سواء كانت 25 جويلية رصاصة الرحمة التي أُطلقت على الديمقراطيّة التونسية، أو، كما لا يزال البعض يحلم، علاجاً لفسادها، لا يختلف اثنان على أنّها لم تكن ممكنة لولا استفحال الأمراض داخل الجسد الديمقراطي. لكنّ الإجماع على وجود مرض لا يعني بالضرورة سهولة تشخيصه. فرغم طغيان هذا الموضوع على النقاش العامّ، كثيراً ما يكون التشخيص مجانباً للواقع، تارة لضيق زاوية النظر، حين تُختزَل المنظومة السياسية في النظام السياسي المنظَّم بالدستور والحياة السياسية في الانتخابات، وطوراً بسبب التركيز على بعض عوارض المرض دون البحث في أصله، كما في ظواهر السياحة البرلمانية والفساد السياسي. لا تساهم محاولة تشخيص أمراض الديمقراطيّة التونسية فقط في فهم أسباب 25 جويلية، وإنّما هي شرط كي لا نكرّر الأخطاء ذاتها، أو نضيّع مزيداً من الوقت في محاولات علاجية غير مفيدة، وربّما تكون قاتلة.
الديمقراطية لا تقوم فقط على نصوص دستورية وقانونية بل تحتاج إلى دعائم كي تكون مستدامة ومستقرّة، وأولى هذه الدعائم، المنظومة الحزبيّة. ربّما لا نضيف شيئاً حين نقول إنّ أمراض الديمقراطيّة التونسية تتأتّى، في جزء كبير منها، من منظومتها الحزبية. لكنّ المفارقة تكمن في أنّ تواتر الخطاب المنتقِد بلْ والمُشَيْطِن للأحزاب السياسية، الحاكمة منها والمعارضة، لم يَصحَبه تفكير في المنظومة الحزبية بشكل شاملٍ لا يقف عند كيْل الاتّهامات وتكرار الشعارات، وإنّما يبحثُ عن حلول.
لقد أظهرتْ تجربة السنوات العشر الماضية عِللاً عديدة في الحياة الحزبية لدينا، سنحاول التعرّض إلى أبرزها. أوّلها عدم الاستقرار، إذ تشهد كلّ انتخابات بروز فاعلين جدد واندثار آخرين كانوا يؤدّون الأدوار الأولى. وثانيها ضعف الأحزاب، إذ لا قدرة لديها على تعبئة الشارع والتأثير في الرأي العامّ ولا على صياغة البرامج. وثالثها ضعف الديمقراطيّة داخلها، إذ لا تزال معظم الأحزاب، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، خاضعة لثقافة الزعيم المؤسّس الذي لا يتزحزح عن مكانه، ولا تُحَلّ الخلافات داخل الحزب إلاّ بخروج الطرف المهزوم. ورابعها، الذي كثر الحديث فيه في الأشهر الأخيرة، هو التمويل غير الشرعي، سواء كان أجنبياً أو داخلياً من قِبل مراكز النفوذ المالي، الذي يصادر الأحزاب لصالحِ أجندات غير المصلحة العامّة، بدون رقيبٍ أو حسيب. علاجُ هذه العِلل لا يكون بتصوّر ديمقراطيّة بلا أحزاب، كما في مشروع رئيس الجمهوريّة الحالم بحقبة تاريخية جديدة. ولئن كنّا لا نتوهّم حلولاً سحرية تغيّر الواقع بمجرّد تنقيح النصّ القانوني، فذلك لا ينفي إمكانيّة الإصلاح، طالما توفّر التشخيص الدقيق وتضافرت الإرادات، داخل الأحزاب وخارجها.
