عند المدخل الجنوبي لمدينة طرابلس، يستقبلكم نُصب تذكاري حفرت عليه أسماء 39 شخصًا لا يزال مصيرهم مجهولًا بعد أن غرق القارب الذي حملهم مع عائلاتهم في 23 نيسان 2022 في البحر الأبيض المتوسّط. اليوم، وقبل شهرين من الذكرى الثالثة لتلك الحادثة المأساوية، يكافح أهالي المفقودين في البحر المتوسط لإبقاء قضية أبنائهم الغرقى حية. ويقول أسعد قالوش والد المفقودة سمر عبر “المفكرة”: “حملتهم حالة اليأس من الأوضاع المنهارة في بلادهم إلى البحث عن مأوى قابل للحياة”. ويضيف: “عبثًا نحاول أن نتكيّف مع فكرة رحيلهم، نعود إلى العمل المعتاد، ولكن مهما حاول الآباء النسيان، فإنّ محاولاتهم تبوء بالفشل”. وما يعمّق حزنه على ما يقول هو أنّ “قضية المفقودين لم تلقَ الاهتمام المطلوب من الدولة، ولم تصل الوعود الرسمية إلى مكان”.
وكان مركب هجرة غير نظامية غرق في 23 نيسان 2022، وعلى متنه 84 شخصًا من جنسيات لبنانية وفلسطينية وسورية بينهم أسر بأكملها مع أطفال ورضّع. ونقلت شهادات الناجين أنّ قاربًا تابعًا لخفر السواحل اللبناني صدم مركبهم. وأعلن الجيش اللبناني نجاة 45 شخصًا قبل أن يخفّض العدد إلى 40. وقد انتشلت سبع جثث بينها لرضيعة (40 يومًا). وحدّد فريق غوّاصة هندية وجود رفات 10 أشخاص على الأقل في بحر طرابلس، على عمق 450 مترًا، إلى جانب حطام المركب الغارق، إلّا أنّها لم تنتشل جثامين المفقودين والعالقين في الزورق الغارق ولا حطام المركب نفسه.
أهالي المفقودين والمحامي صبلوح تتوسطهم لوحة مركب نيسان
إحياء اليوم العالمي
لم تحل الأحوال الجوية السيّئة دون تنظيم فاعلية “اليوم العالمي لإحياء ذكرى الموتى والمفقودين والمختفين قسرًا في البحار وعلى الحدود”، حيث انضمّت طرابلس إلى 23 مدينة حول العالم في محاولة لاستذكار الضحايا والمفقودين الذين قضوا أو فقدوا في البحار وعلى الحدود بسبب النزاعات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية. حضر النشاط الذي نظمه مركز “سيدار للدراسات القانونية” عشرات الناشطين الحقوقيين والفاعلين في الحقل العام، وتخلّله رفع صور للمفقودين، وعرض أعمال فنية مستوحاة من غرق القوارب.
تخلل الاحتفالية استعراض المحامي محمد صبلوح لآخر التطوّرات بشأن ثلاثة من حوادث الغرق التي خلّفت العشرات من الضحايا والمفقودين، وقدّم إحاطة بشأن قارب 23 نيسان 2022، وقارب طرطوس الذي غرق في أيلول 2022، وقارب قبرص الذي كان يحمل على متنه 85 راكبًا، وفُقد أثرهم بالكامل في شهر كانون الأول 2023.
وذكّر صبلوح أنّ “مرتكب جريمة قارب نيسان، لم يحاسب بعد رغم المعاناة الكبيرة التي لحقت بالمجتمع الطرابلسي”، وبأنّه كانت هناك مطالبات بإحالة الملف إلى المجلس العدلي إلّا أنّه عوضًا عن ذلك أحيل إلى النيابة العامّة العسكرية التي أحالت الملف إلى النيابة العامّة الاستئنافية في الشمال التي بدورها قرّرت حفظ الملف. وأضاف: “من أجل الوصول إلى الحقيقة تقدّمنا بطلب إلى النائب العام الاستئنافي في الشمال للتوسّع في التحقيق بناء لتقديم أدلة إضافية من ضمنها فيديو تسجيلي لإعادة تمثيل جريمة إغراق القارب، إلّا أنّ الطلب أحيل إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، الذي أعاده إلى مدعي عام التمييز”. وتوجّه صبلوح إلى مدّعي عام التمييز بالقول “لن نسمح بإغلاق الملف قبل محاسبة مرتكب الجريمة”، و”سنتابع المسار القضائي إلى حين الوصول للعدالة في هذا الملف”. كما لفت إلى أنّه “بعد التقدّم بشكاوى أمام المقرّرين الخاصين للأمم المتحدة، ردّت الحكومة اللبنانية بأنّها قدّمت مساعدات للأهالي، وهذا غير صحيح في حينه. ومنذ أسبوعين فقط أوعز رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى الهيئة العليا للإغاثة من أجل تقديم مساعدات بعد حملة الضغوط”. كما لفت إلى تقديم اقتراح قانون لمساواة ضحايا مركب نيسان بشهداء الجيش اللبناني، إلّا أنّ الاقتراح في أدراج رئيس مجلس النوّاب، بحسب صبلوح الذي طالبه “بإعادة طرح الاقتراح وإقراره من أجل إنصاف الأهالي”. والاقتراح المذكور هو اقتراح معجّل مكرر تقدّم به النائب أشرف ريفي في الأوّل من أيلول من عام الفاجعة أي 2022.
