من زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى ضريح بورقيبة في ذكرى وفاته، 6 أفريل 2021، الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية (بتصرّف).
على خلاف ما يمكن توقعه بعد سبعين عاما من استقلال البلاد التونسية عن الإستعمار الفرنسي، ومرور الوعي العام بمراحل من التطور تحت تأثير التعليم وعمل المؤسسات الحديثة، يكتشف الباحثون اليوم عودة للاستعارات الدينية في الخطاب الرئاسي التونسي بعد حوالي خمسين عاما من آخر استخدام مكثف له، في منتصف سبعينات القرن الماضي. وبالفعل فإنّ خطب الزعيم بورقيبة أمام طلبة معهد الصحافة وعلوم الإخبار في بداية السبعينات هي آخر الفرص التي وجدت فيها الاستعارات الدينية فرصة للتعبير عن نفسها بالوضوح الكافي. تعود تونس اليوم عبر قيس سعيّد إلى الفضاء الاستعاري ذاته وإلى استعمال المعجم ذاته تقريبا، حيث ينطلق الرئيس الذي تسلّم الحكم منذ 2019 نحو تكثيف عملية حثّ المخيال الديني للتونسيين وطلب الدعم من فوق المؤسسات السياسية الحديثة. يجب الانتباه هنا إلى الفارق الكبير بين استعمال هذه الطريقة في الخطاب والأصوليّة الدينية، ذلك أنّنا بإزاء استراتيجية هيمنة سياسية بدرجة أولى، تعتمد بصورة خاصة على إحداث تأثير في الرأي العام المتديّن واستعمال عدد من المحركات النفسية من أجل ترسيخ الحكم وإعطائه شرعية من فوق المؤسسات والقوانين. هناك منذ البداية إذًا نوع من القناعة بأن شرعيّةً ترسخ نفسها في المخيال الديني والروحي أبعد أثرا من أشكال الشرعية الحديثة.
النخبوية البورقيبية
يجب بالفعل التأكيد على أنّ بورقيبة مثّل مدرسة الحكم المعتمدة على دور النخب في تطوير المجتمع. الأدلة على انتماء بورقيبة للمدرسة النخبوية كثيرة ومتواترة، غير أن ذلك يبقى متعلقا بالفترة التي ابتدأت بتسلّمه الحكم بعد استقلال البلاد في 1956. قبل ذلك وطيلة فترة الكفاح الوطني كانت الأولوية لتكتيل الشعب في مواجهة الاستعمار، ما كان يعني عدم الاشتراك في أيّ دعوات للإصلاح الاجتماعي أو الديني مثلما ظهر إبان قضية المُصلح الطاهر الحداد. في عدد من الحالات، يشير باحثون إلى التناقض بين سلبيّة بورقيبة إزاء دعوات الطاهر الحداد للإصلاح الاجتماعي في الثلاثينات، وبين تبنيه لها بصورة شبه كاملة منذ 1956 خاصة عن طريق إصدار مجلة الأحوال الشخصية، ويلقون بذلك على كاهل الانتهازية السياسية. هذا في رأينا فهم خاطئ لسلوك بورقيبة ولمعنى الانتهازية السياسية نفسه. إنّ الانتهازية بالنسبة لأي نظام حكم هي مجاراة المزاج العام وعدم وضع سلطته تحت تهديد الشارع الذي تقع خلخلة معتقداته الأكثر عمقا.
لكن هناك فارقا بين سلوك بورقيبة التحديثي وبين العلمانية التي مضى فيها مصطفى كمال أتاتورك في تركيا. لعلّ من الضروري الإشارة إلى أنّ أتاتورك طبّق اللائكية وليس العلمانية، ومضى في النموذج اللائكي الفرنسي بالذات، بما يعنيه ذلك من معاداة أشكال الانتماء الديني للشعب ومحاولة تجفيف منابع العقيدة الدينية الإسلامية لدى الأتراك. في تونس شهدنا نشأة نموذج آخر، حيث قرّر بورقيبة استعمال الفضاء الديني نفسه بتنصيب نفسه إماما يحقّ له الاجتهاد في الدين، واستعمال شعبيّته الوطنية الجارفة لتحدي ما كان يعتبره ممارسات اجتماعية خاطئة تعطّل مجهود الدولة في التحديث الاجتماعي والثقافي. لقد أكّد بورقيبة باستمرار أنه يتحرك من داخل فضاء الاجتهاد، وباستعمال القياس الديني، وبترسيخ فكرة مقاصد الشريعة.
عندما نتحدث عن العشريّتين الأولييْن من حكم بورقيبة، فإننا نتحدث بصورة أساسية عن دولة النخب التي وضعت لنفسها مهمة كبرى: جذب المجتمع إلى الأمام وإلى فوق، ولو بإتباع سياسات لا يحبها معظم الناس. هذا هو التناقض الأساسي مع الشعبوية اليوم. الأمر يتعلق بإحداث صدمة لدى الجمهور، وإجبار النخب لذلك الجمهور على السّير في غير الطريق الذي تعوده بحكم العادة أو المعتقد. إنّ الفخر الأساسي الذي تمسّك به بورقيبة ليس تحرير البلاد من الاستعمار (حيث سبقه ولحق به في هذا الفخر كثيرون)، ولكن “تحرير المرأة”. أما المؤسسات الحديثة، من دستور وبرلمان وغيرها، فقد أنيطت بها مهمة واحدة: معاضدة الدولة في مجهود التحديث الاجتماعي والخروج من التخلف، ما يعطينا في المحصلة دولة تسير بأكملها، تحت قيادة النخب، في صعيد واحد. إن تصنيف بورقيبة اليوم في خانة الزعماء الشعبويين خطأ منهجي جسيم.
كيف يمكن فهم بورقيبة في العلاقة بالشرعية الدينية للحكم؟ هذه الشرعية حاضرة بقوة وبطريقة تطغى على كل الشرعيات الأخرى بما فيها شرعية الكفاح والانتخاب. هناك لدى بورقيبة إحساس قوي بالاستثناء التاريخي، وبأنه ليس مجرد زعيم سياسي اعتيادي بل مكلفا بمهمة تقترب من الرسالية وتتجاوزها أحيانا. في بعض الخطب الرسميّة تخلى بورقيبة علانية حتى عن الشرعية السياسية الضيقة ليتبنى مفهوم “الشرعية الروحية” التي لا تحدّها اعتبارات من قانون أو دستور أو انتخاب. هذه الشرعية الروحية هي التي بوأته موقع الإمامة، وهذه الأخيرة “خطيرة لأنها تحمله مسؤولية التشريع بحسب ما تمليه مصلحة الأمة أو تفرضه ضرورة الأحوال الطارئة”.[1] لكن الإمامة أيضا خلافة، وهي بهذا المعنى خلافة للرسول محمّد حيث يستلهم الرئيس الزعيم من المسيرة النبوية غايتها القصوى وليس فقط أشكالها التطبيقية.[2]
هاجم بورقيبة معتقدات دينية رئيسيّة مثل الصوم والحج والإرث، واستعمل قوّة الدولة القانونية والتنفيذية من أجل فرض فهم بدا مناقضا في أحيان كثيرة للنص الديني، وكلفه ذلك إرهاصات معارضة دينية متصاعدة لحكمه واجهها هي الأخرى بأجهزة الدولة. اعتبر بورقيبة باستمرار أن الأمر متعلق بفهم خاطئ للإسلام، ومضى خطوات بعيدة في الصدام مع المعتقدات المترسخة في الوعي الجمعي للتونسيين، بل وللمسلمين إجمالا مما أدى إلى تكفيره واستتابته من قبل مفتي المملكة السعودية. سيعتمد الإسلام السياسي على الخلط بين مسيرة بورقيبة ومسيرة أتاتورك، وسيستندُ إلى فتاوى التكفير التي صدرت ضده، ما سيؤدي إلى صراع شرعيات عنيف شهدته البلاد في الثمانينات خصوصا.
بين موسى ومحمد: معاني المعجم الرسالي
هناك ظاهرة لا تخفى على المتتبّعين الجيّدين عندما يتعمقون في دراسة الاستعارات الدينية لدى بورقيبة ثم لدى قيس سعيد، وهي أنّ النموذج الذي يتم الاستناد إليه في الأغلب هو موسى وليس محمد. صحيح أن محمّد حاضر بقوة، لكن الصورة الأكثر اكتمالا في الاستعارات الرسالية تبقى بالتأكيد لموسى. إن الاستعارات الموسوية هي استعارات اقتضتها دائما ضرورات إظهار القوة في التصدي للخصوم وإنقاذ الشعب من أعدائه المهددين لوجوده. لقد تربى بورقيبة في بيت فرعون الاستعماري، ونهل من ثقافته وفنونه وعِلمه من أجل الاستعداد لمكافحته وهزمه في آخر المطاف. أما النبي محمد، فإنه يستند في المخيال الديني الإسلامي العام إلى صورة أخرى أكثر وداعة تتراجع فيها فكرة القوة لصالح التضحية حتى أنه يبدو كمسيرة بين مسيرتيْن، موسى وعيسى.
يجب مع ذلك الإشارة إلى عدد من نقاط التشابه بين النبيين عبر مسيرتيْهما الرساليّتين: تأسيس مجتمع جديد موحّد من شتات القبائل المتفرقة، الهجرة عبر الصحراء تحت ملاحقة الأعداء، الفوضى التي تنتشر لدى المؤمنين بمجرد غياب النبيّ عنهم، تعويلُهما على عدد قليل جدّا من الصحابة من أجل تحقيق الهدف من الرسالة، بناؤُهما حكما قائما على قبول طوعي بالزعامة الروحية ولكن أيضا تحت ظلّ السيف. لقد نقلت خطب بورقيبة حتى منتصف السبعينات هذه المعاني وركزت عليها الدولة في مجهودها الدعائي المباشر وغير المباشر.[3]
إنّ اجتياز الصحراء بقبائل بني إسرائيل، وشقّ البحر لإنقاذهم من ملاحقة جيش فرعون، صورة أسطوريّة ستجد تعبيرات عديدة عن معانيها في خطب الزعيم بورقيبة. كذلك فإنّ صورة محمد وهو يعود إلى مكة فاتحا بعد عشر سنوات من هجرته إلى المدينة، كثيفة الحضور. هناك تشابهات إلى حدّ التطابق بين مسيرة بورقيبة والنبيّين، ما يرسخ فكرة الزعيم الميتا-تاريخي في الوعي العام. حتى صُلح الحديبية حاضر أيضا عبر إمضاء الاستقلال الداخلي في جوان 1955، تلك الخطوة التي اضطر إليها بورقيبة اضطرارا من دون أن يصرف نظره عن “الفتح” النهائي بالاستقلال التام بعد أقل من عام. لقد هيّأ كلّ من يتم الزعيم وفقر أسرته الرجل إلى قدر عظيم، حيث بنى زعامته حجرا حجرا، ونجا من كل المكائد بالتعويل على ذكائه وعزيمته حتى أصبح “إمام المسلمين في الرقعة التونسية”. بنيَت عبر عقدين من الزمن أسطورة كاملة على هذه الاستعارات الرسالية. لكن بورقيبة مضى خطوة أكثر جرأة بالتأكيد على أنّ النبي محمد إنما نجح بالوحي الإلهي، في حين أن بورقيبة “حمل رسالة أعسر بالنظر إلى أن قادة الأمم لا يشعرون مثل الأنبياء بالتأييد السماوي يحف بهم ويحميهم من الزلل والعثار”.[4]
إنّ العلمانية البورقيبيّة محض سوء فهم تاريخي. نحن بإزاء زعيم يعتبر الفعل من داخل الحقل الديني أبلغ تأثيرا في مجتمع لا يزال يولي المعتقدات القديمة أهمية أكبر مما تفرضه عليه ضرورات التطور. هذا تدخل واعٍ يضع نصب عينيه هدفا هو في الحقيقة هدف أيّ دولة تنظر للغايات أكثر من اعتنائها بالوسائل التي تصل بها لتلك الغايات. إنّ نزول بورقيبة للحقل الديني ومعاركه داخل ذلك الحقل ضدّ قلاع المحافظة يحمل النخبوية البورقيبيّة إلى مدى آخر لم تبلغه الأتاتوركية: استعمال كلّ ما هو متاح من أجل التحديث، ولو كان الأمر متعلقا بالفضاء المفترض أن يكون معاديا أصلا للتحديث. سياق الخمسينات هو من هذا المنطلق سياق خاص، يعطي الأولوية لمواصلة مساعي التحرر الوطني، وينشر التعليم وأفكار التحرّر الاجتماعي والثقافي من أجل تحويل الشعب إلى أمة واحدة تسير نحو مصيرها الذي تنحته بجهدها اليومي. انعتاق يتلو انعتاقا آخر، ومعركة أكثر ضراوة من كل المعارك السابقة.
يطرح ذلك فارقا أساسيا مع ما تشهده البلاد اليوم مع قيس سعيد، وهذا الفارق هو أساسا فارق السياق التاريخي العام. جاء قيس سعيد إلى الحكم وقد مضت الحداثة خطوات كبيرة ونشأت أجيال من المتعلمين المؤمنين بأولوية المأسسة الحكمية. جاء قيس سعيد أيضا بعد عشر سنوات من الثورة كانت كفيلة بهضم المحافظين داخل مؤسسات الحكم، وترسّخ القناعة لدى النخب بأولوية التداول الديمقراطي على الحكم. هذا ما يجعل طريقة انقضاض قيس سعيد على الحكم نوعا من الردّة السياسيّة، واستناده المستمر والواعي على المعجم الرسالي نوعا من الردّة الثقافية، بالمفهوم التاريخي العام.