نظام الاقتراع: الشجرة التي تخفي الغابة
منذ صيف 2011، لا يكاد موضوع نظام الاقتراع يغيب عن النقاش العامّ. ورغم تكرُّر الانتقادات التي تحمّله مسؤوليّة التشتّت البرلماني وعدم الاستقرار، وتعدُّد البدائل المقترَحة، لم يتغيّر النظام المعتمَد منذ انتخابات 23 أكتوبر التأسيسية. لا شكّ أنّ النسبيّة مع أكبر البقايا هي أكثر أنظمة الاقتراع نفعاً للقائمات الصغرى، وتالياً، تسمح بأكبر قدر من التعدّدية والتنوّع داخل المجلس المنتخَب. وقد كان اعتمادها من قِبل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي يهدف إلى الحيلولة دون سيطرة حركة النهضة على المجلس التأسيسي وفرض خياراتها في صياغة الدستور. من هنا، تبدو الحجّة التي ترتكز على عدم ملاءمتها للمجالس التشريعية، التي تحتاج أغلبيّات مستقرّة قادرة على الحكم، معقولة. لكنّ تحميل نظام الاقتراع كامل مسؤوليّة تفتُّت المشهد البرلماني يحجب العامل الأكثر حسماً في ذلك، وهو نتائج الأحزاب نفسها. ففي انتخابات 2019، لم يجمع الحزب الأوّل والثاني مجتمعَيْن سوى ثُلث الأصوات المصرَّح بها، ممّا منحهما، معاً، أكثر من 40% من المقاعد. أمّا في انتخابات 2014، فقد أفرز نظام الاقتراع ذاته برلماناً بكتل كبيرة، استحوذ فيه حزبا نداء تونس والنهضة على أكثر من 70% من مقاعده، قبل أن ينفجر الأوّل إلى كتل وأحزاب متنافسة ويشتّت المشهد البرلماني معه.
لا يعني هذا التنسيب أنّ نظام الاقتراع لا يجب أن يتغيّر. لكنّ الوصول إلى العلاج الأنسب يحتاج تشخيصاً دقيقاً. إذ لا يوجد نظام اقتراع مثالي، والخيار يرتبط أوّلاً بالموازنة بين أهداف معيّنة، كالاستقرار والتعدّديّة وعدالة التمثيل والسهولة على الناخب، وثانياً يجب أن يتلاءم مع المنظومة الحزبية الموجودة والإكراهات الاجتماعية في كلّ بلد. أبرز مثال على ذلك هو مقترح الانتخاب على الأفراد على دورتين في دوائر صغرى، الذي يتضمّنه مشروع البناء الجديد لقيس سعيّد، حيث يُصطفى أعضاء البرلمان بالقرعة من ممثّلي العمادات المنتخبين أفراداً. فالاقتراع على الأفراد، بالإضافة إلى مخاطر إذكاء النعرات العشائرية، قد يقتل الأحزاب الصغرى والمتوسّطة، لكنّه سيؤدّي على الأغلب إلى صعود بارونات محلّية في دوائر كثيرة. وهو ما لن يحلّ أزمة تشتُّت البرلمان، ولن يساهم بالأخصّ في إنتاج حياة ديمقراطية طبيعية ومستقرّة[1]. أمّا مقترحا العتبة على مستوى الدائرة، والنسبيّة مع أكبر المتوسّطات، فسينتجان تضخيماً لتمثيليّة الأحزاب الأقوى، لتتوزّع المقاعد المتبقّية على الأحزاب والمستقلّين في كلّ دائرة على حدة، ممّا لن يقضي تماماً على التشتُّت. ربّما يكون الحلّ الأفضل، إذا كان الهدف مشهداً برلمانياً معقلناً، قائماً على كتل حزبية كبرى مع منسوب معقول من التعدّديّة، هو العتبة الوطنية. هذه الأخيرة تسمح بإعطاء بعد وطني للانتخابات التشريعية، فتحصر التمثيل في عدد من الأحزاب التي تمتلك حدّاً أدنى من التمثيليّة الوطنية، وتحول دون صعود نوّاب مستقلّين أو بارونات محلّية تحت يافطة أحزاب صغرى، كما في برلمان 2019. فأصحاب البرامج الجهوية بإمكانهم الترشّح للانتخابات الجهوية، لا إلى البرلمان الوطني. بالإضافة إلى ذلك، من شأن العتبة الوطنية أن تدفع الأحزاب الصغرى إلى الانصهار ضمن كيانات أكبر، إذ تفقد الأمل الذي يتركه نظام الاقتراع الحالي في اقتلاع تمثيليّة برلمانية في دائرة أو اثنتين بقطع النظر عن شعبيّتها الوطنية. لا يقتصر الهدف من مقترح العتبة الوطنية على عقلنة المشهد البرلماني، وإنّما يتجاوزه إلى المساهمة، ولو قليلاً، في الوصول إلى حياة حزبية تجمع بين التعدّديّة والاستقرار، وهو شرط لأيّ ديمقراطيّة.
