المكونات. لقد نجحوا كذلك في استبعاد القضاء العسكري من عضوية المجلس وهي مسألة في غاية الأهمية
مكسب لا جدال فيه
أما في ما يخص القانون في ذاته كيفما وقعت المصادقة عليه، فإنه من الجدير التنويه بمجموعة من العناصر الخادمة بلا شك لاستقلال السلطة مفهوما وإنجازاً:
1- لقد أنهى القانون التجربة المريرة التي أصابت القضاء منذ الاستقلال والذي تمثل على مدى عقود في جعله هيئات متعددة عدلية ،إدارية ومالية، وهي التجربة التي زادت سوءا من خلال تدخل السياسي في أعمال هذه الهيئات التي صارت تكتفي في كثير من الأحيان بمجرد التأشير على مقرارات تصنع في مكاتب وزارة الاشراف. لقد تضمنت التجربة السابقة في دستور 1959 بابا تحت عنوان السلطة القضائية باعتبارها سلطة واحدة موحدة وهو وصف لم يتطابق تاريخيا أبدا مع الموصوف. فإطلاق وصف أو نعت يفترض تواجد مجموعة من المؤشرات والعناصر الدالة عليه وهي أولا وجود سلطة مستقلة بالفعل هيكليا وثانيا وجود جسم موحد بهيكل موحد يمثلها ويحمي استقلاليتها. غير أن الواقع القانوني جاء مخالفا للتصور الدستوري. فقد تشرذم جسم السلطة وتحول إلى مجالس مقطوعة الصلة بعضها عن بعض. لقد ظل مطلب وحدة الجسم القضائي باعتباره تكريسا لمفهوم السلطة الواحدة التي لا تتجزأ جزءا من المطالب الأساسية التي رفعها القضاة. فمفهوم السلطة لا يمكن بالمرة أن ينقطع عن الشكل الذي تأخذه هذه السلطة.
2- مجلس أعلى ممثل للقضاة لهم فيه أغلبية سواء بالصفة أو منتخبة من القضاة أنفسهم بشكل ديمقراطي شفاف ونزيه في انتخابات ستشرف عليها هيئة الانتخابات ذاتها وتحت المراقبة المشددة للهياكل المهنية الحريصة بلا شك على نزاهتها.
3- جعل المسارات الوظيفية من أنظار المجالس القضائية العليا المنتخبة من طرف القضاة دون سواها فتكون بذلك مختصة في ما يتعلق بالانتداب والتسمية والترقية والنقلة والتأديب بما في ذلك قضاة النيابة العمومية. وهي من الخيارات التي تستجيب لمنطق السلطة ليقع القطع مع تدخل السلطة التنفيذية بأي شكل من الأشكال في كل ما يتصل بالمسارات الوظيفية لسائر مكونات السلطة القضائية العليا ونعني بذلك المجالس العدلي والإداري والمالي. كل هذا يكرس بلا شك تحييد السلطة التنفيذية عن المسالة القضائية في إشارة إلى فك الارتباط بين السلطتين من خلال وضع المبادئ القانونية التي تقيد المشرع لاحقا عند التدخل اللاحق في صياغة القوانين الأساسية فضلا عن بقية الضمانات الحتمية وفي مقدمتها عدم قابلية القاضي للعزل وعدم قابلية نقلته دون رضاه وهو مبدأ بينت التجربة السابقة عدم تقيد السلطة بمقتضاياته. فقد استعملته على مدى أكثر من ستين سنة سلاحا لاختراق المؤسسة القضائية ومحاصرة القضاة. وقد طال الاستعمال التعسفي لمبدأ النقلة أعضاء جمعية القضاة أو المنتسبين إليها. ومن الغريب حقا أن يهوّن القضاة من هذا المبدأ الأساسي في ضمان السلطة القضائية بالرغم من انه مبدأ جوهري حرصت كثير من دساتير العالم على إدراجه ضمن مبادئها وبالرغم انه استعمل لكسر شوكة القضاة والتحكم في مصائرهم. لم يكن المقصود هنا القضاة أنفسهم بل السلطة القضائية التي لم يكن النظام السياسي يعترف لها بهذه الصفة وذلك قصد إلحاقها تماما بإرادة السلطة التنفيذية وتكريس هيمتها على بقية السلطات وتأبيد دولة الاستبداد من خلال ملاحقة المعارضين السياسيين في محاكمات غابت فيها أدنى ضمانات المحاكمة العادلة ومن خلال تخريب جمعية القضاة الهيكل القضائي الوحيد قبل الثورة. نحن نستغرب بلا شك التقليل من شان هذه المسالة الأخيرة وخاصة من جمعية القضاة التي كان مناضلوها ضحية لها منذ بداية نشوء الخط الاستقلالي داخلها بداية من 2002 وتعمقه من خلال مؤتمر الجمعية في ديسمبر2004. كما أنه لا يمكن بأي حال التقليل من الإيجابيات التي يتضمنها القانون والذي يكرس بشكل لا غبار عليه منطق السلطة أيضا من خلال جعل المسارات الوظيفية من أنظار المجالس القضائية العليا دون سواها. فلم يضع المشرع أية تقييدات أو شروط خاصة على صلاحية البت في التدرج القضائي في سلم الرتب القضائية عدا مقياس الأقدمية رغم أن كثيرا من الأنظمة تضع شروطا أمام هذا التدرج. فالمجالس القضائية هي وحدها التي تقيّم عمل القاضي وفق ما تراه من أشكال وتصورات لهذا التقييم في شكل تدرج وظيفي لا يخضع لأي شكل من أشكال المحاباة أو الولاء للسلطة السياسية. وكم ضاعت في الماضي من مسارات ومصائر كانت تعد بكثير من العطاء والحيادية والاستقامة لمجرد عدم انسجام أصحابها مع السلطة القائمة ووفائهم لشرف القضاء ولقداسة القسم الذي أدوه.
صحيح أن المجلس لا يشرف مباشرة على انتداب القضاة وتكوينهم ولكن له رأيا في كل ذلك مثلما يقرره القانون وهي خطوة مهمة يمكن استثمارها إذا ما تقرر العودة إلى القانون لتعديله. ولئن لم يعط القانون للمجلس صلاحية الإشراف على المحاكم، فإن أي نظرة موضوعية متسلحة بما يكفي من الواقعية لا بد أن تقر بصعوبة هذا الطلب فلا أحد يجهل الوضع المتردي الذي تعرفه محاكمنا سواء على مستوى الميزانية المرصودة لوزارة العدل أو البنية التحتية المتهالكة أو الموراد البشرية المحدودة أو الإمكانات الإدارية واللوجستية القليلة. إن طلب القضاة تحمّل إرث الماضي بكل ثقله ومشاكله وعاهاته في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة والمحفوفة بكل المخاطر لا يخدم مصالحهم ولا مصالح السلطة التي يريدون بناءها. لكأنهم يحكمون على أنفسهم بتحمل ما لا طاقة لهم به. وليعلموا إن أي فشل في تسيير دولاب مهترئ قديم لن يوضع على مسؤولية الظرف والسياق والإمكانات بل سيحسب على عجزهم وتواكلهم وهم المتهمون أصلا بكل صور الفساد والتقاعس.
إلا إن ما نريد التأكيد عليه هنا هو أن معركة استقلال القضاء لا يمكن اختزالها في معركة واحدة مهما كانت قيمتها. فلا شك أنه ينتظر القضاة محطات ومهام لا تقل خطورة عن المعركة التي انتهت فصولها الآن. وسنكتفي هنا ببعض النقاط.
في الأفق القضائي
من خلال مراجعة القوانين الأساسية، يظهر أن ما ينتظر القضاة من محطات مستقبلية في تكريس مبدأ استقلال القضاء لا يقل فعلا أهمية. ومن هذه المحطات، الآتية:
-
توضيح صيغ النقلة لمصلحة العمل والتي يرى كثير من القضاة أنها إفراغ لمبدأ عدم نقلة القاضي بغير رضاه العزيز عليهم من مضمونه وهو رأي لا يستقيم تماما في نظرنا. فالقانون وضع حدا زمنيا لهذه النقلة التي لا تتجاوز ثلاث سنوات وهو عبء محتمل ومقبول إلا إذا كان القضاة يريدون حرمان المناطق الداخلية من الخبرات العالية ومن جودة الأحكام الصادرة عن القضاة ذوي الخبرة. فمصلحة القضاة ليست مقدمة بأي شكل من الأشكال على مصلحة المتقاضي، الذي من أجله تصنع المبادئ وتصان القواعد وتحمى الإجراءات.
-
مراجعة منزلة جهاز النيابة العمومية التي تكتسي بعض الخصوصية والتي تستمد من تداخل السلطة التنفيذية في تطبيق السياسة الجنائية الأمر الذي يقدم عادة لتفسير الترابط بين جسم النيابة العمومية والسلطة التنفيذية. ولا شك أن الأمر سيكون محل جدل حام في المستقبل بين الإبقاء على خضوع النيابة كما هو الأمر الآن لسلطة وزير العدل أو استقلال قرارها تماما عن سلطته أو إيجاد صيغ أخرى لشكل العلاقة بينهما.
