في مثل هذا اليوم منذ تسع سنوات، في مدينة سيدي بوزيد بالوسط التونسي، لم يدر بخلد محمد البوعزيزي للحظة وهو يضرم النار في نفسه احتجاجا على القهر وعلى أوضاعه الاجتماعية القاسية، أنه بجسده المحترق سيشعل البلاد بأسرها ويطيح برئيس استوى على عرشه طيلة 23 سنة. كما أنه بلا ريب لم يتصور حينها أن يتحول ما أتاه إلى تعبير احتجاجي قائم بذاته، خلق ما يمكن تسميته جيلا جديدا من "البوعزيزيين". بعد تسع سنوات، ما يزال بعض الشباب التونسي يقدم على إضرام النار في أجسادهم أو الإنتحار بأي طريقة أخرى، في ظل تواصل نفس الأسباب ونفس السياسات. ولا يقتصر الأمر على تونس، إذ نشهد تمدد هذه الظاهرة لدول عدة منها المغرب والجزائر ومؤخرا لبنان.
عقد من الزمن، وما يزال الوضع يراوح مكانه على المستوى الاقتصادي. فليس هنالك حتى الآن من حلول لمشاكل التنمية والتشغيل والحيف الاجتماعي والاختلال الجهوي. فمعدلات البطالة ارتفعت من 13% إلى 15% بعد تسع سنوات واتسعت دائرة الفقر. في الجهة المقابلة، وعلى غرار محمد البوعزيزي الذي أضرم النار في جسده يأسا واحتجاجا، تتواتر الصور المماثلة شهريا تقريبا لشباب لم يجدوا سوى أجسادهم يقدمونها حطبا لنار الغضب وتصعيدا لاحتجاجهم وكرد فعل على تجاهل مطالبهم.
في الذكرى التاسعة لإضرام البوعزيزي النار في جسده (17 ديسمبر 2010 – 17 ديسمبر 2019) والتي مثلت شرارة الثورة التونسية، خلقت حالة الإحباط العام الذي خلفه أداء الحكومات المتعاقبة جيلا جديدا من "البوعزيزين" الذين اقتبسوا ما أتاه ذات شتاء، لتتحول تلك الحوادث التي ناهزت الست حالات خلال الأسابيع الثلاثة الفارطة، من مجرد حالات فردية معزولة إلى ظاهرة اجتماعية وتعبير احتجاجي قائم الذات.
قبيل الذكرى التاسعة لاندلاع الثورة: موجة البوعزيزيين الجدد تتصاعد
لم يكن ما أتاه ابن الـ 25 ربيعا من عمال الحضائر أصيل معتمدية حمام الزريبة من محافظة زغوان الذي أضرم في جسده النار يوم 19 نوفمبر 2019 إلا إحياء ضمنيا "لسنة" البوعزيزي. فما دفعه إلى حرق نفسه لم يختلف في عمقه وإن تغيرت التفاصيل، عما دفع محمد البوعزيزي إلى ذلك من احتجاج على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الرثة. لم يمضِ أقل من أسبوع على تلك الحادثة، حتى أقدم ابن مدينة القلعة الكبرى التابعة لمحافظة سوسة ناجح سليم على إنهاء اعتصامه أمام مقر المعتمدية بإضرام النار في جسده أمام المارة والموظفين يوم 25 نوفمبر 2019. أما السبب هذه المرة، فكان حرمانه من الكهرباء لعدم سداد ما تخلد بذمته من فواتير نظرا لظروفه الاجتماعية الصعبة. وأمام التسويف والمماطلة من الشركة المذكورة ومن السلط الجهوية، لم يجد صاحب الـ 41 سنة حلا سوى إنهاء حياته حرقا.
