وكأن هناك مخطط مدروس يهدف إلى تحويل الأملاك العامة البحرية إلى مشاريع خاصة تحرم اللبنانيين من متنفسهم الوحيد ألاّ وهو شاطئ البحر. فبعد شاطئ الرملة البيضاء، استيقظ أهالي طرابلس والميناء على خبر ولادة عقار في عرض البحر مساحته نحو 30 ألف متر ينوي أصحابه استرداده بقرارٍ قضائي.
القصة بدأت منذ حوالي ثلاث سنوات حين أصدر القاضي نزيه عكاري، المشرف على أعمال الضم والفرز في الشمال، بتاريخ 23 شباط 2013 القرار رقم 21/2013، قضى بأن القسم الغربي الواقع بين الكورنيش البحري وحدود البحر المتوسط هي قطعة أرض سقطت سهواً بفعل أعمال الضم والفرز، التي جرت على العقار رقم 220 بساتين الميناء، والبالغة مساحته الأساسية 149990 متراً مربعاً، وذلك وفقاً لخرائط جوية وصك ملكية يعود إلى العهود العثمانية. وعليه بات المسطح المائي أمام جامعة بيروت العربية عقاراً تعود ملكيته لأشخاص من آل شبطيني وآل حبيب، ويحمل الرقم 1403 بينما تقدر مساحته بقرابة الـ30 ألف متراً مربعاً.
وعندما قرر اصحاب العقار بيعه تقدّم الشاري إلى دائرة الهندسة في بلدية الميناء لإجراء المعاملات اللازمة، فاكتشف رئيس البلدية الحالي عبد القادر علم الدين القضية ولم يمنحه الموافقة. كما أنّ البلدية تحرّكت وعقدت مؤتمراً صحفياً للكشف عن ملابسات القضية والمطالبة بوقف الأعمال في المكان. كذلك عقد إجتماع طارئ لمجلس البلدية تمّ على أثره تكليف المحامي طوني تاجر برفع دعوى وتجميد الحكم الصادر عن القاضي.
خطوات بلدية الميناء عززتها تحركات المجتمع المدني في مدينتي طرابلس والميناء. فبدعوة من "الحملة المدنية لحماية شاطئ الميناء"، أقيم اعتصام حاشد نهار السبت 26/11/2016، أمام شاطئ الميناء في النقطة التي صدر قرار القاضي باسقاطها من ملكية عامة إلى ملكية وخاصة. الإعتصام جاء "إستنكارا لقرار التملك غير الشرعي للأملاك البحرية العامة في الميناء وتحديداً العقار 1403 (الذي بات معروفاً بالقرار الوهمي) وللمطالبة بالرجوع عن القرار ومحاسبة كل المتورطين".
وقد شارك في الاعتصام المئات من أبناء الميناء وطرابلس وضواحيها. ورفع المشاركون يافطات للتأكيد بأنّ "الأملاك العامة خط أحمر" وأنّ "بحر الميناء ما بينبلع… بيبلعكم"، وأنّ "بحرنا ما بينردم.. بضربة قاضي". وشددت الشعارات على أنّ "البحر والصخر والموج لنا" و أنّ "رأس الصخر (المنطقة هناك معروفة بهذا الاسم) ما بيتكسر" وعلامات تعجب حول الحجة التي بنى عليها القاضي قراره "سقط سهواً.. ياريس!!!".
موقف البلدية
وفي حديث مع رئيس بلدية الميناء عبد القادر علم الدين، أكدّ على أحقية الناس بالأملاك العامة البحرية، لافتاً إلى أنه إلى الآن ليس واضحاً المشروع الذي كان ينوي إقامته ومن هي الجهة التي تقف وراءه. ولكنه شدد على أن بلدية الميناء ستبقى تتصدّى لهذا المشروع المرفوض من أبناء المدينة. وقال: "إنّ قضم البحر ممنوع. لقد خلقوا عقاراً مساحته 30 ألف متراً مربعاً في المياه ونحن لا نعرف، كيف تحدد هذا العقار وكيف سيردموه ليبيعوه. بعد صدور الحكم، قمنا بتوكيل محامي من قبل بلدية الميناء لرفع دعوى وقمنا بتجميد الحكم. وهناك اجراءات سوف نتخذها".
