كثر الحديث مؤخراً عن إمكانية إقرار قانون عفو عام قبل الانتخابات النيابية، خاصة بعدما كشف وزير العدل سليم جريصاتي أنه أعدّ مسودة مشروع القانون وسلّم نسخة منها للرؤساء الثلاثة للاطلاع عليها قبل مناقشتها في الحكومة. وعليه، تلقى أهالي بعلبك – الهرمل وأهالي الموقوفين الاسلاميين في الشمال وصيدا وعوداً من مرجعياتهم السياسية بالإفراج عن أبنائهم قبل السادس من أيار 2018، موعد إجراء الانتخابات. فجأة، استفاقت الأحزاب على المظلومية التي طالت هؤلاء السجناء، بغض النظر عن التهم الموجهة إليهم. في 16 كانون الأول 2017، وعد رئيس الحكومة سعد الحريري بحضور وفد من مخاتير لبنان بأن "العفو سيشمل جميع أبنائهم وأنه سيقر قبل نهاية شهر كانون الثاني [1]2018". انتهى شهر آذار والأهالي في انتظار تحقيق الوعد. أما النائب عن تيار المستقبل، سمير الجسر، فاعتبر أن من أطلق النار على الجيش اللبناني خلال أحداث طرابلس، "فعلوا ذلك لأن الدولة تقاعست عن حمايتهم". فيما رأى محامي النائب عن مدينة طرابلس نجيب ميقاتي أن "لا حلّ في المدينة إلا بالعفو العام[2]". لم نسمع اعتراضاً واحداً على سجن هؤلاء منذ انتهاء الاشتباكات عام 2013. من جهته، أكد النائب عن "حزب الله" نوار الساحلي العمل على إقرار قانون العفو عن أهالي بعلبك – الهرمل[3]. الأمر الذي كان قد وعد به أيضاً عام 2005 إلى جانب حلفائه في "حركة أمل".
ففي عام 2005، انتظر أهالي المدينتين إقرار قانون عفو يشمل أبناءهم، لكنه أدّى في نهاية المطاف إلى إطلاق سراح قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع وموقوفي أحداث الضنية ومجدل عنجر. في تلك الفترة، إنهالت الوعود قبيل إجراء الانتخابات النيابية أيضاً. أجمع نواب "المعارضة" على إطلاق سراح جعجع. اتضح لهم أن مطلبهم لن يتحقق إلا إذا قابله خروج موقوفين من طائفة أخرى. وقع حينها الإختيار على المتورطين في أحداث الضنية ومجدل عنجر. وتمّ تجاهل مطالب وتحركات أهالي بعلبك – الهرمل، على الأرجح بسبب الحسابات الانتخابية. خيار الـ6 و6 مكرر انتهى إذاً على قاعدة إطلاق سراح قائد مسيحي في مقابل عدد من المتهمين السنة. نعود في هذا المقال إلى الأحداث التي رافقت إقرار قانون عام 2005، محاولين تبيان العوامل التي دفعت إلى عقد هذه "الصفقة" بين الأطراف السياسية.
الانتخابات النيابية مقابل قانون العفو
تبع اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان بعد احتلال دام حوالي 30 سنة، موجة من "المصالحات" بين الأحزاب السياسية المتنازعة على السلطة منذ اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. قررت هذه الأخيرة التي اجتمعت فجأة تحت جناح "المعارضة للاحتلال السوري والنظام الأمني اللبناني" طي صفحة الماضي وعقد "مصالحة وطنية حقيقة". وعليه، بدأت المطالبات بإطلاق سراح قائد القوات سمير جعجع. وكان قد تمّ توقيف هذا الأخير في شباط 1994 بتهمة تفجير كنيسة سيدة النجاة في مدينة ذوق مكايل. أعلنت براءة جعجع في هذه القضية ولكنه حوكم في قضايا أخرى. أنزلت به عقوبات بالإعدام وخفضت إلى الأشغال الشاقة المؤبدة في دعاوى اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رشيد كرامي، واغتيال رئيس حزب "الوطنيين الأحرار" داني شمعون وزوجته وولديهما، ومحاولة اغتيال الوزير والنائب ميشال المر. وكان مجلس النواب قد أقرّ قانون عفو عام 1991، إبّان انتهاء الحرب، أدّى إلى تجنيب زعماء الميليشيات المحاكمة وسمح لهم بالعودة إلى السلطة. اعتبر هؤلاء أن مجرد إقرار قانون كفيل بطيّ جرائم الحرب ومعها ذاكرة اللبنانيين. فاتفقوا فيما بينهم وبمباركة الوصاية السورية على تولّي الحكم بعدما تقاتلوا على مدى 15 عاما. تماماً كما استفاقوا فجأة على ضرورة خروج جعجع من السجن، بعدما كانوا من أشدّ المطالبين بمحاكمته وسجنه. صاغوا "المصالحات" على حجم مصالحهم، والمصلحة فرضت خروج جعجع من السجن عام 2005.
