توقّع وزير السياحة في حكومة تصريف الأعمال وليد نصّار مع بداية الصيف أن يتجاوز عدد الوافدين إلى لبنان في صيف 2023 المليونَي زائر، فيما تشير أرقام حركة مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت إلى وفود ومغادرة 4 ملايين و109 آلاف و962 راكبًا لغاية نهاية تمّوز المنصرم، بزيادة 21.14% عن 2022. وإذا أخذنا تمّوز كمثال لتفنيد الرقم نجد أنّ حركة الوافدين والمغادرين بلغت 923 ألفًا وراكبًا واحدًا خلال تمّوز من بينهم 504 آلاف و26 راكبًا وافدًا (أي الأغلبية).
وقبل يومَين أكّد نصّار أنّ حجوزات الفنادق وتذاكر الطيران تشير إلى أنّ الموسم مستمرّ إلى ما بعد أيلول المقبل، وأنّ 500 مؤسّسة سياحية فتحت أبوابها، متوقّعًا أن تلامس الكتلة النقدية المتداولة في السوق عتبة 10 مليارات دولار، هذا عدا عن تحويلات المغتربين إلى أهاليهم. ولفت وزير السياحة إلى أنّ 30% من الوافدين هم أجانب، وتحديدًا أوروبيون، يليهم سيّاح عرب من الأردن ومصر والعراق، فيما الـ 70% هم من المغتربين اللبنانيين.
هذه الأرقام تترجمها مشاهد المناطق السياحية التي تشهد فورة سياحية تتمثّل في حركة ناشطة وحجوزات، وتثير استغراب الداخل والخارج نظرًا إلى تدنّي مستوى البنى التحتية من كهرباء وماء من دون أن نتطرّق إلى تحذيرات بعض الدول لرعاياهم بضرورة تجنّب بعض المناطق التي يعتبرونها ساخنة أمنيًّا، وحثّ بعضهم الآخر هؤلاء على المغادرة.
لكن بالرغم من الموسم السياحي الناجح، هناك جزء خفيّ من القصّة “الجميلة”، في هذا الوقت العصيب، يتمثّل في حكايا العمّال والعاملات الذين يخدمون مؤسّسات القطاع، والتي تجسّد ظروفهم وهم يشقون لإعالة أنفسهم وأسرهم بالحدّ الأدنى.
وتأتي أرقام القطاع الخاص في السياق ذاته، حيث أعلن رئيس اتّحاد النقابات السياحية بيار الأشقر أنّ نسبة الحجوزات في الفنادق تتراوح بين 75 و100%.
يتحدّث الأشقر في اتّصال مع “المفكّرة القانونية” عن “انتعاش القطاع” ذاكرًا أنّ أكثر من مليون مغترب من الخليج وأفريقيا وبعض الدول الأوروبية “إجر هون وإجر برّا”، يزورون لبنان سنويًّا ويُحضرون معهم العملة الصعبة. ويؤيّد نائب رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والملاهي والباتيسري في لبنان خالد نزها تصريحات زميله، كاشفًا عن أنّ القطاع كان يضمّ 13 ألف مؤسّسة، وانخفض هذا العدد بفعل أزمة كورونا وبعد جريمة تفجير مرفأ بيروت، ليعود ليتعافى مجدّدًا مع فتح 4 آلاف مؤسّسة جديدة أبوابها بعدها، وقد رافق هذا التعافي انضمام 30 ألف عامل حديثًا إلى القطاع.
وبغياب أيّة إحصاءات رسمية، يؤكّد رئيس اتّحاد النقابات السياحية أنّ القطاع يؤمّن عملًا لـ 160 ألف عامل وعاملة، ربعهم موسميّون. أمّا عن الرواتب، فلا أرقام دقيقة يُفصح عنها نقباء أصحاب العمل، لكنّ الأشقر يقول في تصريحاته إنّ “ما يميّز قطاعنا هو البقشيش، فحتّى لو لم تدفع للموظّف أيّ راتب، يبقى له البقشيش، وتعويله على كرم اللبنانيين، واللبناني هو الأكثر كرمًا في العالم”. إذًا، وعلى ما يبدو، ليس أمل عمّال القطاع في العيش الكريم معلّقًا على حقوقهم، بل على “كرم” الزبون.
