قاضي الجمهوية الثانية: أي إصلاح لأصول التكوين؟


2017-07-04    |   

قاضي الجمهوية الثانية: أي إصلاح لأصول التكوين؟

ينص الفصل الثالث من القانون عدد 80 لسنة 1985 المحدث للمعهد الأعلى للقضاء على انه مؤسسة تعمل على “تكوين الملحقين القضائيين نظريا وعمليا بما يؤهلهم لممارسة مهنة القضاء”[1]. لم يبيّن النصّ التشريعيّ الأهداف النظرية للتكوين المطلوب، إلا أن تاريخ صدور القانون ووصفه القضاء بأنه مهنة يؤكّدان أنّ العقيدة التي فرضت كهدف غير معلن لعمل المعهد لا تتصل بقيم استقلالية القضاء، بما يفرض الدعوة لإصلاح عاجل لبرامج التكوين بالمعهد الأعلى للقضاء.  

القاضي الخاضع: منتوج طلبته السلطة من المعهد

بتاريخ 10 و11/4/1985، أضرب القضاة التونسيون عن العمل لأول مرة في تاريخهم مطالبين بتوفير ضمانات استقلالية القضاء وتحسين ظروف عملهم. فاجأت الخطوة السلطة السياسية واستشعرت فيها خطرا، فبادرت لاتخاذ إجراءات تأديبية في حقّ من قادوا التحرك، كما حُلّت جمعية القضاة الشبان التي دعت إليه[2]. لم تكتفِ السّلطة باستعمال قبضتها في مواجهة التمرد القضائي وبحثت عن معالجة جذرية لأسبابه وفق تصورها الإستبدادي.

انتهى البحث لكون من تحمسوا لشعار استقلالية القضاء كانوا من القضاة الذين تخرجوا حديثا من الجامعة ولا زالوا تحت تأثير الحراك الفكري والسياسي الذي كانت تعرفه. ودفع هذا التشخيص الحكومة إلى الاسراع بسن القانون المحدث للمعهد الأعلى للقضاء. وعليه، وفيما كان الهدف المعلن لإنشاء المعهد هو تحسين التحصيل المعرفي المهني للقضاة، فإن هدفه غير المعلن كان صناعة القاضي الذي يمارس الخضوع للسلطة بشكل طوعي.

يؤكد خرّيجو المعهد في حديثهم عن مرحلة تجربة تكوينهم الأساسي أنّ المعهد لعب بإتقان الدّور الذي رُسم له. فيذكرون أنه كان مؤسسة تنتج خطابا يمجّد الهرمية وتنشر ثقافة الخوف في وسط الملحقين القضائيين من المسؤول القضائي. ولم ينتهز المعهد الأعلى للقضاء فرصة  الثورة ليخضع نشاطه التكويني هذا  للسؤال بحثا عن إصلاح ذاتي. وكان يمكن أن يكون تمشيا كهذا مدخلا لممارسة ديمقراطية تعتمد التقنيات العلمية في فتح ورشة الإصلاح الذي طال انتظاره والذي يتعين على المجلس الأعلى للقضاء أن ينتقيه ليكون باكورة جبهات نضاله.

استقلالية القضاء: عقيدة المعهد الجديدة

ينتظر أن يلتحق  خلال سنتي 2017 و2018 سبعمائة ملحق قضائي عدلي بالمعهد الأعلى للقضاء تنفيذا لقرار حكومي أعلن عنه بتاريخ 18/03/2017[3]. وسيكون من أثر هذا تطوير عدد القضاة بنسبة تناهز 25%. وتدفع أهمية عدد المنتدبين الجدد  أن يتم إعطاء إصلاح التكوين بالمعهد الأعلى للقضاء الأولوية في عمل المجلس الأعلى للقضاء ليكون القضاة الجدد أول من يتلقون تكوينا يعتبر القضاء سلطة لا مهنة ويعمل على وضع هدف له ترسيخ  قيم الإستقلالية في القاضي.

