صادق “مجلس نواب الشعب” على مشروع قانون الماليّة، من دون معارضة تذكر، وختمه الرئيس قيس سعيّد، هذه المرّة من دون التماس أعذار وحديث عن الإكراهات و”إرث ثقيل”. اقتصرتْ مساهمة النواب على بضعة فصول تتعلّق بتيسير بعض إجراءات تسوية الوضعيّة الجبائيّة، وعلى الشروع في انتداب عمال الحضائر بين 45 و55 سنة، طبق القانون الذي صادق عليه البرلمان في 2021، أسابيع قليلة قبل غلقه بدبابة تمهيدا لحلّه. ولم يكن قانون الماليّة لسنة 2024 فقط حبيس المقاربة المحاسبيّة والخيارات القديمة، في تناقض صارخ مع شعارات الرئيس الثوريّة، ولكنّ عنوانه الأساسي كان “المجهول”، حيث لا تزال مصادر الجزء الأكبر من التمويل الخارجي (وشروطها) مجهولة تماما، في ظلّ تغييب فرضيّة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي هذه المرّة. في هاتين الصفحتين، اخترنا إعادة نشر مقتطفات من مقالين أحاطت فيهما الكاتبة بأبرز أبعاد مشروع قانون الماليّة والميزانيّة بالتزامن مع مناقشته (المحرّر).
المجهول عنوان المرحلة القادمة
يبدو جليا أن العنوان الأبرز للميزان الاقتصادي لسنة 2024 هو ملفّ المديونية، إذ من المتوقع أن يرتفع حجم دين الدولة في نهاية السنة القادمة مقارنةً بالسنة الحاليّة ليبلغ 139976 مليون د. (79.81% من الناتج المحلي الإجمالي)، في مواصلة لسياسة الاقتراض على المدى القصير لخلاص ديون على المدى الطويل وبمعنى أدقّ الاقتراض بتكلفة أعلى لسداد ديون بتكلفة أقل.
وتؤكد وثيقة ميزانية الدولة للسنة القادمة أن الحكومة الحالية انخرطت في هذه الدائرة المولّدة للفقر وبشكل أكثر عبثيّة. فبعد أن وقع إعداد ميزانية 2023 على فرضية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي لم يبرم، تمّت بلورة ميزانية 2024 في جزء هامّ من مواردها على المجهول. فإلى جانب الالتجاء إلى السّوق الماليّة الداخليّة للحصول على قروض بجملة 11743 مليون د.، سيتم الالتجاء إلى التداين الخارجي لتعبئة 16445 مليون د. منها 10307 مليون د. بعنوان “قروض أخرى” مصادرها غير معلومة. ويُلحظ هنا أنّ ميزانية الدولة لم تتضمّن قروضا من السوق المالية العالمية، بسبب تعثّر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
في هذا السياق، يتّسم تعاطي منظومة 25 جويلية مع صندوق النقد الدولي “بالنفاق السياسي”، إذ يستعمل خطاب السيادة لتفسير عدم إمضاء الاتفاق، بما يتضمنه من إملاءات “تهدّد السلم الاجتماعي”، مع ترديد شعار “التعويل على الذات”، بما يفهم منه الاستغناء عن الصندوق. في حين أنّ المفاوضات مع صندوق النقد ما زالت جارية إلى حين التوصّل إلى اتفاق، كما أكّدت عليه وزيرة المالية خلال جلسة استماع أمام لجنة المالية بالبرلمان في 8 نوفمبر 2023.
يبدو إذًا أنّ الحكومة لا تزال تعوّل، لتعبئة موارد الميزانية المبنيّة للمجهول، على الاتفاق مع صندوق النقد الدولي كفرضيّة أولى، من خلال إبرام القرض البالغ 1.9 مليار دولار لتتمكّن في مرحلة ثانية من تغطية بقية النقص عن طريق السوق المالية العالميّة. تتّضح معالم هذه الفرضية بقوّة من خلال محور “إصلاح الوظيفة العمومية” والذي تتقاطع مضامينه مع تصوّر الصندوق في إطار التحكم في كتلة الأجور. تبرز بذلك ازدواجيّة التعاطي مع هذا الملف، الذي يسوّق له باعتباره انتصارا لرئيس الجمهورية في كلتا الحالتيْن: ففي حالة إبرام الاتفاق فقد نجح الرئيس في “فرض شروطه” على صندوق النقد وفي حالة فشل الاتفاق فقد حافظ الرئيس على السيادة الوطنية وعلى مبدأ التعويل على الذات.
