في 27 آذار/مارس، صادق البرلمان التركي على مشروع "قانون الأمن" بعد ست عشرة ساعة من المناقشات[1]. وكان الحزب الحاكم قد تقدم بالمشروع[2] إلى البرلمان في الرابع عشر من شهر تشرين الأول الماضي، وضمّنه تعديلات مهمة على القوانين التركية والتي تعطي الأجهزة الأمنية الرسمية المزيد من الصلاحيات للتصدي لأي مشاكل أمنية أو حتى مظاهرات شعبية.
وكانت الأحزاب الثلاثة الأخرى الممثلة في البرلمان[3] قد اتفقت على معارضة القانون بقوة وبشكل موحّد، معتبرين أن من شأنه أن يحول تركيا الى دولة بوليسية[4]. فعملت بشكل غير اعتيادي على معارضته إعلامياً وعلى تنظيم مظاهرات أخذت شكل المزايدات الشعبية قبل الإنتخابات، فيما إندلع في البرلمان إشتباكان عنيفان بين النواب[5]، وإمتنع بعض نواب الحزب الحاكم عن الإلتزام بالتصويت للقانون.فعاد المشروع الذي تم التصديق على بعض بنوده خلال شهري شباط وآذار من العام الحالي إلى اللجنة البرلمانية المصغرة لإعادة دراسته[6]. ثم عاد وطُرح من جديد في البرلمان في 27 من شهر آذار حيث تم التصديق عليه.
كما نددت المنظمات المحلية والدولية المعنية بمشروع القانون قبل اقراره بشدة، وسط خوفها وتحذيرها الدائم من إستعمال الشرطة التركية للصلاحيات الكبيرة التي ستحصل عليها في حال إقرار القانون لتقييد الحريات العامة في تركيا.
الا أن القدرة السياسية لحزب "العدالة والتنمية" والأكثرية البرلمانية التي يملكها، كما تصميم أردوغان عبر اعتباره "أن القانون سيمر بطريقة أو بأخرى"[7]، أدت الى تذليل العوائق أمامه. واذ تضمن مشروع القانون المقترح بصيغته الأصلية 43 مادة[8]، أضافت اللجنة البرلمانية المصغرة والمرؤوسة من "العدالة والتنمية" عليه عدداً من المواد، فبات يتضمن ما مجموعه 132 مادة تقوم على ثلاثة محاور أساسية وهي: زيادة صلاحيات الشرطة دون تقديم ضمانات للمواطنين، وزيادة العقوبات ضد المتظاهرين، وزيادة صلاحيات حكام المحافظات على حساب رؤساء البلديات.
ويؤشر اصرار الحزب الحاكم على اقرار هذا القانون الى تخوفه من حصول اضطرابات وقلاقل في الصيف المقبل، في معرض اجراء الانتخابات البرلمانية القادمة، وخصوصا أن موعد الانتخابات يوافق الذكرى السنوية الثانية لمظاهرات "تقسيم" الحاصلة في صيف 2013. وكان سجل مؤخرا تصاعد التوترات الإجتماعية والمظاهرات، فكان الأكثرها دموية تلك المظاهرات المندّدة بعدم مساعدة الحكومة التركية الأكراد في معركة "كوباني" السورية في شرق البلاد في تشرين الأول والتي سقط فيها ما يزيد عن 40 قتيلاً[9]. ويضاف الى ذلك التهديدات التي يطلقها حزب "العمال الكردستاني" بين الحين والآخر معلناً انتهاء اتفاق وقف إطلاق النار، والعودة إلى العمل المسلح والنضال السياسي الشعبي ابتداء من الصيف، ما لم تقرّ الحكومة التركية مطالبه السياسية والثقافية الخاصة.
تعزيز صلاحيات الشرطة وتغيب الضمانات القضائية للمواطنين
يتضمن "قانون الأمن" سلسلة من التعديلات على القوانين التركية، على نحو يجعل من مسألة مكافحة الإخلال بالأمن أولوية بالنسبة الى الحريات العامة التي يقرها الدستور والقانون التركيان. فالقانون يعزز صلاحيات الشرطة، كما يجنب أعضاءها والمؤسسة الأمنية بشكل عام المساءلة القانونية في مواضيع عدة.
ومن أهم التعديلات في هذا المجال، توسيع صلاحيات الشرطة في تفتيش الأفراد والممتلكات (المنازل، السيارات، إلخ.). ففيما كان القانون التركي يفرض على أجهزة الشرطة الحصول على أمر من قاضٍ أو مدعٍّ عام للقيام بأي عملية تفتيش لأفراد أو ممتلكات خاصة، أجاز القانون الجديد للشرطة المبادرة في عمليات التفتيش من دون الرجوع إلى أحد والتعامل مع الأشخاص لمدة 24 ساعة من تاريخ التفتيش من دون أي إمكانية لمساءلتها من أي سلطة كانت. وهذا أحد البنود التي انتقدها المعارضة التركية معتبرةً أن إعطاء القدرة للشرطة الإفلات من أي رقابة لمدة 24 ساعة يضع المواطنين تحت رحمتها[10].