وردّاً على سؤال حول إن كان يجب الحصول على موافقة البلدية لتحديد العقار وبيعه أجاب: "هذا العقار تابع لمشروع الضم والفرز وهناك هيئة خاصة قامت به". ولفت إلى أنه "منذ 15 سنة صدر مرسوم بتحديد العقارات وملكية الناس الذين يدعون ملكية العقار. قالوا إنه أيام الدولة العثمانية كانت لديهم أرض وقام البحر بإبتلاعها. لكن بالمقابل فإن الدولة اللبنانية قامت بمسح العقاري سنة 1932 وحددت كل لكل صاحب ملك ملكه. ومن لم تحدد له الملك في ذلك الوقت معنى ذلك انه ليس لديه شيء. بعد سنة 1932 انحصرت العقارات بالملكية العامة".
ولفت علم الدين إلى أنه "تقدر قيمة العقار بنحو 60 مليون دولار"، مشدداً على أنه "إذا كان لديهم حق فليأخذوه في منطقة الضم والفرز أو على شكل تعويض مادي. ولكن ليس أن يحصلوا على أرض في البحر وهو أمر يتعارض مع كل القوانين والمراسيم التي تتخذها البلدية".
كما أشار إلى أن "المجالس البلدية المتعاقبة اعتبرت الواجهة البحرية بأكملها متنزّهاً بحرياً عاماً من دون إمكانية تجزئتها تحت نظام (M8)، وهي مصدّقة بالمرسوم التوجيهي العام ورقمه 16353 بتاريخ 10 شباط 2006. وبالتالي فإن هذه الواجهة هي غير صالحة للبناء وهي حق طبيعي للغني والفقير وكل من يريد أن يرى البحر".
وردّاً على سؤال ان كان ما يجري في المنطقة هو نفسه المشروع الشبيه بـ “زيتونة باي" الذي كان مزمع القيام به منذ عدة سنوات، نفى علم الدين الأمر وقال:" ذلك المشروع ألغي. وكان هناك مجموعة تجار ورجال أعمال أرادوا مليون وصف متر، لبناءه وأسسوا من أجل ذلك شركة فيها مليون دولار. وكنت أنا اول من أسميتهم بـ"حيتان المال" وقد انزعجوا مني وقتها لكن سرعان ما فضت الشركة وانتهى المشروع".
وختم مؤكداً عدم تراجع البلدية عن قرارها معولاً على "ضغط المجتمع المدني الذي سيلعب دوراً هاماً للوصول إلى ما نريده ويريده الناس".
آراء الناس ومطالبهم
وعبّر عدد من المشاركين في الاعتصام عن رأيهم في قرار القاضي والخطوات المنوي اتخاذها للحؤول دون بيع الأرض. وفي هذا السياق تقول هدى سنكري من "لجنة متابعة مشاريع طرابلس": "لقد وصل الاستهتار بكرامات الناس وحقوقهم إلى درجة لا توصف. يقولون إن هناك صك عثماني، فيما هناك مرسوم قام بإلغاء كل هذه الأمور. إنّ اسم الميناء يدل على البحر لكن يبدو أننا سنصل إلى مرحلة نحلم بها بالوصول إلى البحر. لا ندري اي درجة سيتحمل الفقير بعد، لكنهم يدفعون به إلى مرحلة لم يعد قادراّ فيها ان يضبط نفسه. من أبرز اليافطات التي رفعت اليوم لفتني "الفقير لم يعد لديه شيء يأكله إلاّ الغني" وهذه الحقيقة".
ويرى عبد السلام سليمان من عكار أن "حيتان المال أعداء الطبيعة. بعدما قاموا بتدمير جبالنا، يريدون الآن أن يبلطوا بحرنا". وشدد على أنّ "هذا البحر هو ملك عام ومسؤوليتنا الدفاع عنه للأجيال المستقبلية".