من الوسط الشرقي للجمهورية التونسية إلى الوسط الغربي، في المحافظات التي لا يدخلها المسؤولون إلا لإحياء تظاهرة أو أخذ بعض الصور الموسمية أو لاستمالة الأصوات وبيع الوهم أثناء الدعاية الانتخابية، لم يكن يوم 29 نوفمبر 2019 عاديا في محافظة سيدي بوزيد مهد الثورة التونسية، وتحديدا وسط مدينة جلمة المزدحم. فقد تجمع الأهالي حول الشاب عبد الوهاب الحبلاني ذي السبعة والعشرين عاما وهو يتلوى ألما والنار تنهش جسده. ليلفظ أنفاسه بعدما أقدم على إحراق نفسه احتجاجا على أوضاعه الاجتماعية القاسية وردا على تجاهل السلطة الجهوية لمطالبه المتكررة بتسوية وضعيته المهنية الهشة في الحضيرة. ورغم محاولة السلطة المحلية التنصل من المسؤولية إلا أن النائب بمجلس النواب بدر الدين القمودي عن محافظة سيدي بوزيد أكد في اتصال ل "المفكرة" أن سياسة المماطلة والتجاهل هي التي دفعت عبد الوهاب لإنهاء حياته، موضحا: ''من غير المعقول أن نقول إن الشاب الذي انتحر كان سعيدا أياما قبل انتحاره. أن هذا التصريح سخيف وغير منطقي فالشاب هو ضحية للتسويف والمماطلة المتكررة فقد أقدم في مرات سابقة على محاولة الانتحار ولكن تم منعه ووعده المسؤولون بتسوية وضعيته، أما المعتمد الحالي، وإن كان لا يتحمل المسؤولية المباشرة عن هذه المأساة نظرا لتقلده هذا المنصب منذ شهر تقريبا ولكنه يدافع عن منظومة بيروقراطية كاملة". هذه الحادثة أطلقت موجة احتجاجات عارمة ومواجهات بين الوحدات الأمنية المرتكزة بالجهة والمحتجين، إذ تم غلق الطريق الوطنية الرابطة بين محافظتي تونس وقفصة عبر استعمال الحجارة والإطارات المطاطية المشتعلة، وهو ما ردت عليه القوى الأمنية باستعمال مكثف لقنابل الغاز المسيل للدموع ضد المتظاهرين ووسط الأحياء السكنية متسببة في تسجيل عدد كبير من حالات الاختناق في صفوف الأهالي والذين تم نقلهم إلى المستشفيات الجهوية. مواجهات استمرت لأيام مسفرة عن إيقاف 11 محتجا وإصابة 10 أعوان من الأمنيين.
هذه الحادثة التي تتشابه مع واقعة البوعزيزي على مستوى السياق والمكان، تعيد طرح عشرات الأسئلة حول المتغيرات التي حصلت في تسع سنين في هذه المحافظة التي وارت الثرى منذ 17 ديسمبر 2010 عشرات الجثث المحترقة. في هذا السياق يحاول النائب عن الجهة بدر الدين القمودي تفكيك الظاهرة مؤكدا "أن ما حصل في المدينة منذ أيام له بعد ظاهري وهو احتجاج على ما آلت إليه وضعية الشاب عبد الوهاب الحبلاني، ولكن في العمق يتعلق الأمر بقضية تنموية ظلت معلقة منذ عقود، ولم يجن الناس هنا سوى التعهدات الفضفاضة والوعود الكاذبة" ليضيف؛ "حالات الانتحار المتكررة هذه هي نتيجة حالة يأس قصوى، فالمواطن مثلا في محافظة سيدي بوزيد راهن على الثورة لتحسين ظروفه الاجتماعية ولتحقيق التنمية، إلا أن هذا لم يتحقق ناهيك أن المطالب التي أضرم البوعزيزي النار في جسده من أجلها لم تتحقق، وهو ما يجعل إمكانية تواصل وتكرار هذا السلوك واردة".
لم تتوقف موجة الانتحار حرقا بل توسعت مع اقتراب الذكرى التاسعة من انطلاق ثورة 17 ديسمبر 2010، لكن هذه المرة في معتمدية حفوز من محافظة القيروان التي شهدت يوم 4 ديسمبر حادثة مماثلة نفذها شاب في عقده الثالث. تحركه الذي بدأ بوقفة احتجاجية ورفع الشعارات بعد تخلف المسؤولين عن وعدهم له بالعمل في إحدى المؤسسات العمومية وتوجيهه بدل ذلك للعمل في الحضيرة، لينتهي الأمر بإضرامه النار في جسده تاركا وراءه طفلين من دون أي سند.
آخر محطة "للبوعزيزيين" الجدد كانت في الشمال الغربي للبلاد، وتحديدا في منطقة الشراردة بريف مدينة السرس في محافظة الكاف. إذ أقدم كهل تجاوز 62 سنة على إضرام النار في جسده يوم 8 ديسمبر الجاري، احتجاجا على قساوة ظروفه الاجتماعية. لم يتبع مذهب البوعزيزي الذكور فحسب بل كان للإناث نصيب منه حيث توفيت في يوم 10 ديسمبر، بالمستشفى الجهوي بالكاف طفلة تبلغ من العمر 14 سنة، بعد أن أقدمت على حرق نفسها بمنزلها الكائن في منطقة سيدي رابح من محافظة الكاف.