أرباح المؤسّسات لا تنعكس على أجور الموظّفين
يبلغ حجم القطاع اليوم ما يقارب الـ7 مليارات دولار في السنة بحسب خالد نزها، فيما يشتكي حسن، عامل في فندق 5 نجوم برأس بيروت، من لا عدالة الرواتب مقارنة بأرباح أصحاب العمل: “بلغت تكلفة حجز جناح لثريّ عربي بالفندق 45 ألف دولار أميركي في الأسبوع، بينما راتب موظّف خدمة الغرف 19 مليون ليرة و200 دولار شهريًّا”. يعمل حسن 9 ساعات يوميًّا لمدّة 6 أيّام في الأسبوع، ويعود إلى منزله بمعدة شبه خاوية تحتوي على وجبة من الفندق يشكّل الأرزّ مكوّنها الرئيسي.
محمّد، زميل حسن المسؤول عن صندوق المطعم، يروي أنّهم يقفلون الصندوق في بعض أيّام السبت بمبلغ يزيد على 30 ألف دولار: “بعض الطاولات تنفق 1000 دولار على المشروبات فقط، وبلغت فاتورة المشروبات الروحية التي اشتراها الفندق خلال 6 أشهر 15 مليون دولار، ولك أن تتخيّل الأرباح المُحقّقة منها”؛ لكن راتب محمّد 300 دولار فقط، مع دوام يمتدّ لـ12 ساعة يوميًّا. قبل 2019، كانت أسعار الفندق أقلّ بنسبة 15% ورواتب موظّفيه تتجاوز 3-4 أضعاف. وعليه، يرى محمّد أنّ هذه الأرباح تذهب لصالح مراكمة ثروات أصحاب الفندق، وأعمال توسعة وتطوير باذخة، بينما يبقى هو وزملاؤه متروكين، وبظروف عمل تشتدّ صعوبة.
في مطعم فاخر في مدينة صور يزدحم بالمغتربين العائدين من الدول الإفريقية، يحصل عبد الرحمن على راتب قدره 90 دولارًا، ويُحرم من بدل النقل بحجة أنّ المطعم يؤمّن له سكنًا قريبًا، وهو، كأغلب عمّال النارجيلة، يعتمد على البقشيش. يصف عبد الرحمن مكان إقامته بأنّه “غير مناسب للحيوانات”، إذ يتكوّن من غرفة صغيرة بها تلفاز صغير وسرير ضيّق ونافذة للتهوئة. يعاني عبد الرحمن من حرارة الصيف الشديدة في هذه الأيّام، ويجد نفسه في حيرة بين تشغيل التلفاز أو الثلّاجة الصغيرة أو المروحة، حيث لا يحتمل الاشتراك الكهربائي تشغيل هذه الأجهزة معًا. يتنهّد الرجل الأربعيني ليضيف: “الأنكى أنّ رفعَ المطعم لأسعار النارجيلة إلى حدود الـ10 دولارات تسبّب في امتناع الزبائن عن دفع بقشيش سخيّ، ما جعل قيمة الإكرامية تتراجع أكثر من النصف، وبالكاد تلامس 150 دولارًا شهريًّا”.
من جهتها، تستذكر ريم، وهي خرّيجة فندقية، وتعمل في المجال منذ أكثر من 7 سنوات، حماستها عندما دخلت الجامعة في أوّل يوم لدراسة “الاختصاص الحلم”. تقول إنّها كانت شغوفة بالعمل في قطاع الضيافة، مع كلّ التجارب التي يمكن أن يعيشها الشخص كلّ يوم، “كاستقبال سوّاح وزوّار من داخل وخارج لبنان، يستكشف العامل ثقافتهم فيما يجني رزقه مهتمًّا بضيافتهم”. بحسب ريم، التي تعمل مديرة صالة في مطعم في الشوف، إنّ “ظروف العمل الضاغطة والراتب الذي لا يتعدّى الـ 325 دولارًا يجعل الحلم أقرب إلى كابوس”، وتتابع “نحن نعمل كي نؤمّن مصروفنا وربّما نساعد أهلنا بكيلو بندورة من هنا وكيلو دجاج من هناك”، أمّا عن تطلّعاتها المستقبلية “فالحلّ بالهجرة”، وتتلبّد تعابير وجهها فيما تنطق بالكلمة.