الإفلات من العقاب: الداء الذي ينخر ثقة الناس في الديمقراطية
يبقى أنّ عدم استقرار المشهد الحزبي أعقد بكثير من مسألة نظام الاقتراع. فهو نتيجة ليس فقط ضعف التقاليد الحزبية قبل الثورة وإنّما أيضا فوضى التمويل من بعدها، التي تسمح لكيانات جديدة بالبروز بشكل مفاجئ وسريع طالما توفّرت لديها الأموال حتّى وإن كانت مصادرها مشبوهة. وهو مرتبط كذلك بتراجع ثقة الناخبين في الأحزاب من انتخابات إلى أخرى. ولا يأتي تراجع الثقة هذا من تنكّرها لوعودها فقط إنّما أيضاً من شبهات الفساد التي تحيط بها. حتّى إنّ أكثر ما يغذّي “معاداة البرلمانيّة” وشيطنة العمل الحزبي هو الانطباع الحاصل بأنّ الأحزاب فوق المحاسبة القانونية، وأنّها بوّابة لتحقيق الثراء الشخصي وتحصيل الامتيازات والحصانات.
لكنّ المرور من الانطباع ومن الاستهجان إلى محاولة الفهم وإيجاد الحلول يحتاج تفكيكاً أكبر للموضوع. وينبغي التمييز أوّلاً بين الرقابة الانتخابية، التي يقتصر مجالها على الفترة الانتخابية، والرقابة العادية والمستمرّة على الأحزاب السياسية، المنظَّمة بمرسوم الأحزاب، وخضوع الأحزاب ومسؤوليها إلى القضاء الجزائي كغيرهم من الأشخاص. ولكلّ شكل من الرقابة خصوصيّته ومعوّقاته.
إحدى آليّات إفلات السياسيّين من المحاسبة الجزائية هي الحصانة البرلمانية. لكنّ الإشكال ليس بالضرورة في مبدئها، وإن كان قابلاً للنقاش. فالحصانة الجزائية للنوّاب، نظريّاً، ليست مطلقة[2]، وهي قابلة للرفع وفق إجراءات معيّنة. لكنّ الأغلبيّة البرلمانية في 2014 حوّلتها في الواقع إلى حصانة مطلقة، مستغلّةً ثغرة إجرائية تتمثّل في عدم تلبية النوّاب الاستدعاء القضائي بدون التمسّك كتابة بالحصانة وسلبيّة القضاة إزاء هذا التحيّل. سدّ هذه الثغرة ممكنٌ عبر تنقيح النظام الداخلي للبرلمان، وقد تضمّن المشروع الموجود في أدراج البرلمان فصولاً في هذا المنحى[3]، في انتظار تنقيح مجلّة الإجراءات الجزائية. لكنّ الإشكال أعمق من الحصانة، وهو يتعلّق بطريقة تعامل القضاء عموماً، والنيابة العمومية خصوصاً، مع القضايا التي يتورّط فيها سياسيّون[4]، وفي سعي بعض الأحزاب السياسية إلى تكوين مراكز نفوذ تخدم مصالحها داخل القضاء. إذ لا تخلو ديمقراطيّة من فضائح سياسية-مالية، يهتزّ لها الرأي العامّ. لكنّ الفرق في الديمقراطيّة، هو أنّ القضاء، إن لم يكن هو أصلاً من كشفها، يتلقّفها مباشرة ويتتبّعها ويسخّر لها كلّ الإمكانيّات، ممّا يحافظ على حدّ أدنى من الثقة في المؤسّسات. لكنّ القضاء في تونس لم يكن واعياً، طيلة السنوات الفارطة، لدوره في حماية الديمقراطيّة من الفساد السياسي.