شعار “الاعتماد على الذات” يُحيل إلى التساؤل حول المصادر الذاتيّة التي قد يعوّل عليها سعيّد لجمْع التمويلات. فالصلح الجزائي، الذي يقدّمه الرئيس كحلّ سحريّ لاسترجاع الأموال قد أثبت الواقع إلى جدّ الآن فشله مع نهاية المدّة القانونيّة، وأنّه لا يمكن أن يكون بديلا. إذ لم تتضمّن موازنات السنة القادمة مداخيل ذاتية بعنوان الصلح الجزائي. فضلا عن أنّ المرسوم المنظم له يضبط طريقة توزيع موارده الاستثنائيّة.
أمّا الأملاك المصادرة، التي تحوّل تركيز الرئيس إليها، فستقفز مداخيلها إلى 520 مليون د. في حين أنها كانت تتراوح بين 40 مليون و50 مليون د. بين سنة 2021 وسنة 2023. ما يعكس وجود نيّة لتصفية هذا الملفّ سنة 2024 عبر التفريط في الأملاك المصادرة المتبقيّة أو ربّما أيضا مراجعة ما تم التفريط فيه لوجود “شبهات فساد” تحدّث عنها الرئيس. ولكن حتى في حالة صدقيّة التوقّعات، لا تمثّل مداخيل المصادرة سوى نسبة 0.7% من حجم الميزانية.
وبالعودة إلى مقولة “التعويل على الذات” وإذا استثنينا اللجوء إلى إمكانية التفويت في بعض المؤسسات العمومية والتي لا يزال الرئيس ينفيها، لم يتبقّ لنا سوى فرضية الاعتماد على التمويل المباشر من قبل البنك المركزي لموارد الخزينة بعد مراجعة استقلاليّته. في هذا الإطار، اعتمدنا على مقترح القانون المتعلق بتنقيح القانون عدد 35 لسنة 2016 الذي يضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي والذي ينصّ على سقف 20% من معدّل إيرادات الميزانية في السنوات الثلاث السابقة، للقيام بعملية محاكاة لحجم التمويل الذي يمكن بلوغه. فكانت النتيجة حجم تمويل أقصى في صورة المصادقة على مقترح القانون كما هو، في حدود 7023 مليون د.، أي ما يمكن أن يغطي 68% من موارد الميزانية مجهولة المصادر، ليتم تغطية بقية العجز على الأغلب من السوق المالية الداخلية. في هذه الحالة سيؤثر هذا التوجه بدرجة كبيرة على تمويل الاقتصاد الحقيقي عبر خلق أزمة سيولة من خلال الالتجاء في نفس الوقت للبنك المركزي والبنوك التجاريّة.
يتجلّى من خلال ذلك، أنّ الشاغل الرئيسي للحكومة خلال السنة القادمة سيكون البحث عن مصادر التمويل لميزانية عنوانها الأبرز مزيد تعميق أزمة المديونيّة العموميّة في مواجهة خيارين وهما صندوق النقد الدولي -السيناريو الأفضل بالنسبة للحكومة- والبنك المركزي إضافة إلى البنوك المحلية، وهو ما يسقط شعار التعويل على الذات المجعول للاستهلاك الداخلي.