كما تطرّق صبلوح إلى ملف مركب طرطوس الذي سقط نتيجة غرقه قرابة 120 ضحية، وأوقف في الحادثة مشتبه به واحد في أيلول 2022، فيما بقي الملف منذ حينه عالقًا لدى قاضي التحقيق في الشمال، فيما صدرت أحكام بحق اثنين من المهربين المعتقلين في ألمانيا بالسجن سبع وعشر سنوات.
المحامي محمد صبلوح متحدثًا في المناسبة
مركب قبرص التائه
أما مركب قبرص الذي فقد أثره في كانون الأوّل 2023، فيعيش أهالي مفقوديه على أمل عودة أبنائهم بسبب عدم وجود أي دليل قاطع على غرق المركب، أو انتشال جميع الجثث. يؤكد ضياء رزق استمرار عائلته في البحث عن عمه الذي فقد أثره بعدما غادر السويداء السورية في محاولة للهرب على متن أحد القوارب إلى أوروبا، مشيرًا إلى أنّ كافة الجهود التي بذلت في سوريا ولبنان وقبرص لمعرفة مصيره باءت بالفشل. ويتحدّث عن تواصل مع السلطات السورية الجديدة للتحرّك على خط الكشف عن مصير 85 شخصًا من بينهم 35 طفلًا ما زال مصيرهم مجهولًا، ويوجه نداءً عبر “المفكرة” إلى السلطات السورية في وزارة الخارجية والعدل لمتابعة الملف، خصوصًا و”أنّ هويّة المهربين باتت مكشوفة في لبنان، ولكن يحظى هؤلاء بتغطية تحول دون معاقبتهم”.
ويكشف المحامي صبلوح أنّ الملف ما زال لدى قضاء التحقيق، ولم يتحوّل إلى المحاكمة، علمًا أنّ الأجهزة الأمنية لم تتجاوب مع مطلب كشف داتا الاتصالات التي من شأنها تحديد وجهة المركب وفضح هوية المهربين، وأنّه عثر على جثة واحدة عند شاطئ طرطوس، أثبتت فحوص الحمض النووي أنّها كانت لأحد ركابه.
يأسف صبلوح لأنّ “العدالة ما زالت بعيدة في ملفات غرق قوارب الهجرة غير النظامية”، مشددًا على أنّ “لا سلام دون عدالة”، وأنّ مطلب الأهالي محصور في تحقيق العدالة، وهو أمر بات ممكنًا برأيه، بعد إعلان وزارة الخارجية السورية في العهد الجديد التعاون في هذا الملف للوصول إلى نتائج محسوسة. ويلفت إلى أنّ السبب الأساسي الذي دفع المهاجرين غير النظاميين للهروب من بلدانهم هو البحث عن أماكن تحفظ كرامتهم، مشددًا على “عدم السماح بانتهاك حقوقهم أو السكوت عنها”.
نُصب تذكاري حفرت عليه أسماء المفقودين
الجرح النازف
مرّت السنوات وما زالت حرقة الأهالي على أبنائهم نفسها. تتحدّث الناجية بارعة صفوان لـ “المفكرة” عن حسرتها لفقد ابنتيها غانية وسلام اللتين كانت برفقتهما في رحلة نيسان 2022. ترفض الوالدة الاعتراف بوفاة ابنتيها، وتضيف “في كل يوم تزورانني في المنام، وفي المنزل أجلس أنتظر أن تطرقا الباب”. تحمّل بارعة الدولة اللبنانية مسؤولية جريمة إغراق المركب، ومحاولة طمس الحقيقة، وتعتقد أنّ الملف لم يصل إلى خواتيمه بسبب تدخّلات لحماية المشتبه بهم. من جهة أخرى، تلفت بارعة إلى أنّ الأحوال الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت العائلة للهرب من لبنان ما زالت هي نفسها، “لا بل أصعب”، مضيفةً “اضطررنا لترك المنزل، والذهاب إلى بيت الجد للعيش فيه، بعد أن قررت مالكة المنزل مضاعفة الإيجار”.
أما الطفل الناجي غازي قدور، فقد ألقى كلمة خلال فاعلية اليوم الدولي، تحدث فيها عن “تاريخ أسود ما زال يأسر ذاكرته”، وطالب بتحقيق العدالة وإنصاف والدته خديجة النمر، وشقيقه أمير القدور اللذين غرقا على متن قارب 23 نيسان، وأن يبادر مجلس النواب لتعويض أهالي الضحايا.
من جهته، يستذكر جهاد متلج ابنه المهندس هاشم الذي فقد بعد غرق القارب، متوجّهًا بالمناشدة إلى رئيس الجمهورية جوزاف عون لتطبيق عهوده، “لأنّه عندما زرناه في قيادة الجيش، تعهّد بأخذ هذه القضية على عاتقه، وأن تصدر فيها أحكام عادلة، ويُعطى الأهالي حقوقهم”. ويشير متلج إلى أنّه “في حال عدم الوصول إلى العدالة في عهد جوزاف عون فإنّه سيكون صورة عن العهود السابقة”.
يقرّ متلج عبر “المفكرة” بأنّ “من الصعوبة بمكان استعادة الجثث، ودفنها كما يجب بسبب مرور الزمن، ولكن ذلك لا يعني عدم بذل الجهود الضرورية لإنصاف الضحايا وأهاليهم الذين دمّرت حياتهم وروحهم بفقدان أبنائهم”، متحدثًا عن “حالة نفسية صعبة تمرّ بها زوجته أم هاشم التي ترفض الاعتراف برحيل ابنها الذي ربّته ليصبح رجلًا”. ويقول جهاد “نعيش في حسرة القبر لأننا لو دفنّاه لكان بإمكاننا زيارته، ولكن الصعوبة تكمن في أنّه مفقود، ولا نعرف إذا ما كان حيًا أم ميتًا”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.