من جهته يرى سامي، موظّف محلّ العصير في سوق البترون، أنّه، لو ذهب إلى العمل في أحد بارات المنطقة، كان ليجني راتبًا متدنّيًا أيضًا لكن بقشيشًا أعلى، “إلّا أنّ العمل هناك مرهق جدًّا”. يتقاضى سامي 250 دولارًا مقابل 9 ساعات عمل “أخصّصها لمصروفي الخاص، مزيلًا عبئي عن أهلي”. يؤكّد ابن الـ 18 عامًا أنّ الراتب غير عادل مقارنة بضغط العمل ووفرة الزبائن، وتاليًا الأرباح: “كلّنا منعرف أنّنا بسبب الأزمة Underpaid”، يقول ابن البترون ثمّ ينهمك في إعداد كوب كوكتيل، وهو للأمانة الصحفية، من الألذّ.
في المقابل، يقول باسم سمعان، صاحب مؤسّسة Cielo del gelato إنّ رواتب موظّفيه المحدّدة بقيمة 10 دولارات عن كلّ يوم عمل، عادلة في رأيه “خصوصًا أنّنا لا نوظّف سوى أولاد المنطقة ممّن لا يتكبّدون الكثير من أجل مصاريف النقل”. يتحدّث باسم فيما يُعاين نظافة الملاعق في يده كمن يدقّق في لمعان حجر نفيس، عن شروط ينبغي تحقُّقها لدى من يوظّفهم “من ناحية النظافة والثياب المرتّبة وضرورة إتقان عدّة لغات للتعامل مع السيّاح”.
نعود إلى بيروت، وتحديدًا إلى شواطئها المستباحة، حيث ينتصب فندق ومنتجع سياحي مُتعدٍّ على الأملاك البحرية. “مدخول موقف السيّارات قد يصل في الليلة أحيانًا إلى 600 دولار، أمّا رواتبنا فلا تتخطّى 280 دولارًا، إضافة إلى بقشيش يذهب بين ترويقة مناقيش، أو علبة دخان ونسكافيه”، يقول طارق، عامل خدمة ركن السيّارات في موقف الفندق. وطارق ممرّضٌ عملَ في عدد من المستشفيات قبل أن ينتقل إلى عمله الحالي “الذي يبقى أفضل نسبة إلى رواتب قطاع التمريض”. زميل طارق، حسين، عسكري في الجيش اللبناني يعمل حارس أمن للفندق، براتب أعلى قليلًا: “الرواتب هنا هكذا، يصل أعلاها إلى 400 دولار للموظّفين المهفهفين الذين يعملون بين غرف الفندق وزبائنه”، ويضحك.
يقول العاملان الجاران إنّ اللحوم لم تدخل بيتيْهما منذ عيد الأضحى الماضي، حينما وزّع أحد أثرياء الحيّ 300 غرام منها على السكّان إثر ذبحه خروفًا أكلت منه المنطقة وضواحيها. يقول طارق “الوضع إلى الأسوأ” ويستفيض شارحًا: رواتبنا تذهب ثمن حاجيات أساسية تتقلّص شهريًّا كلّما ارتفعت الأسعار؛ نسيت أسرتي البيض والجبنة واللحمة والحليب ومعظم مصادر الغذاء الحيوانية، والاعتماد هو على المعلّبات والأرزّ مع ماجي، وسائر أطباق الطعام التي تُحضَّر لسدّ الجوع فقط من دون أيّة قيمة غذائية”.