شعار “الاعتماد على الذات” يدفع للتساؤل عن المصادر الذاتيّة التي يعوّل عليها سعيّد
منوال النمو لسنة 2024، مجرد عناوين فضفاضة
قام تقدير ميزانية الدولة على أساس فرضيّة تحقيق نسبة نموّ في حدود %2.1. وحسب نصّ الميزان الاقتصادي، استندتْ هذه الفرضية على تحسّن الإنتاج الفلاحي في المجالات الثلاثة المحدّدة للاقتصاد الفلاحي التونسي وهي ارتفاع إنتاج الحبوب بثلاثة أضعاف ليبلغ 15 مليون قنطار سنة 2024 مقابل 5.4 مليون قنطار للسنة الحالية إضافة إلى ارتفاع الإنتاج في قطاعيْ التمور وزيت الزيتون الموجّهين للتصدير ما سيفضي إلى تحقيق نسبة نمو قطاعية بـ 1.8%. في المقابل، تتوقّع الجهات الرسمية تواصل الجفاف ما يضع صدقيّة فرضيّاتها محلّ تشكيك. إلى جانب ذلك، افترضتْ الحكومة ارتفاع القيمة المُضافة للقطاع الصناعي بنسبة 2.2% عائدة إلى عدّة عوامل، من أهمها تحسّن أداء الصناعات المعمليّة الموجّهة للتصدير وقطاع البناء والرفع من نسق إنتاج الفسفاط.
تعبّر التّوقّعات الكميّة الحكوميّة عن قدر من التفاؤل، ظهر أيضا في خطاب رئيس الحكومة أمام “البرلمان”. لكنّه يبدو “تفاؤلا طائشا” بالرجوع إلى قانون المالية التعديليّ لسنة 2023 الذي خفّض نسبة النمو إلى 0.9% بعد افتراض 1.8% في القانون الأصلي. وبرّرت الحكومة تراجع نسبة النموّ المتوقّعة إلى النصف بتواصل الجفاف والحرب الروسيّة- الأوكرانية، وكأنها ليست على علم مسبق بهما، في محاولة للتنصّل من المسؤولية وإلقائها على عوامل موضوعية.
إلاّ أنّ مضمون مشروع الميزان الاقتصادي يبيّن أنّ العامل المحدّد في حالة الركود التضخّمي (stagflation) لسنة 2023 يتمثّل في تقليص واردات الموادّ الأوليّة ونصف المصنعة بـ 6.4% الضّروريّة للنشاط الصناعي بالإضافة إلى تراجع توريد المواد الغذائية بـ 5.5% نتيجة الأثر المزدوج لتراجع الكميّات المورّدة وانخفاض مستوى الأسعار العالميّة خصوصا الحبوب والزيوت النباتيّة. يدحض ذلك حجة رئيس الجمهورية في تسويغ ندرة المواد الغذائية بالاحتكار بل ويؤكّد أكثر من ذلك أنّ تقليص التوريد في الموادّ الأساسيّة هو خيار السّلطة بهدف الحفاظ على بعض المؤشرات الاقتصاديّة (الميزان التجاري، احتياطي العملة الصعبة…) وهي رسائل موجّهة إلى صندوق النقد الدولي مقابل عدم إيفائها بالتزاماتها محليّا.
وقد نصّ الميزان الاقتصادي على أنّ رهان الحكومة للسنة القادمة يرتكز على تجاوز حالة الركود التضخميّ، عبر تعزيز الدور الاجتماعي للدولة واسترجاع طاقات الإنتاج في القطاعات الاستخراجية ودعم إنتاج الطاقات المتجددة وإدماج القطاع الموازي وتعزيز الاستثمار الخاص إلى جانب التسريع في المشاريع العمومية وأخيرا تحقيق الأمن الغذائي. فما تسمّيه الحكومة منوالا للنموّ هي فقط عناوين فضفاضة تضمّن سنويا في الوثائق المصاحبة لقوانين الماليّة، والتي تحوّلت إلى وظيفة إداريّة محاسباتية ركيزتها الواضحة التحكّم في جملة من الموازنات الماليّة لخلاص الأجور والديون.
مقاربة اجتماعية مغشوشة
تُعتبر المسألة الاجتماعية، أو بالأحرى الاستثمار في “خطاب الفقر”، من رَكائز الخطاب السياسي للرئيس قيس سعيد. لكنّ ذلك لم يترجم عبر إجراءات اجتماعيّة في مرافق أساسيّة كالنقل والصحّة ومنظومة الدعم يمكن أن تغيّر واقع الفئات الهشّة، إذ يَخلو قانون الماليّة من أي إجراء خُصوصي يَهمّ قطاع الصحّة المُتهاوي. فبالإضافة إلى تَجميد الانتدابات -رغم النّقص الفادح الذي يشهده قطاع الصحّة في الموارد البشرية- لم تَهتمّ السلطة التنفيذية بحلّ معضلة مديونية المستشفيات العمومية المتفاقمة لصندوق التأمين على المرض أو لكليهِما تجاه الصيدليّة المركزيّة، لتتواصل أزمة فقدان الأدوية.