ومن هذا المنطلق، قدّم عدد من النواب[4] في 13 نيسان 2005 اقتراح قانون معجل مكرر أمام مجلس النواب لإصدار عفو عن جعجع[5]. إعتبر هؤلاء "أن المجلس النيابي لا بد من أن يتجاوب مع الإرادة الشعبية العارمة بطي صفحة الحرب وتحقيق شروط الوفاق الصحيح[6]". وهو ما أشارت إليه أيضاً ستريدا جعجع، زوجة قائد "القوات". "روح الطائف مبنية على الوفاق الوطني الحقيقي والمصالحة الوطنية الشاملة وطي صفحة الحرب نهائياً إلى غير رجعة. ولن تتحقق هذه العناوين الا بخروج الحكيم إلى الحرية[7]". وقد اعتبر النواب أن الصياغة الملتبسة لقانون 1991 أدّت لاحقاً إلى سجن جعجع، حسب ما جاء في الأسباب الموجبة للقانون. "القانون الذي صدر عام 1991 لم يكن "شاملا" بالمعنى المقصود في الدستور، وبقيت فيه ثغرات خلافا للغاية المنشودة من وضعه. وبدلا من فتح صفحة جديدة بيضاء في حياة الوطن، بقيت الرواسب تتجمع وتتفاعل، وحصلت ملاحقات ومحاكمات أدت إلى اختلال موازين العدالة، بخرق مبدأ المساواة…وعمقت الانقسامات بدلا من أن تزيلها[8]".
وبموازاة ذلك، ترافق تقديم اقتراح القانون مع حملة شعبية في مدينة بشري، معقل "القوات"، حيث وقع نحو 3 آلاف شخص "عريضة الحقيقة"، مطالبين "بتضافر كل الجهود من أجل إظهار حقيقة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري[9]". بدا أن خروج جعجع أهمّ من العوامل التي أدّت إلى دخوله. تناسى الأهالي أن رفيق الحريري كان رئيس حكومة لبنان عندما اعتقل جعجع وأنه لم يعارض الوصاية السورية طوال فترة توّليه الحكم. من جهتها، دعت "المعارضة" إلى اعتصام حاشد في ساحة رياض الصلح للضغط على رئيس مجلس النواب لإدراج قانون العفو على جدول المجلس قبل الانتخابات. تميّز هذا الاعتصام بإطلاق شعارات ووعود كبيرة، لم يتحقق منها إلا خروج جعجع وموقوفي الضنية ومجدل عنجر لاحقاً. فعلى سبيل المثال، أعلن النائب ميشال فرعون أن "تيار المستقبل" "متضامن مع أهالي المسجونين في اسرائيل، والمسجونين والمفقودين في سوريا" وطالب بحلّ هذه القضايا أيضاً كي "تطوى هذه الصفحة الأليمة نهائيا[10]". أما النائب نعمة الله أبي نصر فقد ذهب إلى حدّ المطالبة بالتعويض عن جعجع سياسياً ومعنوياً من خلال انتخابه نائباً وتعيينه وزيراً[11].