تعديل آخر أثار إنتقادات كثيرة في تركيا. وهو يتعلق بإمكانية احتجاز الأفراد لحدود 48 ساعة من الإعتقال من دون الحصول على موافقة من أي جهاز قضائي، والإجازة للشرطة البدء بالتحقيقات والحصول على الشهادات حتى قبل توجيه الإتهامات للأفراد. وتنتقد المعارضة هذا القانون لإعتبارها أن مهام الشرطة هي اعتقال الأفراد في الحالات الجرمية التي ينص عليها القانون وليس احتجازهم، خاصة أنه في هذه الحالة سيكون هناك غياب لحقوق الأفراد مع غياب الضمانات القضائية التي تصون حقوقهم خلال فترة الإحتجاز[11].
كذلك ينص أحد التعديلات على إمكانية الشرطة القيام بالتنصت لمدة 48 ساعة على أي مواطن أو موظف حكومي وذلك بالرجوع حصراً إلى "محكمة أنقرة للجرائم الخطيرة" وبعد الحصول على موافقتها.[12] وعلى الرغم من أن القانون السابق كان يُعطي الشرطة صلاحيات القيام بالتنصت لمدة 24 ساعة عند الإشتباه بأي عمل جرمي ومن دون الرجوع إلى أي سلطة قضائية، لقي هذا البند بدوره إنتقادات كبيرة من المعارضين الأتراك. فقد رأى هؤلاء أن السلطة التركية الحالية تسعى من خلاله إلى منع أي عملية تنصت على المسؤولين الحكوميين لا تمرعبر محكمة واحدة تُحكم السيطرة عليها. ويجدر الذكر أن الكثير من التسجيلات المسرّبة لأعضاء في الحكومة وكبار الموظفين في قضايا فساد قد ظهرت إلى العلن منذ العام 2013.
الرصاص الحي لـ"مكافحة" المظاهرات والمتظاهرين
على الرغم من أنه يخضع لرقابة دائمة في مسعاه للإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي، لم تنفع بيانات المنظمات الدولية والتصريحات الأوروبية في كبح جماح الحزب الحاكم في اقرار "قانون الأمن". ففي حين شددت المنظمات الدولية في تقاريرها الطويلة على خطورة المشروع حيناً كما على مساوئه أحياناً أخرى، إنتقدت المقررة في الشؤون التركية في البرلمان الأوروبي "كاتي بيري" مشروع القانون (قبل اقراره) معتبرة أنه "يتعارض مع حق التظاهر وحرية الفكر والحياة الشخصية التي تعتبر شروطًا أساسية ولا غنى عنها في دولة القانون التي تسودها الديمقراطية"، مضيفة أن المشروع يوسع صلاحيات الشرطة بدلاً من القضاء على الأخطاء السابقة[13]. ومرد هذا النوع من المواقف الأوروبية يعود إلى أن القانون الجديد يزيد من صلاحيات الشرطة في "مكافحة" المظاهرات، بحيث ضمّنه الحزب الحاكم صلاحيات واسعة لتمكين الشرطة من استخدام النيران الحية خلال المظاهرات في حالات متفرقة تتعدى حالات الدفاع عن النفس وحدوده.
هذه الصلاحيات الجديدة لا شك أنها ستجعل من عدائية الشرطة للمتظاهرين أكثر وضوحاً وتكراراً، الأمر الذي سيؤدي إلى تصاعد أعداد الجرحى والقتلى. بالإضافة إلى ذلك، سيتيح القانون لعناصر الشرطة الذين يستعملون الرصاص الحي إمكانية الحصول على غطاء قانوني يقيهم العقوبات المترتبة على أفعالهم.
كذلك، آل القانون الجديد الى تعديل مواد من القانون رقم 2911 المتعلق بتنظيم المظاهرات، وهي تعديلات تجعل من كل الأدوات المستخدمة في المظاهرات (قنابل المولوتوف، المفرقعات النارية، المقاليع الصغيرة، الحجارة، إلخ.) تصنَف بمثابة الأسلحة الحربية، ما يعطي الإمكانية للشرطة للرد عليها بالنيران الحية، كما بعقوبات تصل إلى حدود الأربع سنوات من السجن لحامليها[14]. بالإضافة إلى ذلك، اعتبر القانون استخدام أي قناع يغطي الوجه خلال المظاهرات جرما يعرض صاحبه لعقوبة تصل إلى أربع سنوات من السجن.