في المقابل، نجد إجراء “إحداث حساب خاص في الخزينة لتمويل التنقلات الحضرية”، الذي يهدف إلى معاضدة مجهود الدولة في تمويل بعض عمليات تعهّد وصِيانة البنية التحتية ومعدّات النقل العمومي الحضري، وتمويل بعض الاستثمارات الخصوصية الصغيرة والمبتكرة في مجال التنقلات الحضرية، وكذلك الدراسات ذات العلاقة بالتوجهات الوطنية للتنقلات الحضرية. يعني ذلك أنّ اعتمادات الحسَاب ستكون مُشتّتة تقريبا بين كل المجالات، من دون أثر ملحوظ وناجع في مجال محدّد كالصيانة مثلا. كما أنّ موارده ستأتي بالأساس من معاليم تسجيل العربات ورخص السياقة وخدمات إداريّة أخرى، ليتمّ تحميل الطبقة الوسطى أعباء إضافيّة وتتهرّب الدولة من واجب الاستثمار العمومي في القطاعات الاستراتيجيّة ومن دون نجاعة تذكر.
أمّا بخصوص أزمات فقدان الموادّ الغذائية وغلاء أسعارها، فلم تتجاوز الإجراءات منطق الترقيع. من ذلك التخلّي عن ديون ديوانية تُقدّر بـ 4.5 مليون د.، وقرض مُسنَد من صندوق إعادة هيكلة المؤسسات في حدود 2 مليون د.، لفائدة شركة اللحوم. وهي مبالغ بعيدة عن حلّ الأزمة الماليّة الهيكليّة لهذه الشركة وديونها المتراكمة (36.25 مليون د.). لكنّ الإجراء الأبرز في هذا الصدد هو وَقف العمل بالأداء على القيمة المضافة بنسبة 19% لمادّتي القهوة والشاي، بغرض تَجاوز الاضطراب في التزوّد بِهِما والتحكّم في سِعرَيهما. ومن الملاحظ أنه منذ سنة 2016، تنتفع مادّتا السكر والأرز بهذا الإجراء. ورغم ذلك، فإن هذين المنتوجين شبه مفقودين في السوق التونسية (باستثناء العلامات الأجنبيّة غالية السعر بخصوص الأرزّ). وإذ يُعتبر وقف العمل بالأداء على القيمة المضافة ضرورة اجتماعية ويجب سَحبه على جميع المواد الأساسيّة، إلا أنه يتطلب حلّ إشكالات التزوّد أوّلا حتى يكون له معنى. فالمشكلة الأساسية تَكمن في أزمة السيولة التي يُعاني منها ديوان التجارة، والتي عَرقلَت توريد هذه السّلع بنسق يُغطّي احتياج السّوق.
يتم رفع الدعم بطرق ملتوية عبر عدم توفير الموادّ المدعومة
الدعم: “مَا يُعطى باليُمنى يُؤخَذ باليُسرى”
أمّا بخصوص ملفّ الدعم، فقد تعامَلَت معه الحكومة بمقاربة جبائيّة. ورغم كلّ ما قِيلَ وأنفِقَ طيلة السنوات الفائتة حول الدّراسَات والبرامج المخصّصة لإصلاح منظومة الدعم بدعوى توجيهه إلى مُستحقّيه، إلا أنّ السّلطة التجأت إلى الحلول السّهلة التي ستَكون لها نتائج عكسيّة. إذ تتعلّق الإجراءات بالترفيع في نسب الأتاوات على المطاعم السياحية المُصنّفة والمقاهي المصنّفة وقاعات الشاي، وكذلك على الملاهي والنوادي الليلية غير التّابعة لمؤسسة سياحيّة، والكاباريات ومحلات صنع المرطبات. كما تقرّر توسيع مجال تطبيق الأتاوة الثانية لتشمل المؤسسات السياحيّة الحانات وصناعات المشروبات الغازية والجعة والخمور والمشروبات الكحولية، وتوسيع ميدان تطبيق معلوم الإقامة بالنزل المُصنّفة ليشمل دور الضيافة وغيرها من الكراءات السياحيّة مع الترفيع في المعلوم للأجانب، إضافة إلى إحداث معلوم على مشتقات الحليب -باستثناء “الياغورت”.
