شهران قبل الاستفتاء، تخوض الساحة السياسية في تونس مخاضا عسيرا قد ينهي التجربة الديمقراطية الفتيّة التي شهدتها البلاد عقب الثورة. لحظات عسيرة، تتخبّط فيها الأحزاب دون تحصيل فعل سياسيّ مؤثّر بينما يتحكّم سعيّد بمسار الأحداث ويستحوذ على سلطة الفعل والمباغتة، مستندا بشكل خاص وأكثر من أي وقت مضى على وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية.
وزارة الداخليّة طرف في الصراع السياسي
تعزّزت سلطة وزارة الداخلية بعد 25 جويلية، بإيعاز كبير من قيس سعيّد، رئيس الجمهورية، لمدى أهميتها لإرساء واستمرارية سلطة هذا الأخير. فلا يخفى أن سعيّد يحافظ على شرعيته المشوّهة وسلطة قراراته بقوّة الأجهزة الأمنية أوّلا والعسكرية ثانيا، وأن وزارة الداخلية وأجهزتها تقوم باستغلال الوضع واسترجاع نفوذها وسلطتها الأوسع منذ اندلاع الثورة. فما كان إفرادًا للوزارة بزيارات سعيّد المتكررة لمقرّها وإعلان حلّ المجلس الأعلى للقضاء من مقرّها، وإطلاق الوعيد والتهديد لمعارضيه أمام مسؤوليها إلا بعض الأدلة على تقديم هذه الوزارة كلبنة أساسية ببنية حكم سعيّد التي يشكّلها. تفضيل وفسح للمجال يُحسن أعوان الوزارة استخدامه وعلى رأسهم الوزير توفيق شرف الدين، الذي يطلق بدوره يد هذه المؤسّسة لتوسيع نفوذه في الحكومة والتي تخطت دائرة قرار رئيستها. فقد ضرب شرف الدين عرض الحائط مبدأ حياد الإدارة، عبر منع الوقفات الاحتجاجية المنظمة من طرف معارضي سعيّد أو على الأقلّ التضييق عليها، مقابل فتح شارع الحبيب بورقيبة على مصراعيه لاستقبال أنصار الرئيس.
لم تنحصر هذه الممارسات الفاضحة على مستوى الأعوان فقط، بل تمّ تعميقها من قبل الوزير ذاته الذي نزل يوم 08 ماي خلال الوقفة المساندة لسعيّد، لتفقد الوحدات الأمنية المتمركزة في شارع الحبيب بورقيبة والأنهج المتفرعة عنه حسب نصّ الوزارة. لا يمكن اختصار عملية الزجّ بوزارة الداخلية وأعوانها في المعادلات السياسية والمعركة على سلطة القرار في جولة الوزير بين صفوف الأعوان ومصافحته لهم بل في الصورة العامة التي تمّ إخراجها للوزارة ذلك اليوم خصوصا بعد صدور قرار الوالي القاضي بتخصيص شارع الحبيب بورقيبة لممارسة الأنشطة الثقافية والذي قام هو الآخر بالمشاركة في هذه الوقفة خلافا لما نصّ عليه قراره.
صور لا يمكن قراءتها سوى كرسائل متعدّدة العناوين؛ رسالة للأمنيّين لفتح الفضاء العام أمام مناصري رئيس الجمهورية في تمييز صريح مع طريقة التعاطي مع معارضيه، ورسالة إلى الأطراف المناوئة لرئاسة الجمهورية مفادها وحدة الوزارة واصطفافها مع منظومة الحكم الجديدة في خرق تامّ لواجب حيادها ومفهوم الأمن الجمهوري الذي طالما تغنّى به الأمنيون أنفسهم.
فالمؤسسة المتمتّعة بقوة السلاح حصرا والتي يقع على عاتقها تطبيق القانون والقرارات الإدارية بكلّ حياد، قامت يومها باستقبال المساندين لسعيّد خلافا لما كانت تمارسه من تضييق على حرية التظاهر لمعارضيه. وهي بذلك تتدخّل في ضبط نسق وحجم الحراك السياسي في الشارع وتفرض خيارا سياسيا محدّدا لتشارك فعليّا عبر أجهزتها في معركة سياسية فضاؤها الأصلي صندوق الاقتراع والمؤسسات المُنتخبة.
لم تقتصر فضيحة ما قام به الوزير على التبجّح وإبراز الوزارة كمؤسسة تابعة لتوجّه سياسيّ معيّن بل تمادتْ لتصريحه الإذاعي في اليوم ذاته بأنّ “الأمن القومي فوق الحقوق والحريات”. وهو ما يتناسق تماما مع العقل الأمني بالوزارة وما يتنافى مع ما يُسهب سعيّد بالتصريح به من حرص على الدفاع والحفاظ على الحقوق والحريات.