ويعود إدراج هذه التعديلات على القوانين إلى الحاجة التي طرأت على عمل الشرطة التركية خلال السنتين الأخيرتين، حيث تطورت أساليب المظاهرات في تركيا وشعاراتها والأدوات المستعملة فيها. كما تؤدي الى تخفيف العقوبات التي تطال عناصر الشرطة بعد فضهم للمظاهرات أو ممارستهم لبعض العنف تجاه المتظاهرين.
من ناحية أخرى، سعى نواب الحزب الحاكم إلى الدفاع عن بنود مشروعهم بالإتكال دوماً على أمثلة من القوانين الأوروبية لإقناع الجمهور التركي، كالقول مثلاً بأن القانون الألماني يعتبر أن كل ما يُستعمل بوجه الآخر في المظاهرات هو بمثابة السلاح الحربي، أو إن قوانين الإتحاد الأوروبي تجيز تفتيش السيارات والأفراد من دون الرجوع إلى السلطة القضائية في حالات محددة[15]. في المقابل، أسندت الأحزاب المعارِضة انتقاداتها على بيانات ودراسات منظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية، لعلمها المسبق أن زيادة صلاحيات الشرطة لن يكون إلا على حسابها، ولمصلحة الحزب الحاكم.
تعزيز صلاحيات المحافِظين على حساب رؤساء البلديات
تضمّن القانون الجديد مجموعة تعديلات لتغيير بعض القوانين التركية المتعلقة بصلاحيات المحافِظين. ومنها ما يجيز لهم الحق في التدخل بعمل الشرطة وتحقيقاتها، كما استخدام موارد البلديات الخاصة من دون الرجوع إلى أصحاب الشأن في ذلك، وهم رؤساء البلديات المنتخبين شعبياً.
ففي تركيا 81 محافظة مرؤوسة من محافِظين يتم تعيينهم من قبل الحكومة، وليس بالإنتخاب الشعبي. وقد شهدت تركيا خلال مظاهرات "تقسيم" في العام 2013 خلافات دائمة ومتعددة بين المحافِظين ورؤساء البلديات التابعين لأحزاب المعارضة. فكان بعض رؤساء البلديات يمتنعون عن إرسال الآليات التابعة لإداراتهم للتصدي للمظاهرات[16]، ما ولّد حاجة عند الحزب الحاكم لنقل هذه الصلاحيات إلى المحافِظين المعينين من قبله، خصوصاً أن أغلب المناطق التي تشهد مظاهرات وحالات شغب هي، بشكل عام، تلك المرؤوسة بلدياتها من قبل أحزاب أخرى غير الحزب الحاكم.
ويحاول الحزب الحاكم عبر القانون الجديد التصدي لنقص قدرته بالتحكم في كل أشكال السلطة المحلية، وذلك عبر تمكين المحافِظين الموالين له من استخدام موارد البلديات في حالات المظاهرات. كما يجيز معاقبة رؤساء البلديات بالسجن من ثلاثة أشهر إلى سنة في حال لم ينفذوا أوامر المحافِظين[17]، ما دفع منظمة "هيومن رايت وتش (Human Rights Watch)" الى إعتبار أن هذا الموضوع هو "خرق لأبسط القواعد القانونية"[18].
كذلك يمنح "قانون الأمن" المزيد من السلطة للمحافِظين من خلال إعطائهم بعض الصلاحيات المصانة قانوناً للمدعين العامين، كالقدرة على إصدار أوامر للشرطة للتحقيق في أي جريمة وتوجيه الشرطة للعثور على الجناة. وهذا ما يمكن أن يجعل من المتظاهرين، حسب المعارضة، عرضة للمساءلة والمحاسبة الإنتقامية من قبل هؤلاء.
وتبرز مساوئ هذا القانون في أنه يجرد سلطة رؤساء البلديات المنتحبين من صلاحياتهم بمجرد نقل بعضها إلى المحافِظين، فيجعل من الموظف المعين بقرار حكومي أقوى في صلاحياته من رئيس البلدية المنتخب من قبل المواطنين والحائز على الشرعية الشعبية. أما الأسوأ، فهو تغوّل المحافظين على صلاحيات السلطة القضائية، في خرق واضح لمبدأ فصل السلطات.
خلاصة
مع إقرار "قانون الأمن" بات في جعبة حزب "العدالة والتنمية" الحاكم كامل المبررات القانونية الضرورية للتصدي لأي محاولات لزعزعة الإستقرار في تركيا. كذلك، بات باستطاعة الحكومة التعامل بسهولة أكبر مع المظاهرات والاحتجاجات المتوقعة، وذلك بعدما أقر البرلمان صلاحيات واسعة لأجهزة الشرطة والمحافِظين الموالين لتوجهها السياسي.