-
إعادة النظر في صيغ انتداب القضاة خاصة. فالاكتفاء بالإجازة في القانون في ظل انهيار مستوى التكوين الجامعي صار يمثل عائقا أمام جودة الأداء القضائي بل أمام منزلة السلطة القضائية ذاتها. فالقاضي لا يقول القانون فحسب بل هو سلطة حقيقية صانعة للقواعد. هذا يتطلب حتما دراية عالية بالتقنيات المرتبطة بالقانون ومنها شروط التأويل وعلم الصياغة لغة ومفاهيم وهو ما يعني التفكير جديا في صيغ أخرى للانتداب تنفتح على الخبرات القانونية ذات التجربة التي كرستها الخبرة المهنية او الأكاديمية لدى المحامين وأساتذة الجامعة ممن يرغبون في الالتحاق بالقضاء.
-
وبعيداعن القوانين الأساسية، لا بد أن تضطلع الهياكل النقابية بمهمة نشر ثقافة قيم الاستقامة والنزاهة والحياد في ظل ما يتهم به القضاة دائما من فساد، وهي مسالة شديدة التأكد نظرا لحجم هذا الفساد الذي اعترف بوجوده رئيس هيئة القضاء العدلي في أول تصريح صحافي له بتاريخ 03 – 04 – 2016 قائلا "الفساد في القضاء حقيقة".
لا مناص من الاعتراف أن النقابات مهددة على الدوام بغلبة المنطق المهني والفئوي على منطق المصلحة العامة. غير أن للقضاء منزلة خاصة إذ لا مجال فيه لقبول أي انحراف نظرا لما له من دور مصيري في بناء دولة الحق والقانون كشرط أساسي لبناء الدولة الديمقراطية العادلة التي نطمح اليها.
– إيجاد حلول لوضعية التفكك والتشرذم التي يعيشها التمثيل القضائي بعد الثورة. لا أحد يشكك في حق القضاة في التنظّم داخل جمعيات ونقابات غير إن المطلوب هو ان تكون أن هذه الهيئات التمثيلية ممثلة حقا وحارسة فعلا لقيم استقلال القضاء وليس مجرد هياكل شكلية مقطوعة عن أي عمق داخلي وأي تمثيل حقيقي، مشغولة على الدوام بصراعاتها الداخلية لا يجمعها رأي إلا ليفرقها آخر مما يعطي الانطباع لدى الرأي العام بأن من يطالبون بموقع السلطة عاجزون حتى عن إدارة شأنهم الداخلي.
لكل ذلك نرى إن دعوات المقاطعة للمجلس الأعلى للقضاء ترشحا وانتخابا التي نلمس صداها في ردود أفعال القضاة في مواقع التواصل الاجتماعي هي مصادرة لكل الجهد الذي قام به القضاة من أجل تجويد القانون ومن أجل الحصول من خلاله على أكبر قدر ممكن من شروط قيام سلطة قضائية حقيقة. إن أخطر ما في هذه الدعوة هو أنها تكرس منطق الاستقالة وتشرع بشكل غير مقبول لسياسة الكراسي الشاغرة وتمكن أصوات المزايدة والتصعيد من أن تشوه نضالات القضاة. وهي حجة لمن يبحثون عن حجة لمخاوفهم وظنونهم حول ما يسمونه تغول القضاة ومخاطر حكومة القضاة. فكيف يمكن لهؤلاء أن يكونوا ضد قوانين الدولة ومؤسساتها وهم أحد أركانها وأعمدتها؟ هذا سؤال مشروع لا مناص من طرحه. قد يكون القانون سيئا في بعض جزئياته ولكن فليعلم القضاة وهياكلهم إن ما يخشى من القانون من بعض تبعية وخضوع لقضاء التعليمات كما كان الأمر في الماضي يمكن التصدي له من خلال صنع القاضي المستقل النزيه في ذاته والذي لا يحتكم في قضائه لغير ضميره والقانون. فالسلطة القضائية تبنى أيضا من خلال تغيير العقليات ومحاربة رواسب الماضي والوقوف أمام نزعة الخضوع والتبعية أو استغلال السلطة لمآرب خاصة. إن قاضياً جيداً ونصاً سيئاً أفضل من قاض سيئ ونص جيد على حد القول الشهير للعلامة جون كاربونييي. لا خيار للقضاة إلا النظر إلى المستقبل والتقدم خطوات إلى الأمام . أما غير ذلك ففيه كل مخاطر ومزالق المغامرة مجهولة العواقب.