في المقابل، وعلى الرغم من إصرارهم على تحقيق الوفاق والمصالحة الشاملة، تجاهل مؤيدو العفو عن جعجع اعتراض رئيس الحكومة الأسبق عمر كرامي، شقيق الرئيس رشيد كرامي على العفو. وكرامي كان قد أصدر بيان باسم العائلة شدد فيه على أن "عائلة الشهيد كرامي، كما فيحاء لبنان طرابلس، بل لبنان في أكمله لن يرضى أو يوافق على استباحة دماء الرشيد وأن تهدر على مذابح المصالح الآنية الانتخابية والسياسية[12]". وسانده رئيس التنظيم الشعبي الناصري النائب أسامة سعد الذي رفض "الإفراج عن بعض السياسيين في لبنان ممن ارتكبوا الجرائم بحق شعبنا. ونحن نقول نحن مع المصالحة الوطنية ولكن نريد أن تعرف الحقائق وأن تكشف كل الحقائق[13]". طلب رئيس مجلس النواب نبيه بري من ستريدا جعجع زيارة كرامي لكي تطلب منه إسقاط حقه الشخصي، إلا أن سمير جعجع رفض ذلك[14]. فزار وفد نيابي منزل كرامي لإقناعه بالقبول بقانون العفو. لكن كرامي تمسك بموقفه واعتبر أن العفو عن قاتل الرئيس رشيد كرامي سيؤدي حتماً لاحقاً "إلى تجاوز جريمة اغتيال الرفيق وسائر الجرائم التي تناولت رموز الوطن[15]".
وعلى الرغم من الاعتراضات، وجه 40 نائباً عريضة إلى بري طالبوه فيها بعقد جلسة اشتراعية للبحث في اقتراح قانون العفو عن جعجع وموقوفي الضنية ومجدل عنجر ومناقشة اقتراحات القوانين المتعلقة بالانتخابات[16]. ربط هؤلاء مصير العفو بإقرار قانون جديد للانتخابات. وهو ما أشارت إليه جريدة "النهار" في مقال للصحافي إميل خوري الذي نقل عن "معلومات نيابية" أن الجلسة ستعقد في حال تمّ الاتفاق على مناقشة قانون العفو فقط. "حتى إذا ما أقرّ مشروع العفو، فإن إقراره يمتص النقمة على اعتماد قانون العفو 2000 للانتخابات كأمر واقع ويشكل بالتالي تعويضاً عن عدم اعتماد قانون 1960 للانتخابات، أي محاولة مقايضة العفو بالسكوت على قانون الـ2000 والقبول به كأمر واقع[17]". من ناحيته، رأى الصحافي أحمد زين في "السفير" أن للعريضة "أبعاد سياسية بامتياز" فهي تأتي "عشية إجراء الانتخابات وبعد أن دخلت العملية الانتخابية في مرحلة التطبيق عملياً بصدور مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، الأمر الذي سيؤثر حكماً في نتائج الانتخاب. وهو لم يحصل إلا بعد أن أصبحت المواقف محكومة لمتطلبات المعركة الانتخابية[18]".
لم تعكر الاعتراضات الحسابات السياسية والانتخابية للأحزاب المؤيدة للعفو، فالظرف بات يحتّم خروج جعجع. أدركوا أن عليهم إحتواء نقمة قسم من اللبنانيين، فقرروا مقايضة العفو عنه بالعفو عن موقوفي الضنية ومجدل عنجر.
للعفو أيضاً حساباته الطائفية
فور بدء المطالبة بالإفراج عن جعجع، علت أصوات مقابلة طلبت إطلاق سراح المتورطين في ملفي الضنية ومجدل عنجر[19]، الذي كان قد مضى على سجنهم حوالي 5 سنوات دون صدور الأحكام في حقهم. ركز المدافعون على "المظلومية" التي طالت السجناء وعلى "المؤامرة" التي أدّت إلى توريطهم في الملفين. لكن في الواقع، أراد هؤلاء تحقيق توازن سياسي وطائفي يعادل بين المسيحيين والمسلمين. فإطلاق سراح أحد أمراء الحرب يجب أن يقابله العفو عن متورطين في حروب أخرى. كما يجب أن يُراعى أيضاً في هذه الحالة التوازن الطائفي. وهو ما أشار إليه الشيخ بلال شعبان في لقاء عقدته لجنة أهالي أولئك الموقوفين بعنوان "من أجل حريتهم" برعاية مفتي الجمهورية السابق الشيخ محمد رشيد قباني. دعا شعبان إلى "عفو عام يخرج الجميع من مختلف الطوائف من داخل السجن، وليشعروا جميعاً بانتمائهم إلى هذا الوطن[20]". لأن العدالة الفعلية بنظر الطبقة الحاكمة ورجال الدين لا تتحقق إلا إذا ارتكزت على الاعتبارات الطائفية.