بالإضافة إلى ذلك، وفي إنتظار صدور القانون في الجريدة الرسمية، وإقتراب موعد إختتام الدورة العادية للبرلمان التركي في السابع من شهر نيسان، لم يبقَ للمعارضة إلا إستخدام ورقة اللجوء إلى المحكمة الدستورية. فيما الحزب الحاكم يضع اللمسات الأخيرة على حملته الإنتخابية من ناحية ويعزز صلاحيات الحكومة التي يسيطر عليها من ناحية أخرى، وهو الذي استطاع إقرار القانون الذي يريده على الرغم من توحد المعارضة النادر ضده، كما التخفيف من أهمية المظاهرات الشعبية والبيانات والدراسات القانونية المنددة بمضمون القانون.
إضافة إلى الصراع السياسي والبرلماني الطبيعي بين الحزب الحاكم والأحزاب المعارِضة، يُبرز القانون المقر، والأحداث التي رافقت إقراره، صراعاً على جبهتين أخريين في تركيا.
الأول، هو صراع خفي ما بين السلطة التنفيذية وتلك القضائية. فقد هدف الحزب الحاكم من "قانون الأمن" الى تحجيم السلطة القضائية في التعامل مع الأحداث التي تقع في تركيا وذلك لصالح أجهزة الدولة التنفيذية الموالية له. ومرد ذلك قد يعود إلى أن بعضاً من أجهزة السلطة القضائية لا تزال بمنأى عن التأثير السياسي للحزب الحاكم، فيما عمل سابقاً بعض المدعين العامين والقضاة المقربين من الأحزاب المعارِضة أو المستقلين على إصدار أحكامٍ "متسامحة" مع المتظاهرين أحياناً أو الشروع في دعاوى ومحاكمات لعناصر موالية للحزب الحاكم.
أما الصراع الثاني، فهو يدور بين السلطة المركزية والسلطات المحلية، وتحديدا بين المحافِظين الموالين للحكومة ورؤساء البلديات الذين يتبع قسم منهم أحزاب المعارضة، ولا سيما في المناطق التي تشهد مواجهات مع السلطة المركزية. وقد حقق الحزب الحاكم من خلال القانون هدفه في توسيع صلاحيات المحافِظين على حساب هؤلاء، وفي ذلك مصلحة للحكومة وللحزب الحاكم لأنهما حققا إمكانية التحكم بكامل السلطة والإمكانيات المادية لمواجهة أي اضطرابات طارئة.
مع إقرار "قانون الأمن"، يخسر الأتراك حتماً بعضاً من الحماية التي كانت مصانة لهم في القوانين التركية. لكن الخسارة الأكبر قد تكون، ربما، للأحزاب المعارِضة التي لم تتمكن مجتمعةً من منع إقرار قانون لا تريده. يبقى من المرجح جدا أن يكون صيف العام 2015 حاراً، وأن يشهد مواقع عدة يُستعرض فيها سلاح القانون الجديد.
[2]الإسم الرسمي لمشروع القانون هو "مشروع قانون بشأن تعديل قانون واجبات وصلاحيات الشرطة، وقانون منظمة الدرك، والمهام والسلطة، وقانون خدمات السجل المدني ومراسيم قانونية أخرى"، إلا أن الإعلام التركي غالباً ما يستعمل تعبير "قانون الأمن" للدلالة عليه.
[3]عدى حزب "العدالة والتنمية" الحاكم ذو التوجه الإسلامي المحافِظ، ثلاثة أحزاب أخرى تتمثل في البرلمان التركي وهي: حزب "الشعب الجمهوري" العلماني، حزب "الحركة القومية" اليميني المتطرف، وحزب "الشعوب الديمقراطي" ذو الأكثرية الكردية والتوجه اليساري.
[8]T. C. başbakanlık kanunlar ve kararlar genel müdürlüğü [Turkish Republic laws and decisions of the Prime Minister's general directorate], Polis Vazife ve Salahiyet Kanunu, Jandarma Teşkilat, Görev ve Yetkileri Kanunu, Nüfus Hizmetleri Kanunu ile Bazı Kanun ve Kanun Hükmünde Kararnamelerde Değişiklik Yapılmasına Dair Kanun Tasarısı [Draft Bill on Amending the Law on Duties and Powers of Police, Law on Gendarmerie Organization, Task and Authority, Law on the Civil Registration Services and Other Decree Laws], November 24, 2014. Accessed in 25/3/2015, available on:
http://www2.tbmm.gov.tr/d24/1/1-0995.pdf