بدوره يرى أمين، موظّف استقبال في أحد فنادق الحمرا، أنّ المشكلة الكبرى تكمن في أنّ الراتب الذي كان يكفي قبل أشهر، لم يعد يكفي اليوم. يقول طالب الهندسة المعمارية المتوقّف قسريًّا عن الجامعة: “أنا بالأساس توظّفت لأسدّد نفقات الدراسة، لكن مع ارتفاع الأقساط الجامعية بالدولار إلى مستوى لم يعد عملي يغطّيه، جمّدت استكمال تخصُّصي، واستمررت بعملي لأغطّي مصروفي الشخصي وأساعد في إعالة أسرتي التي لم يعد راتب أبي الثابت يكفيها”، تعلو وجهه ابتسامة ازدراء ويقول: “اليوم، فقد راتبي قيمته وبات في أحسن الأحوال يغطّي مصاريفي وحدي”.
معدّل الأجر دون الحدّ الأدنى التقشّفي والدولة متواطئة
يشير المحلّل والصحافي الاقتصادي محمّد زبيب إلى أنّ الأجر الحقيقي للعمّال في لبنان يتدهور بسرعة، بغضّ النظر عن قيمة الأجر الاسمي النقدي. يمثّل الاسمي المبلغ الذي يتقاضاه العامل مقابل عمله، فيما يمثّل الأجر الحقيقي كمّية السلع والخدمات المشتراة لتلبية الاحتياجات الفردية. يعود هذا التدهور بشكل رئيسي إلى تسارع التضخّم الحادّ الذي يضرب البلاد والعباد، يؤازره تخفيض مستمرّ ومتصاعد لقيمة الليرة اللبنانية وقرارات حكومية تحرص على دولرة مداخيل التجّار وأصحاب العمل على حساب سائر أفراد المجتمع.
تُقدَّر الأكلاف المترتّبة على العائلة اللبنانية اليوم بحسب مؤشّر المعيشة التقشّفي بـ 45 مليون ليرة (500 دولار) تؤمّن فقط مستوى معيشة متقشّف يشبه معيشة الزهّاد والنسّاك، بدون حقوق أساسيّة تتمثّل في الطبابة والتعليم، وفي طعام قد يُسكت جوعًا لكنّه حتمًا لا يؤمّن أدنى الحاجات الغذائية للكائن الحيّ.
يشرح الباحث في “الدولية للمعلومات” محمّد شمس الدين أنّ تكلفة السلّة الغذائية الاستهلاكية بحدّها الأدنى تحتلّ نسبة 40% من هذه الكلفة التقشّفية (18 مليون ليرة أو 200 دولار)، بالإضافة إلى كلفة الكهرباء والاتّصالات وإيجار المسكن، ومن دون أيّ احتساب للطبابة والاستشفاء “لأنّ كلفتها العالية تجعلها خارج قدرة الأسر على التحمّل”، مؤكّدًا أنّ “معظم الأسر اللبنانية لا يصل دخلها إلى 500 دولار” ممّا يعني أنّ هذه الأسر تعاني من صعوبة في توفير حاجاتها الأساسية، ويتوقّع لها معدّل عمر أقصر.
لقد كان متوسّط الأجر في القطاع النظامي المصرّح عنه لمؤسّسة الضمان الاجتماعي 1360 دولارًا قبل الأزمة. انخفضت قيمة الرواتب الفعلية بالدولار الأميركي ما بين 3 إلى 5 مرّات عمّا كانت عليه قبل الأزمة وفقًا للمقابلات الميدانية التي أجرتها “المفكّرة” مع خبراء التوظيف والإداريين والعاملين في القطاع السياحي.
على مدى ثلاث سنوات، لم ترفع الحكومة اللبنانية الحدّ الأدنى للأجور سوى من 675 ألفًا إلى 9 ملايين ليرة، أي 13 ضعفًا، فيما ارتفع سعر الدولار 60 ضعفًا، ما يترجم فعليًّا تدهورًا في قيمة راتب الحدّ الأدنى من 450 دولارًا إلى 100 دولار. في المقابل، شرّعت سلسلة قرارات حكومية بين صيف 2022 وشتاء 2023 للمؤسّسات السياحية والتجارية تباعًا التسعيرَ بالدولار، فعادت أسعار المؤسّسات السياحيّة إلى أعلى ممّا كانت عليه بالعملة الأجنبية، وارتفعت تكاليف الغذاء في ميزانية الأسرة نحو 80 ضعفًا، وفق مؤشّر أسعار الاستهلاك.