قد يتمسك البعض بطرح السؤال عن علاقة المجلس الأعلى للقضاء بإصلاح العقيدة التكوينية للمعهد الأعلى للقضاء في ظل قانونه الأساسي الذي حرمه سلطة الإشراف على المعهد. وهو سؤال يجد جوابه في ذات قانون المجلس الذي ألزم المجلس الأعلى للقضاء بإبداء الرأي في برامج التكوين بالمجلس الأعلى للقضاء وأعطاه صلاحية تعيين مدرائه الذين يشكلون عماد مجلسه العلمي.

ويُنتظر تالياً من المجلس الأعلى للقضاء أن يُبادر لطرح تصوّر لإصلاح تكوين القضاة يكون خيطه الناظم السعي لرفع كفاءتهم الحقوقية وتمتين عقيدة الإستقلالية. ولن يتحقّق هذا الإصلاح إلا إذا تجاوزنا فكرة أن هدف التكوين بالمعهد الأعلى للقضاء هو معاودة تلقين الملحقين القضائيّين موادّ قانونيّة كانوا قد درّسوها في سنوات الجامعة واجتازوا بفعل نجاحهم فيها مناظرة الإلتحاق بالمعهد الأعلى للقضاء. فالهدف الأساسي لتكوين القضاة في المعهد يفترض أن يكون تكوينهم على قيم العمل القضائي (النزاهة والإستقلالية والكفاءة) وممارسة الوظيفة القضائية (حامي الحقوق والحريات) كما حددها دستور الجمهورية الثانية. ويقتضي أن نعتمد في صياغة برامج التكوين على مختصّين في علم الإجتماع القضائي وعلم النفس السلوكي يطلب منهم تحرّي أفضل الأساليب البيداغوجية لزرع ثقافة  احترام قيم المحاكمة العادلة في السلوك القضائي. ولتحقيق ذات الغاية، يجب أن نبحث فيمن ينتدبون للتدريس بالمعهد المثل الأعلى الحامل لروح الاستقلالية والكفاءة والفكر الحر.

ويجب في هذا الإطار أن يكون المعهد المختبر الذي تخضع فيه الممارسات القضائية الماسّة بشروط المحاكمة العادلة للدراسة العلمية بغاية البحث عن علاجات لها. ومن ذلك ضرورة النظر في تعامل القضاء مع الإجراءات الماسة بالحرية كالإذن بالإحتفاظ والإيقاف، علاوة على فحص أدبيات عمل النيابة العمومية بداية من مقولة الإحالة بالأحوط[4] وإنتهاء بإعمال مبدأ الإستئناف والتعقيب شبه الآليين لكل الأحكام الصادرة بعدم سماع الدعوى. كما يجب أن يكون التربّص مدخلاً لمصالحة القاضي مع محيطه بفرض التربص بمكاتب محاماة وبكتابة المحكمة.  

نشر في العدد 8 من مجلة المفكرة القانونية في تونس


[1] القانون عدد 80 لسنة 1985  مؤرخ في 11-08-1985   
[2] تم حل جمعية القضاة الشبان التونسيين التي تأسست بتاريخ 12-11-1977 بموجب قرار صدر عن وزير الداخلية بتاريخ 15-04-1985                    
[3] تصريح وزير العدل غازي الجريبي في ندوة صحفية عقدت اثر مجلس وزاري مضيق بتاريخ 18-03-2017
[4] جرى العمل في النيابات على  استعمال هذا المصطلح الذي يفيد انه يجب ان توجه النيابة دوما  كل ما يمكن ان ينسب من جرائم للمشتبه به دون كبير تحر في توفر شروط الادانة من عدمها و يعني هذا المصطلح اعتماد الاحالة بالشبهة وترك امر  تحري ثبوت الادانة للمجلس القضائي

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني