أطفال يمارسون كرة القدم في ملعب رملي في الكرنتينا (الصورة لأشغال عامة)
“لمّا كنّا صغار كنّا نلعب بالشارع، كان في بورة فاضية حدنا نروح كلّنا لهونيك، الصبيان يلعبوا فوتبول ونحنا البنات نكزدر ونمشي”، هكذا تختصر مريم وعباس وهما من سكان حي الأبيض في الضاحية مرحلتي طفولتهما ومراهقتهما اللتين كانتا سعيدتين جدًا على حد وصفهما. “كنّا مجانين نبرم المنطقة كلّها ما نخاف ولا حدا يسال عنا لآخر الليل”. وهكذا كان حال معظم الأولاد في المدينة خلال حقبة أواخر الثمانينيات والتسعينيات إذ كانوا يحوّلون الأراضي المفتوحة إلى أماكن لعب واستكشاف.
وضمن هذا السياق عرض نهار الثلاثاء الفائت في التاسع من تموز الجاري، فيلم “ولِعب” للمخرجَين جنان داغر وأوسكار دي جيسبار في محطة نايشن في منطقة الجعيتاوي، بيروت. وهو الفيلم الأوّل من سلسلة أفلام “بيروت لَمين” الوثائقية التي تنفّذها شركة “أرجوان” بالشراكة مع “استديو أشغال عامّة” ومنصّة “ميغافون”، وتسلّط الضوء على القضايا المدينية في بيروت.
ويستند الفيلم إلى بحث أجراه فريق عمل استديو أشغال عامّة ما بين عامي 2014 و2016 بعنوان “اللعب والمدينة، مجهود جماعي لصنع ملاعب كرة القدم الشعبية”، الذي نُشر ضمن “ممارسة العام: عن المساحات في بيروت” الصادر في العام 2015. ويتناول موضوع اللعب كطريقة جديدة لرؤية مساحات المدينة وكشكل من أشكال المعرفة بهذه المساحات المقرونة بالتفاعلات اليومية، بحسب “أشغال عامّة”. وقد ارتكز البحث على متابعة مسار تشكّل عشرة ملاعب غير رسمية لكرة القدم في بيروت وضواحيها منذ العام 1960 وفهم وظائفها وتحوّلاتها، وهي ملاعب تشكّلت بفعل مجهود فردي أو جماعي من أبناء الأحياء، الذي قاموا بتحويل الأراضي البور ذات الملكية الخاصة إلى ملاعب كرة قدم.
وتمّ اختيار لعبة كرة القدم، بحسب ملخّص البحث، نظرًا لجاذبيتها وباعتبارها الممارسة العامّة الأكثر شعبية واستمرارية، وفي إطار إعادة إنتاج المساحات المدينية واستعادة الحق فيها. وقد انتشرت ظاهرة الملاعب غير الرسمية بعد انتهاء الحرب الأهلية في التسعينيات إلّا أنّه بحسب الدراسة، 85% من ملاعب كرة القدم التي كانت موجودة تحوّلت في العام 2003 إلى مواقف سيارات.
يأخذ فيلم “ولِعب” من منطقة الكرنتينا نموذجًا للانطلاق من الخاص إلى العام ويعكس مفاهيم وخلاصات الدراسة، ويشير إلى أنّه على الرغم من سيطرة قوى الخصخصة على بيروت في العام 2024، “لا يزال هناك أماكن يعيش فيها لاعبون ولاعبات لا يقهرون وصامدون بوجه تدمير المساحات العامّة للهو”.