تمثّل دولرة مداخيل أصحاب العمل وترك مداخيل العمّال في سقوط حرّ انحيازًا واضحًا للدولة في هذه المعادلة، بالرغم من أنّ هؤلاء العمّال هم نظريًّا القاعدة الانتخابية للسياسيين وهم قوّة اجتماعية أكبر عدديًّا من أصحاب العمل، الأمر الذي يعيده زبيب إلى طبيعة النظام النيوليبرالي القائم في لبنان منذ الحرب الأهلية.
الثابت هنا أنّ نقطة البداية التي تحدّدها الدولة للتفاوض على الرواتب بين العمّال وأصحاب العمل منخفضة جدًّا؛ في المقابل، ومع تدهور الظروف المعيشية باستمرار، وزيادة عدد أفراد الأسرة المضطرين إلى العمل، ودخول فئات جديدة إلى سوق البحث عن العمل بفعل انهيار قطاعات وفقدان رواتب القطاع العام لأيّ قيمة حقيقية، يزداد ارتفاع الطلب على الوظائف، الأمر الذي يسمح لأصحاب العمل بتقديم أجور أقلّ لأنّه يضعهم في موقف تفاوضي أقوى، “ممّا يحقّق الهدف الأساسي لرأس المال، وهو زيادة هامش الأرباح”، بحسب ما يشرح زبيب.
تبخُّر حقوق العمّال النظاميين وسيطرة العمل غير النظامي
مع تدهور قيمة الأجر النقدي وقدرته الشرائية، يصبح الحديث عن الأجر الاجتماعي ضروريًّا، وهو القيمة الشاملة للخدمات التي يحصل عليها الفرد في المجتمع مقابل عمله، بما في ذلك الرعاية الصحّية والتعليم والحماية الاجتماعية وغيرها من العوامل التي تسهم في رفاهيته وجودته المعيشية. هذا ينطلق من ضرورة مقاربة الأجور من منظور أوسع يأخذ في الاعتبار الحاجات الأساسية للأفراد بصورة شاملة، وليس فقط القيمة النقدية للراتب.
والمدخل لتحصيل الأجر الاجتماعي هو أن تكون عاملًا نظاميًّا مُؤهَّلًا ومُسجَّلًا في النظام الرسمي للضمان الاجتماعي أو البرامج المشابهة، هؤلاء كانت تُقدَّر نسبتهم بـ 60% فقط من عدد العاملين قبل الأزمة بحسب الباحث رضا حمدان. اليوم، تسرّب عدد كبير من الموظّفين في القطاع العام والخاص إلى سوق العمل غير النظامي، وتضخّم حجمه إلى أكثر من 60%.
وبفعل السياسات المعتمدة في ظلّ الأزمة عينها، شُطبت حقوق العاملين في القطاع النظامي والمُسجَّلين لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في البلد مع انهيار تقديماته التي باتت اسمية، وتلاشت قيمة المنح التعليمية التي تقدّمها الدولة، فباتوا زملاء في مستنقع المأساة الاجتماعية الشاملة جنبًا إلى جنب مع العاملين غير النظاميين الذين حُرموا بدورهم من التغطية التي كانت توفّرها وزارة الصحّة، وبات أولادهم أسرى قطاع تعليمي رسمي ينتقل من إضراب إلى إضراب.