من الملعب السياسي إلى الملعب الرياضي؛ البوليس حاضر دوما
تطبّق الوزارة شعار “الأمن القومي أهمّ من الحقوق والحريات” ليس فقط في الفضاءات العامة ذات الرموز السياسية الهامّة وإنّما أيضا في الفضاءات الرياضيّة بحجة التدخّل ضدّ من تسميهم الوزارة والنقابات الأمنية ب”مثيري الشغب” قاصدة هنا الجماهير الرياضيّة. فقد شهدت الأسابيع المنقضية عدّة إيقافات تعسفية ضدّ المشجعين الرياضيين المنادين بالعدالة في قضية شهيد الملاعب عمر العبيدي. إذ حظيت قضية عمر، الذي قُتل على يد أعوان البوليس في حادثة مروعة، بتضامن غير مسبوق من قبل جماهير الأندية المختلفة التي طالبت بتحقيق العدالة عبر أهازيجها وشعاراتها، الأمر الذي أزعج أعوان البوليس ونقاباتهم. فوقع الاعتداء بالعنف على جماهير الأندية الرياضية التي ردّدت نشيد التضامن مع قضية عمر وتمّ إيقاف العديد منهم بعد المباريات قصد ترويع مجموعات التشجيع. كما تمّ إيقاف 3 شبان بمنطقة قابس على خلفية رسمهم لوحة جدارية تذكّر بقضية عمر العبيدي واتهامهم بذات التهم الكيدية والفضفاضة التي اعتادتْ الوزارة استعمالها كهضم جانب موظف عمومي قصد إيقاف حملة الدعم والتضامن المنتشرة والتي لم يشهدها المجال الرياضي من قبل. بطش أدانته حملة تعلّم عوم المساندة لقضية عمر العبيدي التي اتهمت النقابات الأمنية بتشويهها والتشكيك بها عبر انتهاج ما أسمتْه استراتيجيا قديمة دأبت عليها سلطة القمع لطمس العدالة وتشويه أصحاب الحقّ.
من جانب آخر وعلى إثر انعقاد اجتماع جمع بين وزارة الشباب والرياضة، وزارة الداخلية وجامعة كرة القدم للنظر في مسائل تنظيمية متعلقة باللقاءات الكروية، تمّ تداول موقف ممثلي وزارة الداخلية الرافض لبيع تذاكر المباريات إلكترونيا. رفض وجّه أصابع الاتهام إلى الوزارة ومن خلفها النقابات الأمنية بحماية ممارسات البوليس الفاسدة عبر إطلاق أيديهم للتدخّل والانتفاع من بيع التذاكر في السوق السوداء أمام الشبابيك المخصصة لذلك في الملاعب. جاء تأكيد هذه الاتّهامات في شكل فيديوهات، تم تداولها أيّاما بعد هذا الاجتماع، توثّق عملية بيع التذاكر من قبل أعوان البوليس في سيارة الأمن المخصّصة من قبل الوزارة لتأمين أحد الملاعب.
لا تنحصر محاولة هيمنة أعوان البوليس على عملية بيع تذاكر المقابلة الرياضية فقط في الانتفاع المادي غير القانوني فقط. بل ترمي أيضا لتوسيع نفوذها على المدارج والتحكّم في الجماهير وحقّهم في النفاذ إلى الملاعب الرياضية عبر التمركز في مداخل المركّبات والفضاءات الرياضية وملاحقة المشجّعين الذين قد يرفعون شعارات لا يستسيغها أعوان الأمن على غرار مطلب تحقيق العدالة في قضيّة عمر وغيره من ضحايا العنف البوليسي، لتطال عصا البوليس لا الملعب السياسي فحسب، بل والملاعب الرياضية.
التجارة والدين: مساحات أخرى للنفوذ والتدّخل
لم تشمل دائرة تسلّط وزارة الداخلية المجاليْن السياسي والرياضي فقط وإنما أيضا مجال النشاط التجاري والحريّات الفردية. فقد قامت الوزارة بغلق الحانات ومنعتْ بيع الخمور ثاني أيام عيد الفطر دون تقديم أي تفسير لأصحاب المحلاّت المتحصلين على الرخص القانونية لممارسة هذا النشاط التجاري ودون توضيح السند القانوني لتطبيق مثل هذا القرار. بالإضافة إلى هذا المنع التعسفي، تم تطبيق هذا القرار بطريقة اعتباطية فتمّ غلق الحانات في وسط العاصمة بينما تم السماح للمحلات الأخرى التي تقع في مناطق يقطن فيها الأجانب وأو يرتادها السياح بمزاولة نشاطها. لا ينحصر تدخّل وزارة الداخلية في النشاط التجاري على مستوى أوقات فتح وغلق الحانات أو إسناد رخص بيع الخمور فقط بل تتدخّل أيضا في فتح المحلات التجارية من مقاهٍ ومطاعم طيلة شهر رمضان لتقوم بإيقاف وتتبّع من تسميهم “بالمفطرين”. فعلى سبيل المثال، وقع إيقاف أربعة أشخاص من بينهم صاحب مقهى واتهامهم بالتجاهر بالفحش على خلفية “إفطارهم” خلال شهر رمضان والذي حكم القضاء بعدم سماع الدعوى في حقهم لاحقا. في غياب أي نصّ قانوني يفرض الغلق، تواصل الوزارة هذه الممارسات بطريقة تعسفية مستندة بذلك على منشور داخلي للوزارة ذاتها لم يتم نشره بالرائد الرسمي للدولة ولا يعلم المواطنون شيئا عن محتواه.