الرّدّة الشعبوية: الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى
هناك فارق أساسي ومركزي بين معاني الاستعارة الرسالية لدى كل من بورقيبة وقيس سعيد. ففي حين انطلق الأوّل من غاية نخبوية تهدف إلى زيادة إمكانيّات الدولة في نشر الحاجة للتحديث، يأتي الثاني بهدف واحد: ترسيخ تخلي النخب عن مهامها التاريخية من أجل جعل الشعبوية قدرا محتوما على الجميع. في كلتا الحالتين يقع استغلال الاستعارات الدينية الرسالية لترسيخ طريقة في الحكم، ولكن الفارق يبقى في المحصلة قائما كما التناقض بين النخبوية والشّعبوية.
إنّ محافظة قيس سعيد الثقافية والدينية والاجتماعية أمر يحتاج دراسات مستقلّة. مع ذلك فإننا نأخذها هنا كأمر مسلّم به ، وبما أنها صريحة وصارخة، فإنها لا تحتاج إسهابًا في التدليل عليها. عندما كان قيس سعيد يحرص على إبداء تديّنه بالتنقل من مسجد إلى آخر، ثم يتعمد أنصاره نشر صوره كزاهد متعبّد لا تهمّه مباهج الدنيا ولا منافع الحكم، فقد كان يعمل على تسييل معنى التديّن ومسح أي انطباع يربطه في الفضاء السياسي بالإسلاميين. عندما جاءت المواجهة، لم يستطع أحد بما فيهم الإسلاميون أن يدّعوا أنهم مستهدفون بسبب معتقداتهم الدينية. لقد أضحى ذلك جزءا من الماضي. رسّخ قيس سعيد صورة الرئيس المسلم[5]، في تناقض مع خصومه الإسلاميين، فحقق نصرا مضاعفا: تجسيد الإسلام الاعتيادي الذي يعتنقه معظم الشعب، وعزل خصومه السياسيين في زاوية الهرطقة. لم يظهر توجه قيس سعيد المحافظ في سلوكه الدعائي فقط، حيث نجد أثرا قويا له في الدستور الذي حرّره بنفسه وأصبح منذ سنة الدستور الرسمي للبلاد. لقد وضع قيس سعيد حدّا للتعامل بين اجتهادات النخب وتوافقاتها التاريخية، وبين التديّن التقليدي للشعب، بالانتصار لهذا الأخير عبر رؤية أصولية عصفت في الوقت نفسه بكل مقوّمات الحداثة السياسية.
يؤدي ذلك إلى القول بأنّ الهمّ السياسي ظلّ الأكثر اعتبارا لدى قيس سعيد: إنها أصولية تنسجم مع قناعاته الشعبوية حيث يتمّ التوجّه نحو احتكار الهيمنة على جمهور لا تشقه الاختلافات التي غرستْها النخب، وشعب نقيّ من كل الرّجس الحداثي. المسألة هنا أن الأصولية، إلى جانب مكونات أخرى، ليست إلا أداة شعبوية أخرى في منظومة الهيمنة النفسية والسياسية على الشعب، حتى ولو كان الادّعاء هو تمثيل الرئيس لروح الشعب.
جاء قيس سعيد يسعى من أقصى الفضاء العام لينجح أخيرا في إقناع الناس باتباعه، كأي أحد من المرسلين المجتهدين. هناك قناعة تتسرب من خطابات قيس سعيد، وهو أنه رجل استثنائي بالمفهوم التاريخي، وزعيم ميتا-تاريخي حقيقي. إنّ أسطورة الإنقاذ شديدة الارتباط بهذه الزعامة مرة أخرى[6]. لكن الأمر لا يتعلّق بموسى، بل بالنبي الذي علم موسى: الخضر. “إنك لن تستطيع معي صبرا” التي رفعها قيس سعيد أكثر من مرة في وجه المعترضين على قراراته كانت تجاوزا لموسى، تجاوزا يربطه بالله مباشرة. في الوقت نفسه، فإننا نشهد، مع احترام الفوارق في التوقيت والمعاني، المسار ذاته الذي اتبعته النخبوية البورقيبيّة: التعالي على المؤسسات واعتبار القوانين والدستور أقلّ من التعبير عن المقاصد العليا للزعيم-النبي. لقد اختار كلاهما طريقا مختلفة، لكن المؤدّى كان في المحصلة هو ذاته: سحق المؤسسات وهي في مرحلة الولادة أو في مرحلة الاكتمال.