وعليه، قدم عدد من النواب[21] في 15 نيسان 2005 اقتراح قانون معجل مكرر إلى مجلس النواب "لإطلاق سراح كل الموقوفين على ذمة التحقيق في أحداث الضنية ومجدل عنجر والبقاع الغربي[22]"، كما جاء في اقتراح القانون. ساند عدد كبير من النواب القضية، لا سيما نواب الشمال والبقاع لاعتبارات سياسية وانتخابية. تمنى النائب وليد جنبلاط على مجلس النواب ولجنة الإدارة والعدل "البت النهائي في الملف وإقفاله ورفع الظلم عن مجموعة من المواطنين وقعوا ضحية التسيّب الأمني والقضائي لأهداف سياسية رخيصة[23]". فيما طالب عضو المجلس الشرعي الاسلامي الأعلى عبدالله بابتي بحلّ مشكلة هؤلاء أسوة بما حصل في حق عملاء إسرائيل. وفي كلام بابتي إثبات إضافي على الاستخفاف والاستنسابية الذين تتعامل بهما الدولة مع الملفات الشائكة. فقد مُنعت المحاكمة عن عدد كبير من عملاء إسرائيل عام 2000 بعد ضغوط مارستها القيادات المسيحية. فيما صدر في حق قسم آخر منهم أحكام مخففة مراعاة للتوازنات السياسية. آنذاك، اعتبر المعنيون أن معالجة الملف بهذه الطريقة هدفه ترسيخ "المصالحة" أيضاً. تبيّن لاحقاً أن هذه المصالحة تحققت فقط في خطابات السياسيين.
بالعودة إلى ملفي الضنية ومجدل عنجر، وبموازاة التحرك على الصعيد التشريعي، أطلقت "لجنة أهالي الموقوفين" عريضة للمطالبة بإقرار قانون العفو عن أبنائهم. ورأت أن "إطلاق سراح هؤلاء الشباب هو تعويض جزئي وبفعل متأخر عن الإرهاب الذي ارتكب بحقهم ومورس عليهم، مطالبة بإطلاقهم بمعزل عن أي اعتبارات سياسية أخرى[24]". ودعت اللجنة أيضاً إلى اعتصام في ساحة الشهداء شارك فيه مفتي الجمهورية أيضاً والنائب عن طرابلس محمد الصفدي. هذا الأخير ربط طي صفحة الماضي بالعفو عن الموقوفين "بما يتلاءم مع أجواء هذه المصالحة والتفاهم بين اللبنانيين[25]".
وبناء عليه، قررت لجنة الإدارة والعدل وضع صياغة جديدة للقانون تقضي "بمنح عفو عام عن الجرائم المحالة على المجلس العدلي بموجب المرسوم رقم 1981 تاريخ 5/1/2000 والمتعلقة بملف أحداث الضنية ومجدل عنجر وكل القضايا المتعلقة بها، وكذلك القضايا المحالة أمام القضاء العسكري بموجب القرار الاتهامي رقم 1 تاريخ 13/1/2005" وإسقاط الملاحقات والمحاكمات العالقة بحق هؤلاء[26].