نظريّا ستُمكّن هذه الإجراءات من تعبئَة موارد إضافيّة لصندوق الدعم من قطاعات من المفترض أنّها لا تتمتّع بالدعم، باستثناء الأجبان التي ما زالت تعتبرها الدولة من ضمن الكماليات. أمّا واقعيّا، وفي ظلّ تحرير الأسعار وضُعف الجهاز الرّقَابي، دائمًا ما يتمّ تحميل عبء هذه الزيادات على المُستهلكين عن طريق الترفيع في أسعار المنتوجات والخدمات المشمولة بالترفيع في الإتاوة. يتّسم هذا التمشي بتناقض جوهري بين ادّعاء الحكومة القائم على الحفاظ على الدعم ومن ورائه القدرة الشرائيّة وبين ما سيُنتِجه فعليّا من ضغط تضخّمي. نجد دائما أنفسنا أمام سياسة “مَا يُعطى باليمنى يُؤخَذ باليسرى”، لأنّ التناسق على مستوى هذا التوجّه يفترض تجميد أسعار السّلع والخدمات المعنيّة، حتى يتحمّلها المنتج وليس المستهلك.
هذا الهاجس المالي المُتعلّق بمنظومة الدّعم غير مَعزول عن الضغط الذي مُورس بخصوصه طيلة العقد الأخير من قبل صندوق النقد الدّولي. بالنّظر إلى السياسة الاقتصاديّة العامّة نَستنتج أنّ الحكومة تُفكّر بذهنيّة صندوق النقد، من خلال اعتبار الدّعم عبءًا وليس ضرورة لتعويض الفئات المُتضرّرة من سياسة ضعف الأجور التي انبنَى عليها المنوال التنموي الحالي. فهي بصدد رفع الدعم بطرق ملتوية عبر عدم توفير الموادّ المدعومة، رغم أنها تحتَكر توريدها. كما أنها بصدد تمويل صندوق الدّعم عن طريق الزيادة في سعر سلع أخرى بشكل غير مباشر عبر الإتاوات.
الجباية: المنظومة المُختلَّة
تَتوقّع وزارة المالية أن تَبلغ المداخيل الجبائية للسنة القادمة 44050 مليون د. بنسبة تطوّر 11.6%، وهي تُمثّل 89.6% من مداخيل الدولة. فيمَا تُحافظ المداخيل غير الجبائيّة على نفس المستوى الهزيل بـ4760 مليون د، متأتّية بالأساس من الهِبَات والأملاك المُصادرة والمساهمات العمومية وتسويق المحروقات، إضافة إلى عائدات عبور الغاز الجزائري. يُشير تواصل التعويل المُفرَط على الجباية إلى عجز الدولة عن خلق الثروة. ويُعتبَر هذا المؤشّر أحد ميزات المنوال التنموي المتآكل، لأن تطوّر حجم العائدات الضريبية راجع إلى الزيادة السنوية المُتواصلة في النسب واستخلاص جزء من الديون المثقلة على الشركات وليس من توسّع القاعدة الضريبية، أي تَوَسّع المشمولين بالأداء نتيجة تطوّر الاستثمار.