وتشارك الناشطة ريان كمون في الاعتصام رفضاً لقرار القاضي وقالت: "نطلب من القاضي التراجع فوراً عن قراره. هذا الشاطئ مع البحر هو أملاك عامة لكل الناس وليس للقيام بمشاريع خاصة تبدأ ببناء منتجعات للاستفادة الخاصة ومن ثم يمنعوننا من الوصول إلى البحر".
أما إبن الميناء جورج الرطل فقال: "هذه مينتنا وهذه أرضنا. وهناك الكثير من الناس الذين لا يستطيعون السباحة إلاّ في هذه المنطقة، ولا يمكنهم أن يحرموا هؤلاء هذا الحق، من أجل القيام بمشاريع خاصة لن تحقق عائدات إلى المنطقة، لذا سنبقى نقول لهم لا".
وتؤكد الدكتورة هند الصوفي الوقوف في وجه "الفساد وسرقة الاملاك البحرية وحجبها عن الناس تحديداً الطبقة الفقيرة التي لا تملك سوى هذا المتنفس". وقالت: “إذا أردنا أن نأخذ واجهة الميناء من الناحية السياحية فهي واجهة بحرية وإذا قمنا بحجبها عن الناس (راحت علينا)".
واعتبر الناشط يحي مولود من "الحملة المدنية لحماية شاطئ الميناء" أن "هذا التحرك الشعبي هو خطوة أولية لاطلاع الناس على ما يجري. وسيتبعها تحركات لاحقة إذا تطلب الأمر". وقال: "لا يمكن أن نسمح بإستملاك البحر فهو لكل الناس".
وتابع: "بغض النظر عما سيجري لاحقاً، القضية بدأت بوجود العقار رقم 220 مساحته 145 ألف متر، وقد ادعى أصحابه أنه بقي لهم مساحة 45 ألف متر من الجهة الغربية للكورنيش. وبالنظر إلى ان الكورنيش أصلاّ مستحدثاً، فإن أرضهم بأسوأ الحالات تنتهي على اليابسة. كيف إمتدت أرضهم 30 ألف متراً مربعاُ في البحر ويريدون تملكها؟ وأصلاً كيف سيتملكون البحر؟ انهم بحاجة لردمها. من هنا، حتى لو أن هناك قرار صادر عن قاضي أو مرسوم حكومي أو مرسوم جمهوري او قانون داخل مجلس النواب نحن سنكون ضده. وإذا كان الجماعة لديهم حق فليذهبوا ويأخذوا حقهم في مكان آخر او لتعوّض الدولة عليهم. هم يدّعون أن لديهم حق يعود إلى سنة 1923 وهم يحق لهم الاستئناف لسنتين، فكيف أخذوا القرار سنة 2013 لا شك أن هناك من يحركهم". لا يعرف مولود من هذه الجهة السياسية التي تقف وراء تحريك هذه القضية. ولكنه قال: "بالنسبة لي انا أتهم الكلّ حتى تثبت براءتهم".
وألقى الدكتور سامر أنوس بيان الحملة الذي شدد من خلاله على أنّ أبناء طرابلس والميناء سيقفون "سداً منيعاً أمام هذا الفصل الجديد من ممارسات انتهاك حقوقنا. وسنمنع ذلك بالتأكيد ويساندنا في ذلك موقف المجلس البلدي الذي يتصرف اليوم باسم مواطني الميناء ويمثلهم في موقفهم هذا. ومعنا أيضاً القانون الذي نصّ صراحةً على أن كل الجهة الغربية من كورنيش الميناء هي متنزه بحري عام وأملاك عامة لا يجوز تجزئتها ولا البناء عليها لا قصداً ولا سهواً. وأكدّ "الاستمرار في معركتنا حتى النهاية، وإلى مواعيد قريبة فالأملاك العامة "شطّ أحمر".