وكما تجاهل "مهندسو" العفو عن جعجع اعتراضات كرامي وغيره، لم يستجب أحد إلى مناشدات عائلة العقيد ميلاد النداف الذي قضى في أحداث الضنية. وسألت العائلة في بيان عن "كيف نخدم السلم الأهلي بإطلاقهم؟ الا يشجع هذا القانون على الإرهاب، ويكون إقراره حافزاً على تكرار أعمال مشابهة يدفع ثمنها عدد آخر من العسكريين والأبرياء؟[27]" ووجهت العائلة كتاباً إلى الرؤساء الثلاثة ولجنة الإدارة والعدل والنيابة العامة التمييزية والمجلس العدلي طالبة فيه ب ـ"عدم المساومة في ملف موقوفي الضنية لاسيما أن القضية لا تزال قيد المحاكمة. وهذه الجريمة هزت الوضع الأمني في لبنان بعد 10 أعوام من انتهاء الحرب. ولا ترتبط إطلاقاً بالحرب الأليمة التي استمرت من العام 1975 حتى [28]1990". وساندها في موقفها هذا الوزير السابق الياس المر، الذي توّلى وزارة الداخلية خلال أحداث الضنية، فرأى أنه يجب طرح ملف جعجع بمعزل عن ملف الضنية؛ "إن ملف جعجع مرتبط بالسياسة اللبنانية والمصالحة الوطنية. أما الملفات التي استجدت في الأعوام الأخيرة، فهي مرتبطة بالإرهاب الدولي وقرارت مجلس الأمن[29]".
ماذا عن بقية المحكومين والموقوفين؟
تزامنت الحراكات المرافقة لإقرار قانوني العفو مع تحرّك لأهالي بعلبك – الهرمل لمساواتهم ب ـ"شركائهم في الوطن". طالب الأهالي بإصدار عفو عام شامل يضمن خروج حوالي 33 ألف مطلوب من المنطقة من السجن، لاسيما أنهم أوقفوا بتهم أقلّ خطورة من الذين طالهم القانون. لم تتجاوز حراكاتهم البقاع فعمدوا إلى إقامة "حواجز محبة" لشرح قضيتهم للمارّة، وقطعوا الطرقات وأحرقوا الدواليب. وأرسل رؤساء البلديات والمخاتير وفاعليات المنطقة كتاباً إلى الرؤساء الثلاثة طالبوا فيه أن يشمل قانون العفو "المطلوبين السجناء من أولادنا ممن خالفوا القوانين قهراً… مكرهين على سلوك لم يؤمنوا به إلا تحت وطأة العوز والحاجة[30]". وشكّل الأهالي "لجنة متابعة العفو العام والشامل في لبنان" التي زارت نواب المنطقة والتقت مرجعيات دينية وسياسية للضغط على السلطة. فطالب نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان بأن يكون "العفو شاملاً وعاماً ولا يكون مقتصراً على جهة من دون أخرى"، داعياً إلى "حلّ مشكلة الموقوفين ليس في البقاع فحسب، بل في كلّ المناطق اللبنانية[31]". وأطلقت اللجنة حملة تواقيع انطلاقاً من مدينة بعلبك وقرى المنطقة وصولاً إلى كل المناطق اللبنانية تحت شعار "الانطلاق إلى كلّ المناطق اللبنانية لتطال مساحة الـ10452 كيلومتراً مربعاً ولتضمّ حوالي 10452 توقيعاً[32]".
وعلى صعيد آخر، علت أصوات تطالب بالعفو عن حبيب الشرتوني، قاتل رئيس الجمهورية الأسبق بشير الجميل، وذلك "باعتبار أن جريمة لاغتيال الجميل هي جريمة سياسية[33]". ما استدعى إصدار بيان عن عائلة الجميل هاجمت فيه المطالبين بالعفو والسلطة التي اعتبرت أنها "تراضي "بعض المطالب السياسية والانتخابية[34]". من جهته، طالب أمين سرّ منظمة التحرير الفلسطينية في الجنوب خالد عارف بأن يشمل العفو "الفلسطينيين المطلوبين والمحكومين سياسياً في كافة المخيمات الفلسطينية في لبنان أسوة بالأخوة اللبنانيين الذين يطالب بالإفراج عنهم[35]".
تبعا لذلك، أعيدت صياغة قانون العفو، لينص على عفو عام عن سمير جعجع ورفاقه بشأن أي فعل مرتكب قبل 31/12/1994 حوكموا به أو قد يلاحق أي منهم به. وعليه، وبدل أن يلغى الاستثناء الوارد في قانون 1991، جاء قانون العفو 2005 ليدخل استثناء على الاستثناء.