هذه الظاهرة لم تكن سوى نتيجة حتمية لتواصل نفس السياسات الاقتصادية التي كانت السبب في حادثة البوعزيزي منذ تسع سنوات والتي ما تزال تدفع كل يوم عشرات الشبان إلى تصعيد احتجاجاتهم ورفضهم للواقع المعيشي باختيار الموت حرقا أو شنقا أو بأي وسيلة كانت، كسلاح ضد التهميش والإقصاء. إلا أن هذه الموجة الأخيرة، لم تكن الأولى من نوعها، إذ تشهد تونس سنويا عشرات الحوادث المماثلة في محافظات البلاد الأشد فقرا وبؤسا، حيث تم تسجيل 467 حالة انتحار ومحاولة انتحار سنة 2018.
اليأس: الداء وراء ظاهرة الإنتحار
يفسر الباحث في علم الاجتماع فؤاد غربالي في حديثه ل "المفكرة" ظاهرة الانتحار كتعبير احتجاجي بأنه ناتج عما يفسر علميا باللا يقين الذي أصاب المجتمع وخاصة الشباب. إذ أن الشاب بات لا يعرف إلى ماذا سيؤول مستقبله في ظل فشل سياسات الدولة والمؤسسات الفاعلة، فحالة اللا يقين هذه تدفع إلى الإيمان بعدم الفاعلية داخل المجتمع وهو ما يدفعه بدوره نحو الانتحار وذلك لجلب الانتباه. ليضيف موضحا المطالب التي أحرق من أجلها البوعزيزي نفسه والمتمثلة في الحق في الكرامة لا تزال قائمة، ففي ظل قيام الأسباب على حالها، لن تتغير النتائج.
عموما ولئن كان للكهول نصيب من موجة الانتحار، فإن الشباب يتصدر قائمة الفئات العمرية التي تنتهج هذا الأسلوب الاحتجاجي الراديكالي. ففي السداسي الأول من سنة 2019 بلغ عدد حالات الانتحار 146 حالة في كامل تراب الجمهورية وفق ما رصده المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وتوضح الإحصائيات أن الفئة العمرية الأكثر إقداما على الانتحار هي التي يتراوح عمرها بين 26 و35 سنة، وهو ما أرجعه المنتدى إلى هشاشة الوضعية المهنية والبطالة إضافة إلى المشاكل الأسرية والضغوطات والمسؤوليات الملقاة على كاهل هذه الفئة. أما الباحث في علم الاجتماع فؤاد غربالي فيعلق على هذه الأرقام مشددا على أنها نتاج للمفارقة الكبيرة بين المنشود والموجود. فالشباب يملك طموحات كبيرة ولكن صدمات الواقع تؤثر فيه، وهذه الهوة تخلق حالة من الإحباط الخوف وتؤدي إلى عنف يوجهه الشاب ضد نفسه بتعبيرات راديكالية.
ما تكشفه الأرقام الصادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، من أن 34% من الأشخاص الذين أقدموا على الانتحار خلال السداسية الأولى من سنة 2019 لا يتجاوز سنهم الـ 25 سنة، يعكس حالة اليأس التي يعيشها جيل الثورة إن صح التعبير، هؤلاء الذين شكلوا وعيهم السياسي عقب 14 جانفي 2011 وراقبوا مسار التطورات الاقتصادية والسياسية لمرحلة ما بعد الثورة. هؤلاء الشباب الذين لم يكن يتجاوز سنهم الـ 15 سنة عند قيام الثورة التونسية وإضرام البوعزيزي النار في جسده، يمثلون اليوم الشريحة الأكبر من جيل "البوعزيزيين" الجدد. معطى يقدم دلالات واضحة لحالة الإحباط العام لجيل وإن لم يكن شاهدا على صور البوعزيزي وهو يلفظ أنفاسه في المستشفى أو صور الشهداء خلال شتاء سنة 2011، إلا أنه ينتهج نهجه ويعيش تقريبا نفس الواقع الاجتماعي والاقتصادي من بطالة وفقر وإقصاء وتهميش وغضب لم يكن من سبيل لتنفيس في حالات عدة سوى بإيذاء الذات.