وبذلك، سحبت وزارة الداخلية مسألة الحريات الفردية والالتزام بالشعائر الدينية من عدمه من دائرة الفضاء الخاص إلى الفضاء العام، تحت ذريعة تمتّع هذه الأخيرة بسلطة تقديرية لتحديد ما يستفزّ الناس والتعلّل بحماية الهوية الجماعية. وهذا الأمر لا تكمن خطورته فقط في كونه يعزّز هيمنة وزارة الداخلية وأجهزتها على أبسط تفاصيل حياة التونسيّين، بل يعيد طرح جدلية علاقة الدولة ومؤسساتها بالدين بما يتناقض مع سردية رئيس الجمهورية وأنصاره حول استغلال حركة النهضة وأتباعها للدين وتوظيفه سياسيّا. بل ويعكس نظرة أحادية للمجتمع وهويته. فقد أسرفت بذلك وزارة الداخلية تحت الحكم الفردي لسعيّد في التضييق على الحريات الشخصية للأفراد بصفة عامة (كحرية التنقل، وحرية إبداء الرأي خصوصا على مواقع التواصل الاجتماعي) وتعمّدت فرض تأويلها ورؤيتها للديني والمعتقد.
ما يمكن أن يمثّل شكلا من أشكال صراع مجتمعي مشروع له خلفياته الخاصة أصبح أداةً بيد وزارة الداخلية لاختلال التوازن بين السلطة والحرية وضرب هذه الأخيرة. فما شأن وزارة الداخلية بالنموذج المجتمعي الذي يتصارع حوله التونسيون ومن فوّضها لتتدخّل بأبعاده الفكرية والمادية وطبيعة العلاقات التي تحكمه.
في غياب أي مؤسسات أو دراسات تعنى بتحليل ودراسة النظرة المجتمعية لمثل هذه الممارسات، يمكننا التساؤل هل أنّ وزارة الداخلية تحاول الحفاظ على الخصوصيات الثقافية لمجتمع محافظ يأبى قبول الاختلاف أم أنّ هذه الوزارة تقوم بفرض رؤيتها المؤسساتية المحافظة على مجتمع يخوض تغييرات عميقة ويسعى لتأسيس ثقافي جديد. في ظلّ هذا النقاش، أما كان أجدر بأن تلتزم هذه المؤسسة باحترام مبادئ الحياد والمساواة المحمولة عليها وأن تكتفي بتطبيق القوانين الجاري بها العمل دون أي اجتهاد عقيم يصل حدّ استنباط نصوص داخلية تتجاوز حدود القانون والدستور؟
من جهة أخرى، قامت الوزارة بإيقاف شاب على خلفية بيعه وجبات سريعة بالشارع خلال شهر رمضان عقب الإفطار . كما قامت بإيقاف إمرأة تحاول إعالة أبنائها بمنطقة الكبارية عبر توفيرها أراجيح للأطفال بالفضاء العام واقتيادها لمركز الشرطة أين تمّ الاعتداء عليها بالعنف الشديد والاحتفاظ بها. صور مختلفة لتدخّل البوليس في أنشطة تجارية يجوز النقاش حول مدى احترامها للشّروط القانونية. ولكنّها في كلّ الحالات لا تقتضي أبدا إجابة أمنية عنيفة بل تدخّلا من قبل الهياكل المؤسساتية الرقابية للدولة. إنّ تسلّط القوات الأمنية يتقاطع تماما مع سياسة سعيّد التي تعتمد على المقاربة الأمنية لحلّ مشاكل لا علاقة لها بهذا الشأن، بدل وضع سياسات عامة متكاملة. وقد تجلّت هذه المقاربة بوضوح في مجالات التلقيح والاحتكار ومقاومة الحرائق وإدارة النفايات وغيرها.
فكأنما استعراض الأجهزة الأمنية وقوّتها بات الرمز الوحيد للإنجاز والصورة المثالية لقوة الدولة وصمودها وقدرتها على التعامل مع الواقع.