أزقة الكرنتينا ملاعب الأطفال بينما الحديقة العامّة مغلقة
يبدأ الفيلم “ولِعب” بسرد تاريخي سريع عن نشوء منطقة الكرنتينا التي تعود تسميتها إلى المحجر الصحي الذي أنشأه العثمانيون وكان يستخدم لحجر المسافرين الوافدين عبر مرفأ بيروت، ويروي التشكّل الديموغرافي للمنطقة قبل الحرب وخلالها وبعدها، حيث سكنت بعض العائلات الأرمنية المنطقة خلال الثلاثينيات والأربعينيات، وكانت المنطقة تضمّ مخيّم الكرنتينا للأرمن الذين لجأوا إلى لبنان بعيد المجازر الأرمنية في العام 1915. لاحقًا سكنت في المخيّم بعض العائلات الفقيرة منها السورية والفلسطينية والكردية وغيرها. وخلال الحرب اللبنانية هدمت الميليشيات عقارات في حي الخضر ونزح سكان حوالي 40 عقارًا نحو أحياء أخرى. بعد انتهاء الحرب، حاول بعض الشباب من حي الكرنتينا استعمال هذه الأرض وتحويلها إلى ملعب لكرة القدم، عبر جمع الأموال من سكان الحي.
ويُظهر الفيلم مقاومة سكان حي الكرنتينا لاستعادة حقهم في المساحة العامّة في العام 2016، عندما اقترحت إحدى المرشحات للانتخابات النيابية تجهيز المكان عبر وضع سياج وزراعة العشب فيه، فرفض أهل الحي خوفاً من السيطرة على البورة.
تجول كاميرا فيلم “ولِعب” في أرجاء وأزقة منطقة الكرنتينا، على أرصفتها وفي باحاتها حيث الأطفال يلعبون ويركضون، في حين أنّ الحديقة العامّة التي أُعيد تأهيلها في العام 2021 من قبل اليونيسيف وعدد من الجمعيات ما زالت مقفلة منذ جائحة كورونا.
ويطرح الفيلم مسألة اختفاء ملاعب كرة القدم التي كانت منتشرة في التسعينيات لأسباب عدة منها: المضاربة العقارية، وملكية الأرض وتسييجها، وانتشار الملاعب الخاصّة، والسيطرة الأمنية وغيرها. إلّا أنّه على الرغم من كلّ ذلك لا يزال سكان المدينة يناضلون للوصول إلى المساحات المفتوحة، سواء بالتفاوض أو بقوّة الإبداع وبمجهود فردي، كي تتحوّل المدينة إلى ملعب لهم.
كذلك يناقش الفيلم مسألة عدم وجود حدائق عامة في المدينة أو إهمالها من قبل الدولة في حال تواجدها لتصبح خارج الخدمة.
وفي حديث لـ”المفكرة” تقول المخرجة داغر، إنّ فيلم “ولِعب” هو باكورة أفلام “بيروت لمين” ستليه أفلام أخرى تتعلّق بعلاقة السكان بالمدينة، وتحوّل الأوتوسترادات إلى أدوات لعزل المناطق والأحياء بدل أن تكون أدوات جامعة. وتضيف أنّ المشروع هو نتاج تقاطع اهتماماتها وزوجها المخرج أوسكار مع اهتمامات أعمال وأبحاث استديو أشغال عامة، ما قاد إلى طرح فكرة تقديم هذه الأبحاث بقوالب جديدة، بالتعاون مع منصة ميغافون التي ستقوم بعرض الأفلام تباعًا.
وتعيد اختيار منطقة الكرنتينا إلى كونها منطقة معزولة يحدّها المرفأ والبحر من جهة والأوتوستراد من جهة أخرى، وليس فيها تمييز على أساس الشكل أو الجنسية، كما يحدث في مناطق وأماكن أخرى على حد قولها.
وتضيف داغر أنّ الفيلم يعكس كيف يمكن للمدينة أن تكون مؤهّلة للأولاد ليكون بمقدورهم التحرّك بشكل حرّ ومن دون التعرّض للمخاطر.
“اللعب” يظهر استخدامًا جديدًا للمدينة
تعتبر نادين بكداش، مديرة تنفيذية ومسؤولة قسم التواصل والتصميم في استديو أشغال عامة، في حديث مع “المفكرة”، أنّ مشروع البحث تناول موضوع ملاعب كرة القدم غير الرسمية في المدينة التي غالبًا ما تكون أراض خاصّة متروكة يقوم أولاد الأحياء باكتشافها وتحويلها إلى أماكن لعب.