المصالحة الحقيقية؟
لم تتحقق أمنيات "المعارضة" بالإفراج عن جعجع قبل الانتخابات. أجّل بري الجلسة إلى ما بعد الاستحقاق النيابي، فاجتمع المجلس الجديد وأقرّ قانوني العفو عن جعجع وموقوفي الضنية ومجدل عنجر في 18 تموز 2005. اعترض النائب سليم عون على قانون العفو عن موقوفي الضنية ومجدل عنجر وانسحب نواب "الحزب القومي السوري الاجتماعي" مع نواب "حزب البعث" و"حزب الله" ونائب "التنظيم الشعبي الناصري" من الجلسة لعدم التصويت على قانون العفو عن جعجع. وأحال بري على لجنة الإدارة والعدل اقتراح النائب غازي زعيتر بشمول العفو على كل الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 31/8/2004. اعتبر النائب نقولا فتوش خلال الجلسة أن النواب لا يقدمون هدية إلى أهالي مجدل عنجر والضنية، إذ رأى أنهم "مستحقون وهم دفعوا وما زالوا يدفعون ثمن ظلامة ارتكبتها أجهزة أمنية وألصقت بهم قضايا وتهم ووقعنا أمام أحكام قضائية ألصقت بأناس أبرياء لذا نحن بكامل ارتياح الضمير علينا أن نقر هذا القانون القاضي بإسقاط الملاحقات بحق أهل مجدل عنجر والضنية[36]". أقر المجلس النيابي القانون بعد أقل من خمس دقائق نقاشات. وقع الرؤساء الثلاثة القانونين وأعرب رئيس الجمهورية "عن أمله أن يقوم المجلس النيابي في المستقبل القريب بوضع معايير لقانون عفو يكون شاملاً ومتوازناً[37]".
لكن هذا القانون الذي اعتبرته السلطة انجازاً وطنياً كرّس طي صفحة الحرب نهائياً، واجه حملة اعتراض كبيرة. اعتبرت عائلة كرامي في بيان أن قانون العفو عن جعجع "يؤسس لمزيد من الاعتداءات ويشجع الإجرام على حساب قيمنا…أية مصالحة وطنية هذه؟ عندما تتجاوز هذه المصالحة دم الضحية وتتجاوز عائلته، لتتم بين أطراف سياسية لا علاقة لها بالقضية ومن أجل مصالح انتخابية سياسية[38]". ورأى كرامي في حديث لـ"السفير" "أن اعتبار جعجع موقوفاً أو مسجوناً سياسياً فيه طعن بالقضاء اللبناني كله وهذا عيب[39]". وتلقت "السفير" أيضاً بياناً موقعاً من عائلات شهداء الجيش يعترضون فيه على العفو عن جعجع وموقوفي أحداث الضنية ومجدل عنجر. ورأت أنه: "…إن كان لا بدّ من الدفع لإنجاز قانون العفو في محاولة جدية للمصالحة الوطنية وطي صفحات الماضي الأليم فعليكم الأمانة أن تحكّموا ضمائركم للتمييز بين المصالح الآنية للسياسيين التقليديين والمسلمات الوطنية". وسجّل حادث بين شباب من "القوات" و"حزب الله" في عين الرمانة أدّى إلى وقوع قتيل وخمسة جرحى.
من جهتها، أصدرت "لجنة المتابعة للعفو الشامل" بياناً أسفت فيه "لعدم شمول العفو أبناء المنطقة". واعتبرت أن العفو "أضحى مسألة استنسابية يفيد منها بعضهم وتحجب عن شريحة أخرى". وتعهدت اللجنة الضغط على المسؤولين لاسيما في حركة "أمل" و"حزب الله" حتى انتزاع قانون عفو يشمل كل اللبنانيين من دون استثناء وطالبت المجلس بالتراجع "عن هذا الخطأ الفادح في حق اللبنانيين"، داعية إلى فتح السجون[40]. وشهدت بعلبك احتجاجات واسعة وقطع طرقات وإحراق دواليب رفضاً للصيغة التي أقرّ بها القانون. إلا أن اللجنة قررت بعد فترة وجيزة تعليق تحركها شهراً واحداً وإعطاء الفرصة من أجل إقرار العفو العام[41]. قانون ما زال أهالي المدينتين في إنتظاره حتى اليوم.