إنّ رفض قيس سعيد الخضوع للمؤسسات، مهما كان نوعها وبغضّ النظر عن كونها موجودة أو ربما وجدت في وقت لاحق، أمر يمكن التأكد منه عبر مطالعة دستوره وكل المراسيم التي أصدرها، وكذلك عبر خطاباته. بالنسبة لقيس سعيد، الله والتاريخ فقط قادران على تقييم ما يفعل. تقييم يقتضي المحاسبة البعدية، وفي غير الحياة الدنيا. بهذا المعنى، فإن التاريخ هو الله نفسه، ما يجعل قيس سعيد ليس فقط معفى من المساءلة البشرية والمؤسساتية، بل مؤجلا لها بلا حدود من زمان ومكان. هناك حكمة غائبة لدى الجميع من سلوكات الرئيس، ولكنها حكمة إلهية يصعب فهمها على البشر المتناثرين أمامه والخاضعين لقدراته الرسالية. إله صغير قادر على تجاوز الأنبياء أنفسهم عندما كانوا يضطرون على مجادلة معارضيهم وشورى صحابتهم.
إن الاستعارة الرسالية أمر بالغ الترسخ في استراتيجيات الهيمنة لدى النخب التي تجدُ نفسها في السلطة في مجتمع شديد المحافظة. تتعلق المسألة ياستمرار بحاجة من حاجات الحكم، وهي الهيمنة الروحية التي تأتي لترسيخ زعامة سياسية. في كلّ الحالات، ولو تعلق الأمر بالجمع بين بورقيبة وقيس سعيد في منزلة واحدة، فقد كانت خطة ابتدعتها النخب باستمرار لترسيخِ هيمنتها على الجموع. هذا ما يفعله قيس سعيد اليوم عبر سير متناسق بين الغايات والتعبيرات، وإن كان يتبع طريق الشعبوية. وهذا ما اجتهد فيه قبله بورقيبة ولكن انتصارا وتكثيفا للتوجه النخبوي التحديثي. لكن هناك فارقا أساسيا مع ذلك بين التجربة البورقيبية والسعيديّة. ففي حين أن الحكم كان هو نفسه طريقا للتحديث في الفترة الأولى من الاستقلال، فإنّ شعبوية اليوم تجعله غاية لا أهداف أخرى وراءها غير ترسيخ ذات الحكم. في خضم هذا الفارق، يتعلّق الأمر بردّة واضحة عن التحديث والعصرنة نحو المحافظة الأكثر دغدغة للغرائز الجمعية. إن أخلاقية التحديث التي كانت مبررا لكثير من التجاوزات قد انتهت اليوم إلى احتيال واسع المدى من جزء آخر من النخب رأت في الانتهازية الشعبوية آفاقا أرحب للهيمنة.
[1] خطاب الرئيس الحبيب بورقيبة بتاريخ 24 مارس 1975.
[2] أنظر مثلا هذا المقتطف من خطاب بورقيبة بتاريخ 3 سبتمبر 1960: “الاستلهام مما في سيرة الرسول من مبادئ قارة وسنن حكيمة، متدبرا منها كيف أخرج شعوب العرب وغيرها من الشعوب من حال الوثنية إلى طور التدين الحق القائم على العقل الواعي المفكر وعلى العمل الصادق الصالح وكيف استطاع أن يخلق هكذا من شعوب كانت شتاتا من العشائر والقبائل أمة موحدة ودولة قوية”.
[3] لمزيد التدقيق في الإستعارات الرسالية لدى بورقيبة وسياقاتها التاريخية، يرجى الإطلاع على كتابنا “دولة بورقيبة، فصول في الإيديولوجيا والممارسة (1956-1970)، تونس 2004.
[4] خطاب بورقيبة بتاريخ 2 أكتوبر 1964.
[5] يرجى الإطلاع على مقال خليل العربي، “المجال الديني والسياسي في دستور الرئيس: الدولة الدينية من بوابة الشعبوية“، موقع المفكرة القانونية. مقال منشور بتاريخ 10 أفريل 2023.
[6] للإطلاع: مقال أحمد نظيف، “أسطورة «المنقذ» في تونس المعاصرة: رجل «العناية الإلهية» وتحوّلاته”. موقع المفكرة القانونية. مقال منشور بتاريخ 31 مارس 2023.