الرقابة على الأحزاب، في أثناء الفترة الانتخابية وخارجها
كثيرا ما تُختزَل الرقابة على الأحزاب، في النقاش العامّ، في الرقابة الانتخابية. هذه الأخيرة موكولة أساساً إلى هيئة الانتخابات تحت رقابة المحكمة الإدارية، وذلك قبل إعلان النتائج النهائية، ثمّ إلى محكمة المحاسبات. ولعلّ المفارقة أنّ تقارير محكمة المحاسبات تحوّلت، في ظلّ تعطُّل مسار التتبّعات القضائية، إلى عنصر تشكيك في نزاهة العمليّة الانتخابية، عوض أن تكون ضمانة لشفافيّتها. فبالإضافة إلى المنحى الاستعراضي الذي يظهر في بعض التقارير، والذي لا يميّز بما يكفي بين الجرائم الانتخابية الخطيرة ومخالفات محاسبية بسيطة، من الصعب إقناع الرأي العامّ بأنّ محاسبة المتورّطين تحتاج مساراً ثانياً قد لا يُنجَز أبداً طيلة المدّة البرلمانية. يبدو من العاجل إذن توفير الإمكانيّات المادّية والبشريّة لمحكمة المحاسبات للقيام بدورها، وكذلك تنقيح الإجراءات والآجال بشكل يجعل الزمن القضائي معقولاً[5]، وفرض التعاون في هذه المهمّة على بقيّة مؤسّسات الدولة، وأساساً البنك المركزي.
يبقى دور هيئة الانتخابات، الذي لا يقتصر على تنظيم العمليّة الانتخابية إنّما يشمل كذلك التدخّل في نتائجها. إذ إنّ القانون الانتخابي يفرض عليها أنْ تقرّر إلغاء نتائج الفائزين كلّياً أو جزئياً إذا تبيّن لها أنّ مخالفتهم لأحكام الفترة الانتخابية وتمويلها أثّرت على نتائج الانتخابات بصفة جوهرية وحاسمة. كثيراً ما يُعاب على هيئة الانتخابات استقالتها من هذا الدور، إلاّ إزاء بعض الأحزاب “الضعيفة” سياسياً كقائمات العريضة الشعبية في انتخابات 2011 وحزب الرحمة في انتخابات 2019. قد يكون في هذا القول جزء من الصحّة، لكن يجدر التذكير بأنّ قرارات الهيئة التي تلغي نتائج قائمات معيّنة، كثيراً ما تسقطها المحكمة الإدارية. فالأصل في الانتخابات احترام نتائج الصندوق، والتساهل مع تغييرها قد يفتح الباب أمام التلاعب بإرادة الناخبين. في الوقت ذاته، لا يمكن القفز على الشكوك حول مدى استقلاليّة هيئة الانتخابات المركزية وتفريعاتها الجهوية. وقد تغذّت هذه الشكوك من طريقة تعاملها مع البيانات الانتخابية لأحزاب المعارضة في الانتخابات البلدية[6]. من بين الحلول العاجلة، ليس لمحاولة الأحزاب الحاكمة المسّ من استقلاليّة الهيئة فحسب ولكن أيضاً لإشكال الصراع المتكرّر بين رئيس الهيئة ومجلسها، سَحْبُ صلاحيّة انتخاب رئيسها من قِبل البرلمان وتركها إلى مجلس الهيئة، أسوة ببقيّة الهيئات الدستورية.
إنّ تحذيرنا من خطورة التساهل مع تغيير نتائج الانتخابات من طرف الهيئة، لا يعني نفي استفحال مرض الفساد السياسي والتمويلات المشبوهة. على العكس، تنقية المناخ السياسي من هذه الشوائب هو أولويّة لحماية الديمقراطيّة، لكنّ العلاج الأنجع لا يكون عشيّة الانتخابات، وإنّما في المراقبة المستمرّة وتطبيق القانون على الجميع. فما سمح لنبيل القروي على سبيل المثال بالوصول إلى المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعيّة والرئاسية، ليس بالضرورة قصوراً تشريعياً أو تواطؤ هيئة الانتخابات، وإنّما تمرّده على “الهايكا” وقراراتها طيلة سنوات قبل الانتخابات، بتواطؤ من أجهزة الدولة، ممّا سمح له باستعمال قناته التلفزية للشروع في حملة انتخابية مقنّعة سنوات قبل تاريخ الاستحقاق الانتخابي.