وتضيف أنّ لعب الأطفال غالبًا ما يضيء على وجود طرق جديدة لاستخدام المدينة وكيفية العيش فيها، “من خلال نظرة الأطفال للمدينة ممكن الواحد يشوف طرق مختلفة بعيدة عن هيمنة رأس المال وهيمنة التطوير العقاري”.
وتضيف أنّ الملاعب كانت منتشرة بكثرة خلال التسعينيات قبل صدور قانون البناء الجديد في العام 2000 والذي ساهم في رفع أسعار الأراضي والعقارات، وسمح بزيادة البناء وتشييد الأبنية، فتقلّصت المساحات المفتوحة.
وتتابع أنّ البحث استند إلى خريطة جوية لبيروت للعام 2004 حيث تمّ تحديد ستين بقعة رملية وأراضي باطون عليها خطوط بيضاء وهي عادة ما تُرسم على الأرض لتحديد أقسام الملعب. وبين عامي 2004 و2014 تغيّرت الخريطة كثيرًا حيث تبيّن أنّ 85% من ملاعب كرة القدم غير الرسمية التي كانت موجودة في العام 2004 تحوّلت إلى مواقف سيارات أو مبان أو ورش بناء. ولم يبق سوى 10 ملاعب تحوّلت إلى ملاعب كبيرة لكرة القدم (محدّدة في الخريطة باللون الأخضر). من هذه الملاعب: ملعب أرض جلول، ملعب الباشورة، ملعب وطى المصيطبة، ملعب الجناح، ملعب رأس النبع، ملعب مخيم مار الياس، ملعب حرش القتيل، ملعب الكرنتينا. وتتابع بكداش أنّ الدراسة تابعت كيفية الاستحواذ على تلك الملاعب وكيفية الإبقاء عليها كي يتمّ استخدامها قبل أن تتمّ خسارتها مجددًا.
وتضيف “كتبنا قصّة كلّ ملعب”، مشيرة إلى أنّ متابعة هذا النوع من الاستخدام للأرض أي “اللعب” لا يحترم حدود الملكية الخاصّة، ما يجعلنا ننظر إلى الأرض كقيمة اجتماعية وليس كقيمة مادية، وننظر إلى التوجيهات التصميمية للمدن.
بدورها تعتبر المهندسة ناهدة خليل في حديث لـ “المفكرة”، أنّ المساحات الخضراء والأماكن العامّة الموجودة في لبنان هي إمّا مقفلة أو مهملة. وتضيف أنّه غالبًا ما يتمّ إهمال الحدائق العامّة عمدًا كنهج من قبل السلطة من أجل تحويل وجهة استعمالها، فتصبح الحديقة مرآبًا للسيارات أو موقعًا لتشييد بناية، “هيدا النهج واجهناه كثير متل بحديقة الرملة البيضاء العامّة عالبحر”.
وتضيف أنّه في التسعينيات أصدرت بلدية بيروت قرارًا أعفت من خلاله أصحاب العقارات غير المُشغلة في بيروت من الضرائب في حال تحويلها إلى مرآب سيارات.
وتشير المهندسة منى حلاق بدورها إلى أنّ الفيلم يسلّط الضوء على عدم وجود أماكن عامة في بيروت والتي يتوجّب على البلدية وتوفيرها والضغط لفتح الحدائق المغلقة وإعادة تأهيلها. وتتابع أنّ غياب التخطيط المُدني يحرم المدينة من توافر المساحات الخضراء، فالمساحات العامّة باتت مقتصرة على الحدائق والكورنيش البحري. وتتابع أنّ الرأسمالية والتطوير العقاري في بيروت التهم المساحات الخضراء من دون أي اعتبار لما يهمّ الناس.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.