في إحدى بلدات قضاء زغرتا، يعدّ عمر نفسه “سوبّر عامل”، فطبيعة العلاقة مع أصحاب العمل في هذه المنطقة الجبلية تختلف بحيث تصبح لها أبعاد عاطفية، وبخاصّة بعد أن قضى العامل العكّاري 30 صيفًا في وظيفته الموسمية في الفندق، وبات يتقن جملة من المهامّ المنوّعة. يعمل عمر بدوام مفتوح وراتب 300 دولار شهريًّا (كان 1200 دولار قبل الأزمة)، بالإضافة إلى البقشيش الذي لا يتعدّى 120 دولارًا شهريًّا، يذهب منها 20 دولارًا أسبوعيًّا بدل مواصلات إلى عكّار حيث تبقى أسرته. “ما أجنيه اليوم لا يكفيني مصروفًا شخصيًّا، أمّا بناتي الثلاث اللواتي لا يزلْنَ يكملْنَ تعليمهنَّ الجامعي فأصرف عليهنَّ من ثمن قطع أرض ورثتها في عكار وبعتها بثمن بخس من أجلهنَّ”. وخالد يعمل في الشتاء مزارعًا في منطقته النائية، بعد أن كان صاحب أراضٍ قبل الأزمة “اضطررت إلى بيعها جميعها مقابل 4 دولارات للمتر المربّع، والذي للمفارقة كان يُقدّر بـ 20 دولارًا قبل الأزمة”. يقول عمر إنّ ما نسمعه كلّ عام في الإعلام ومن خلال تصريحات المسؤولين عن “ازدهار الموسم السياحي”، يبعث في نفسه الأمل مراهنًا على تحسُّن أجره وربّما ارتفاع قيمة البقشيش، “لكن كلّه كلام، فمن يأتون هم مغتربون جاؤوا لرؤية أهلهم، وميزانيّاتهم محدودة”.
يقول عمر إنّ أصحاب الفندق يعزون انخفاض أجره إلى تراجع أرباح المؤسّسة، حيث يبلغ سعر الحجز لشخصَين 100 دولار في الليلة، لكنّ الطلب قليل. يتفهّم عمر موقف أرباب عمله إلّا أنّه لا يُخفي حنقه على عدم ضمان حقوقه بالرغم من 30 عامًا من الخدمة “من دون ضمان أو حقّ في التعويضات… لقد طالبت كثيرًا… واليوم مع انهيار مؤسّسات الدولة لم أعد أطالب بتسجيلي في الضمان، لأنّ فائدته تلاشت، فباتت التغطية الصحّية بالليرة لا تغطي شيئًا من قيمة الفاتورة الصحّية بالدولار، وفقدت التعويضات قيمتها”.
في بيت ضيافة في البترون، تقول ليندا، موظفة الاستقبال، إنّها مضطرة إلى العمل 55 ساعة في الأسبوع مقابل 250 دولارًا شهريًّا للمساهمة في إعالة أسرتها، فيما أطفالها الثلاثة مسجّلون في مدارس رسمية “بلا علم” على حدّ تعبيرها، “في ظلّ الإضرابات وتدهور المستوى”. وليندا كانت موظّفة نظامية في إحدى المؤسّسات الرسمية قبل أن تنزح نحو قطاع العمل غير النظامي: “عن أيّ حقوق نتحدّث، لا حقوق هنا ولا حقوق هناك، لكنّني على الأقلّ أجني ثمن زوّادة الطعام التي أضعها لأولادي في طريقهم إلى المدرسة، هذا هو طموحي اليوم، سندويشة زعتر وزيت يأكلها أولادي وتساهم في تفتيح ذهنهم لاستيعاب الدروس”، تقول السيّدة البترونية.
بدورها تروي كريستين، وهي موظّفة منذ 5 سنوات في مطعم قديم في الشارع المحاذي، ومُسجَّلة لدى الضمان، إنّها تضطرّ إلى العمل 13 ساعة في اليوم لإعالة أسرتها، مقابل 300 دولار فقط، وبقشيش خفيف لا يصل إلى الـ100 دولار “بسبب طبيعة العمل هنا ونوعية الزبائن المستعجلين”. تقول كريستين إنّها كانت تحصل على 600 دولار مقابل نصف دوام العمل عينه قبل الأزمة “لكن هذا هو الوضع اليوم، والمعاشات في المطاعم الأكبر في المحيط لن تتعدّى الـ 400 دولار على كلّ حال”.