إرتفعت المطالب بإقرار عفو شامل، بغض النظر عن خطورة الجرائم المرتكبة وأحقية شمولها بالعفو. فيما اختصرت السلطة تكريس "المصالحة الوطنية" بإقرار هذين القانونين، وهي في الحقيقة شملتهم لتحقيق التوازن الطائفي والمكاسب الانتخابية. فالمصالحة لا تتمّ من خلال العفو عن متهمين ومحكومين بجرائم حرب وإرهاب فقط. هي مسيرة طويلة تقضي أولاً بتشجيع اللبنانيين على المصارحة والتصالح مع ذاكرتهم، لكي يتمكنوا من تقبّل الآخر ومسامحته. وذلك من خلال الكشف عن الجرائم التي ارتكبت بالإضافة إلى مصير المفقودين في الحرب والمعتقلين في سجون الاحتلال. وهي تستوجب محاسبة مجرمي الحرب، أقلّه من خلال إبعادهم عن السلطة. إذ لا يمكن أن تكون المصالحة حقيقية طالما أن أهدافها انتخابية أو سياسية أو طائفية. والدليل في عدد المواجهات، الدامية أحياناً، بين أركان السلطة ومناصريهم، وفي المواجهات بين القوى الأمنية والجماعات المتطرفة بعد 2005. وها أن السلطة نفسها تعد مجدداً اليوم اللبنانيين بإقرار قانون عفو يخدم حساباتها الانتخابية.
[1] ليال سعد. عفو عام أم عفى الله عما مضى. نشرة أخبار الجديد، 17 كانون الأول 2017
[2] العفو العام تابع… أين أصبح مشروع القانون؟ ومن يعمل على اعداده؟ نشرة أخبار أل.بي.سي. 15 كانون الثاني 2018
[3] قانون العفو العام تابع… هل سينضج الملف قبل الانتخابات؟ نشرة أخبار أل.بي.سي.، 13 كانون الثاني 2018
[4] فارس سعيد، أكرم شهيب، باسم السبع، علاء الدين ترو، جورج قصارجي ونعمة الله أبي نصر
[5] شهيب وأبي نصر سجلا اقتراح العفو. جريدة النهار، 13 نيسان 2005
[6] أبي نصر وشهيّب يسجلان اليوم اقتراح العفو عن جعجع في قلم المجلس. جريدة النهار، 12 نيسان 2005
[7] ستريدا جعجع أثارت وبري اقتراح العفو: جعجع من صانعي الطائف ولا وفاق الا بخروجه. جريدة النهار، 15 نيسان 2005
[8] الدور التشريعي الواحد والعشرون، العقد الاستثنائي الثاني، محضر الجلسة الثانية المنعقدة في 18 تموز 2005.
[9] اجتماع في يسوع الملك يتداول الإجراءات القانونية للعفو عن جعجع. جريدة النهار، 11 نيسان 2005
[10] اعتصام حاشد للمعارضة في ساحة رياض الصلح تأييداً للعفو عن جعجع. جريدة النهار، 5 أيار 2005
[11] المرجع المذكور أعلاه.
[12] عائلة كرامي: دم رشيد كدم الحريري أثمن من أن يفرط به. جريدة السفير، 28 نيسان 2005
[13] سعد ينتقد المطالبين بإطلاق جعجع: نريد الحقيقة في جريمة اغتيال والدي وشقيقي. جريدة السفير، 25 نيسان 2005
[14] ريتا شرارة. 38 نائباً بينهم فرنجيه وقعوا عريضة لعقد جلسة عامة في موضوعي جعجع والضنية. جريدة النهار، 8 أيار 2005
[15] كرامي: هل يرضون نحر الحريري وفليحان ثانية؟ جريدة النهار، 8 أيار 2005
[16] بري: ربط قانون العفو بقانون الانتخاب يعكس عدم جدية في تحقيق أي من المطلبين. جريدة النهار، 10 أيار 2005
[17] إميل خوري. محاولة مقايضة قانون العفو بقانون الأمر الواقع. جريدة النهار، 10 أيار 2005
[18] أحمد زين. لماذا لا يطالب موقعو طلب العفو بإصدار عفو رئاسي خاص؟ جريدة السفير، 11 أيار 2005
[19] وقعت اشتباكات بين جماعات إسلامية متطرفة والجيش اللبناني في منطقة الضنية بين 31 كانون الأول 1999 و2 كانون الثاني 2002. أسفرت المعارك عن سقوط 11 عسكرياً بينهم العقيد ميلاد النداف و15 مسلحاً وخمسة مدنيين. أوقف 12 شخصاً وتمّ إحالة الملف إلى المجلس العدلي عام 2000 الذي لم يصدر أحكاماً في حقهم. من جهة أخرى، تمّ توقيف 4 أشخاص من مجدل عنجر إتهموا مع آخرين بالتخطيط لتفجير السفارة الإيطالية والقنصلية الأوكرانية خلال عام 2004 انتقاماً من مشاركة دولتيهما في القوات العسكرية في العراق. لم يصدر بحق هؤلاء أية أحكام أيضاً.