يُحيل ملف الجباية بشَكل مباشر إلى العدالة الاقتصادية والاجتماعية وإلى خلق الثروة وإعادة توزيعها. وبالنّظر إلى هيكلة المداخيل الجبائية في قانون الماليّة، يتراءى لنا جيّدا مواصلة التعويل على المنوال التنموي المُعتمَد منذ ما يَفوق النصف قرن، والذي ما انفكّ يُوسّع الهوة بين الأغنياء والفقراء ويُبرز السطوة الإقتصاديّة للشركات. إذ تَبلغ الضريبة على الدخل 12383 مليون د. (68%) منها 8695 مليون د. مُقتطعة من الأجور من جملة الأداءات المباشرة، بينما تبلغ الضريبة على الشركات 5774 مليون د. (32%)، منها 1725 مليون د. فقط حجم مساهمة الشركات البترولية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المبالغ المذكورة لا تُشكّل المساهمة السنويّة الخالصة للشركات البتروليّة، لأنّ ثلثها يُمثّل استخلاص ديون مُتراكمة تجاه الدولة.
وبخصوص هيكلة الأداءات غير المباشرة التي ناهزت 25893 مليون د.، يُواصل الأداء على القيمة المضافة استحواذه على نصيب الأسد من إيراداتها الجمليّة بنسبة 46%. هذا الأداء يَتحمّّله المستهلك وليس المنتج، وقد تمّ إقراره سَنة 1988 بناء على برنامج الإصلاح الهيكلي مع صندوق النقد الدولي، ثمّ توسيع مجاله والترفيع في نسَبه لتعويض تراجع مداخيل المعاليم الديوانية على الواردات من الاتّحاد الأوروبي بعد اتّفاق التجارة الحرّة لسنة 1995. وتتميّز الأداءات غير المباشرة بطابعها التنازلي لأنها مُلقَاة بالأساس على كاهل المستهلكين من متوسّطي إلى منعدمي الدّخل، وهو أحد أسباب تعمّق الفوارق الاجتماعيّة، خاصّة عندما تمّ التخلّي منذ سنة 2007 عن الأداء على القيمة المضافة على السلع الفاخرة التي كانت تبلغ نسبتها 29%.
كما يواصل قانون الماليّة في خيار الامتيازات الجبائيّة، وخصوصا إعفاء الشركات المُحدثة سنة 2024 و2025 من الضريبة على الدخل أو من الضريبة على الشركات لمدّة 4 سنوات (مع استثناءات بعض القطاعات ذات الربحية العالية). لكن هذه الامتيازات تحوّلت في أحيان كثيرة إلى مدخل للتحيّل عن طريق إحداث شركات تُشهِر إفلاسها بعد التمتع بالإعفاء. كما لم يتمّ التفكير في استعمالها كأداة للتقليص من هشاشة العمل في القطاع الخاصّ، عبر ربطها بالقدرة التشغيلية ومدى احترام الحقوق القانونية للأجراء.
علاوة عن الحديث عن العدالة الجبائيّة التي تُصبح من دون مَعنَى في ظلّ المنوال التنموي الحالي، فإن منظومة الحكم الحالية لا تطرح أيّة تصوّرات لتقليص الفوارق الاجتماعية واللاّمساواة. إنّ السياسة الماليّة والتي تقول الحكومة إنها تتوافق مع المخطط التنموي 2023-2025، ستبقى مبنيّة على ثنائّيّة الامتيازات الضريبيّة والتنازليّة التي تُكرّس الهوّة بين الفقراء والأغنياء، لأنّ أغلبيّة العائدات الجبائيّة متأتيّة من أصحاب الدخل المُنخفض عن طريق الضريبة المباشرة على الدخل والضريبة غير المباشرة على السلع (الأداء على القيمة المضافة ومَعلوم الاستهلاك).
ترتبط سياسة الحدّ من الإنفاق العمومي التي يتواصل اعتمادها، عضويا، بزيادة الضغط الضريبي، وتندَرج ضمن وصفة الإصلاح التقليديّة الخاصّة بصندوق النقد الدّولي. ورغم أنّ الهاجس المالي واضح في قانون الماليّة في السعي وراء تعبئة أكثر ما يمكن من الموارد، إلاّ أنّ التوجّه المحافظ هيمن على مضامينه، إذ يفتقد إلى تصورات إصلاحيّة قادرة في آن واحد على تقليص الهوة الإجتماعيّة وجَمع مداخيل إضافية، من قبيل مراجعة جدول نسب الضريبة على الدخل في اتجاه أكثر تصاعديّة.
نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية- تونس العدد رقم 28
للاطّلاع على العدد بصيغة PDF