المشترك بين ليندا وكريستين الضحكة العريضة في خضمّ الحديث عن المعاناة، تقول كريستين “تعوّدنا أن نضحك، نضحك من أجل أهلنا وأسرنا، نضحك للزبائن والسيّاح، نضحك لأصحاب العمل، ونضحك كي لا نمرض… الضحكة أغلى من كلّ المعاش”.
تعمل السيّدتان (في الثلاثين من عمرهما) اليوم كما عمل عمر لـ30 سنة، من دون ضمان صحّي أو منح تعليمية أو حقوق مكفولة بالتعويضات أو حتّى الإجازات الأسبوعية والسنوية، “ما يعني وضعًا أسريًّا أفقر وظروفًا اجتماعية أصعب” بحسب الباحث رضا حمدان، الذي يشرح أنّ “هذا الوضع تتعامل معه جميع الأسر بإستراتيجية واحدة، خفض الاحتياجات الذي يبدأ بالصحّة والتعليم ويصل إلى الغذاء، وتوجّه عدد أكبر من أفراد الأسرة إلى العمل الذي يكون بمعظمه غير نظامي”، ما يعني الدخول في دوّامة من الإفقار والتهميش.
لا حقوق عمّال من دون عمل نقابي حرّ
يُضعف غياب النقابات والمنظّمات العمّالية عن الساحة قوّة العمال. يقول المحلّل والصحافي الاقتصادي محمّد زبيب إنّ العاملين الأفراد لا يمكنهم ضمان مصالحهم ما لم يتّحدوا في أطر تنظيمية، ويوضح: “أدّى تفكيك النقابات العمّالية بعد الحرب الأهلية إلى إنهاء دورها في الدفاع عن حقوق العمال”.
أمام هذا الواقع، ينعى رئيس مرصد حقوق العمّال أحمد الديراني الاتّحاد العمّالي العام “الذي تمّ دفنه”، ويضيف أنّ النظام الذي أرسته الحرب الأهلية لم يضعف الاتّحاد فقط، بل أضعف الحركة العمّالية بشكل عام “بعد أن تدهورت الثقافة النقابية والمطلبية لصالح الثقافة الطائفية”، مؤكّدًا الحاجة إلى تعزيز الوعي العمّالي وبناء حركة عمّالية تنظّم العمّال والعاملات في أطر ونقابات حرّة مستقلّة، وتساهم في تجميعهم على أساس المصالح الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية المشتركة.
خلال اللقاء مع طارق وحسين، أشار الزميلان إلى تجربة متواضعة قام بها موظّفو الفندق في أوائل الربيع، حين شكّلوا ضغطًا على الإدارة لرفع رواتبهم بعدما حاولت المماطلة بالرغم من زيادة الحكومة للحدّ الأدنى للأجور؛ لكنّ حسين وطارق يستدركان بالتشديد على أنّ “الحكم هنا يبقى عسكريًّا، يمكننا أن نضغط أحيانًا ضمن جوّ عام مُطالب بين الموظّفين قد ينشأ على غروبات الواتساب، لكنّ الخطأ الفردي ممنوع، والطرد سهل جدًّا، لأنّ الراغبين في الوظيفة كثيرون”.
وحديثًا، ترك محمّد، موظّف فندق رأس بيروت، عمله، بعد أن وجّه إليه مديره إنذارًا بتهمة “المشاغبة وإثارة القلاقل داخل المؤسّسة” بسبب حديثه خلال استراحة غداء مع زملائه عن فكرة إنشاء نقابة تضمّ عمّال الفندق الذين يفوق عددهم الـ500.
كانت لهذا الحسّ العمّالي فرصة التبلور بانتظام جدّي مع خضر أنور، وهو طالب، عامل وناشط نقابي، يعمل ساقيًا (بارتيندر) في أحد بارات منطقة مار مخايل براتب 200 دولار، يضاف إليه البقشيش، مقابل 33 ساعة عمل في الأسبوع موزّعة على أيّام الذروة (الخميس والجمعة والسبت). ولخضر تجارب عدّة يرويها لنا لنفهم من خلالها العوائق والفرص التي تواجه الساعين إلى تشكيل قوّة عمّالية حرّة ومستقلّة.