[20] لجنة الإدارة والعدل تعيد صياغة اقتراحي قانون العفو. جريدة السفير، 21 نيسان 2005
[21] عبد الرحيم مراد، نجيب ميقاتي، جمال اسماعيل، صالح الخير، مصباح الأحدب وبشارة مرهج
[22] اقتراح للعفو عن موقوفي الضنية ومجدل عنجر. جريدة السفير، 16 نيسان 2005س
[23] جنبلاط يتضامن مع موقوفي الضنية ومجدل عنجر. جريدة السفير، 20 نيسان 2005
[24] تحركات واسعة في البقاع والشمال طلباً للعفو الشامل. جريدة السفير، 30 نيسان 2005
[25] تزايد المطالبة بالعفو عن موقوفي الضنية ومجدل عنجر. جريدة السفير، 6 أيار 2005
[26] منح عفو عام في ملف احداث الضنية ومجدل عنجر. الجريدة الرسمية عدد 30، 20 تموز 2005
[27] عائلة ميلاد النداف ترفض العفو: ما علاقة موقوفي الضنية بالحرب؟ جريدة النهار، 23 نيسان 2005
[28] استمرار التوقيع على عريضة إطلاق موقوفي الضنية. جريدة السفير، 23 نيسان 2005
[29] الياس المر: موقوفو الضنية وعنجر مرهونون بالـ1566. جريدة النهار، 12 أيار 2005
[30] آل جعفر قطعوا مداخل بعلبك وهددوا بـ"الثورة" ورؤساء بلديات طالبوا بعفو شامل. جريدة النهار، 20 نيسان 2005
[31] مذكرة من مخاتير بعلبك – الهرمل تطالب بالعفو الشامل. جريدة النهار، 7 تموز 2005
[32] أهالي بعلبك يواصلون حملة المطالبة بالعفو العام. جريدة السفير، 25 نيسان 2005
[33] مطالبة بالعفو عن الشرتوني والعلم. جريدة السفير، 19 نيسان 2005
[34] صولانج الجميل: نرفض استغلال العفو لتبرئة الأجهزة السورية من اغتيال بشير. جريدة النهار، 23 نيسان 2005
[35] الفلسطينيون يطالبون بالعفو أيضاً. جريدة السفير، 23 نيسان 2005
[36] الدور التشريعي الواحد والعشرون، العقد الاستثنائي الثاني: محضر الجلسة الثانية المنعقدة في 18 تموز 2005.
[37] لحود يوقع قانوني العفو. جريدة السفير، 20 تموز 2005
[38] عائلة كرامي: العفو عن جعجع يؤسس لمزيد من الاعتداءات. جريدة النهار، 20 تموز 2005
[39] غاصب المختار. كرامي لـ"السفير": اليوم قتلوا الرشيد مرة أخرى. جريدة السفير، 21 تموز 2005
[40] مطالبون بالعفو تظاهروا لليوم الثاني وقطعوا طرقاً دولية في بعلبك. جريدة النهار، 20 تموز 2005
[41] "لجنة متابعة العفو في بعلبك" تعلّق تحركها شهراً "لإعطاء فرصة". جريدة النهار، 12 آب 2005