ينسحب الأمر ذاته على مسألة الرقابة على تمويل الأحزاب. فهذه الأخيرة لا تتعلّق فقط بالانتخابات ومسارها الرقابي، ولذلك هي تسمح بهامش رقابي أفضل، سواء زمنياً أو سياسياً. لكنّ هذه الرقابة معطّلة بشكل كبير. من جهة، لم تبدأ هذه الرقابة، فعلياً، سوى سنة 2018، بعد صدور قرار وزير الماليّة المتعلّق بالمعايير المحاسبية للأحزاب السياسية. من جهة أخرى، فَتَّتَ المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المنظِّم للأحزاب السياسية الاختصاص الرقابي بين عدد من المتدخّلين، أبرزهم “لجنة” يرأسها الرئيس الأوّل للمحكمة الإدارية وتضمّ كلّاً من الرئيس الأوّل لمحكمة الاستئناف بتونس ورئيس هيئة الخبراء المحاسبين، وثانياً رئاسة الحكومة التي تتولّى التنبيه ثم اللجوء إلى القضاء، وثالثاً محكمة المحاسبات. لكنّ المرسوم لم يحدّد بوضوح صلاحيّات كلّ طرف، ولا أساليب التنسيق بينهم. فاللجنة الخاصّة التي تضمّنها المرسوم، ليس لها أيّ إمكانيّات مادّية أو بشرية، ويشارك أعضاؤها فيها على سبيل التطوّع، في حين أنّ وظائفهم الأصلية تأخذ منهم حيّزاً هامّاً من الوقت والجهد. قد يكون الحلّ إحداث هيكل مختصّ في الرقابة على تمويل الأحزاب، يتمتّع بضمانات الاستقلاليّة بخاصّة بالإمكانيّات اللازمة للقيام بدوره، كما في بعض التجارب المقارنة[7].
لا حياة سياسية نزيهة بدون تمويل عمومي للأحزاب
ليست فوضى تمويل الأحزاب ناتجة عن تسامح تشريعي. على العكس، يفرض المرسوم المنظِّم للأحزاب السياسية ضوابط صارمة على تمويل الأحزاب. إذ يمنع التمويل الأجنبي، مهما كان شكله، والتمويل الآتي من أشخاص معنويين، ويضع سقفاً لتبرّعات الأشخاص الطبيعيين، وهو 60 ألف دينار سنوياً على كلّ شخص. عدم التزام معظم الأحزاب بهذه الضوابط لا يعود فقط إلى ضعف الرقابة، إنّما هو كذلك نتيجة استقالة الدولة من دور ثانٍ لا يقلّ أهمّيّة، وهو التمويل العمومي المباشر للأحزاب. لا يتعلّق الأمر بالتمويل الانتخابي، الذي تستفيد منه القائمات التي تتجاوز نسبة أصواتها عتبة معيّنة، في شكل استرجاع مصاريف. وإنّما بتمويل دائم ومستمرّ للأحزاب السياسية التي لديها تمثيل انتخابي، سواء كان وطنياً أو محلّياً، حسب أحجامها. ورغم أنّ مرسوم الأحزاب السياسية أقرّ هذا المبدأ لم يفصِّل شروطه ومعاييره. قد تكون حساسيّة الرأي العامّ من فكرة تمويل الأحزاب، بخاصّة في ظلّ صعوبات الماليّة العمومية، ساهمت في تأجيل طرح الموضوع عملياً. لكنّ كلفة تمويل الحياة السياسية ضعيفة جدّاً مقارنة بإيجابيّاتها.