خلال صيف 2022، بادر خضر إلى إنشاء لجنة عمّالية في مار مخايل: “بدأنا بالدعوة إلى جلسات نقاش، لكنّنا واجهنا جملة من العوائق أبرزها أنّ العمّال يعملون بدوامات طويلة، أو أنّهم طلّاب صباحًا وعمّال مساء، ما يخلق إرهاقًا للعامل”؛ ويتابع: “بالفعل قضى موسم المونديال في كانون الثاني 2022 على التجربة بسبب تشتّت الجزء الأكبر من العمّال خارج المنطقة مع انتقالهم إلى مناطق ومقاهٍ طلبت عمّالًا خلال الموسم”، مسلّطًا الضوء على عائق آخر يصعّب مسار التجارب العمّالية اليوم، وهو غياب الاستقرار الوظيفي وغياب العلاقات المستدامة بين العمّال، بسبب تنقُّلهم مع تنقُّل المواسم بين العاصمة والمناطق، وداخل أحياء العاصمة نفسها.
وينشط خضر اليوم ضمن الاتّحاد الطلّابي العام، الذي هو أحد مؤسّسيه، “انطلاقًا من واقع أنّ الطلّاب اليوم بمعظمهم عمّال، وبات العمل ضرورة لاستكمال التعليم. هذا الربط بين الحقّ في العمل والحق في التعليم يسمح ببناء أشكال جديدة من العلاقات وبالتالي التجمُّع والانتظام”. والاتّحاد الطلّابي العام هو تنظيم طلّابي ونقابي أعضاؤه طلّاب وعمّال، أعلن تأسيسه في 1 أيّار 2023 تزامنًا مع يوم العمّال، وذلك من داخل الاتّحاد العمالي العام بعدما اقتحمه خضر وزملاؤه.
إذًا أهو انتعاش أم مزيد من السحق؟
نعود إلى تصريح الأشقر في بداية التحقيق عن انتعاش القطاع: كيف نهضم هذا المصطلح بعد الاستقصاء المستفيض عن أحوال العمّال وظروفهم، ومعدّلات الأجور وتكلفة المعيشة؟
يرفض المحلّل والصحافي الاقتصادي محمّد زبيب الحديث عن “انتعاش”، مؤكّدًا أنّ “الهدف من هذا الخطاب وهذه المصطلحات الإيحاء بأنّ البلد قادر على العودة إلى النموذج الاقتصادي القائم منذ ما بعد الحرب الأهلية، وكأنّ ما مرّ به البلد أزمة وتنتهي ببساطة”.
يؤكّد زبيب هنا أنّ “لا تجربة تاريخية أصلًا تربط انتعاش قطاع أو انتعاش اقتصاد تلقائيًّا بتحسّن ظروف العمّال”، بل إنّ أصحاب الأعمال، وفي ظلّ استمرار النظام القائم “سيقطفون هذا الانتعاش لزيادة مستوى استغلال القوى العاملة”.
يرى زبيب أنّ “الطفرة الاستهلاكية اليوم عند فئات محدّدة، هي بين 20% و 30% من السكّان، لن تستمرّ، كما أنّ تدفّق الزائرين الذي لا يزال مرتبطًا بانتهاء كورونا، ليس دائمًا، وفي ظلّ انعدام البنى التحتية للسياحة، فإنّ هذا الطلب على القطاع مهدّد”. يضيف زبيب أنّ “زيادة سحق العمّال بهذا الشكل، والرمي بفئات أكبر من المجتمع تحت خطّ الفقر، سيؤدّي إلى زيادة التوتّرات، بما يهدّد البلد والاقتصاد الكلّي واقتصاد القطاع السياحي بطبيعة الحال”، محذّرًا من أنّ “ردود الفعل على هذا السحق والاستغلال قد لا تكون واعية وقد لا تكون جيّدة، بل قد تكون سيّئة جدًّا، لكنّها نتيجة طبيعية لهذا المسار وهذا النموذج”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.