تكمن أولى مزايا التمويل العمومي للأحزاب في الحدّ من سيطرة رأس المال على السياسة. وحدها الدولة بإمكانها تحرير القوى السياسية من التبعيّة للمموّلين، سواء كانوا من الخواصّ أو، وهذا أخطر، القوى الأجنبية. كما من شأن التمويل العمومي للأحزاب المساهمة في استقرار الحياة السياسية، عبر دعم الأحزاب التي تنجح في الانتخابات، ومساعدتها على أن تتحوّل إلى “ماكينات” قادرة على الانتشار في كامل التراب الوطني، وعلى صياغة برامج وتصوّرات للحكم. فانقسام الأحزاب إلى كيانات عديدة ليس ناتجاً عن تضارب الطموحات الشخصيّة أو المواقف السياسيّة فقط، بل يرتبط بالتنافس على المموّلين. بذلك، قد يساهم التمويل العمومي في دعم الانضباط داخل الأحزاب، والحدّ من ظاهرة السياحة البرلمانية. ولا تكون معالجة هذه الظاهرة بتنقيح النظام الداخلي، أو حتّى القانون الانتخابي، لإجبار النوّاب على البقاء في أحزابهم، كما حاول الائتلاف البرلماني الحاكم أن يفعل منذ سنة ونصف، خوفاً من انفجار حزب قلب تونس وخسارة راشد الغنوشي رئاسة البرلمان[8]. إنّما الحلّ هو في معالجة جذور الظاهرة. إذ لا يمكن وضع حالات “شراء” النوّاب في نفس السلّة مع حالات الاستقالة لخلاف سياسي أو لتنكّر الحزب نفسه لوعوده. فإذا كانت معالجة الأولى من دور القضاء، فالثانية سببها غياب الآليّات الديمقراطية داخل الأحزاب، التي تجعل الاستقالة سبيلاً وحيداً لفضّ الخلاف الداخلي. ومن شأن التمويل العمومي للأحزاب أن يساعد على دفع الأحزاب إلى مزيد من الديمقراطيّة. هذا الخيار نجده في مسوَّدة مشروع القانون المنظِّم للأحزاب السياسية، القابع في أدراج رئاسة الحكومة، الذي يقتضي حرمان الأحزاب التي لا تعقد مؤتمراتها من التمويل العمومي.
يبقى أنّ سؤال الديمقراطية داخل الأحزاب أعقد وأعمق من أن يحلّه التمويل العمومي لوحده. فهو مرتبط بالثقافة السياسية وتقاليد العمل السياسي وحتّى النقابي في تونس. كذلك الأمر بالنسبة إلى نظام الاقتراع وتمويل الأحزاب. فالنصوص لا تكفي لتغيير الواقع، طالما لم توجد مؤسّسات قادرة على تطبيقها، وسياسات عمومية منسجمة تخدم نفس الهدف. الإصلاح السياسي، وإن كان في جانب منه تشريعياً، يحتاج كذلك تغييراً للعقليّات السائدة ليس فقط لدى السياسيّين وإنّما كذلك لدى بقيّة الأطراف المتدخّلة في المنظومة السياسية، وعلى رأسها القضاء. لا يعني ذلك أنّنا غير جاهزين للديمقراطيّة. فهذه الأخيرة هي قبل كلّ شيء ممارسة، لا يمكن استبطانها دون التدرّب عليها ومراكمة الأخطاء ومحاولة إصلاحها. وإذا كان شرط أيّ إصلاح، حسن التشخيص، فإنّ إصلاح الديمقراطيّة يشترط كذلك أن يتمّ بأساليب ديمقراطية. فوحدها الديمقراطيّة تؤسّس للديمقراطيّة.
نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه
زلزال ديمقراطيّة فتيّة
[1] مهدي العش، ”الاقتراع على الأفراد: حلّ ملغوم لأزمة الحكم“، نشر في العدد 17 من المفكّرة القانونية، انتخابات بطعم الثورة أو زهوة انتخابات لم تدُم طويلا، جانفي 2020.
[2] يجب التمييز هنا بين حصانة النائب في الأعمال المتعلّقة بمهامّه النيابيّة، وهي مطلقة، وبين الحصانة الجزائيّة في ما خرج عن ذلك، وهي محدودة في الزمن وقابلة للرفع.
[3] أنظر مهدي العش، ”البرلمان التونسي يراجع نظامه الداخلي: طغت الحسابات السياسية وضاقت الرؤية الإصلاحية“، نشر في المفكرة القانونية، أفريل 2021.
[4] مهدي العش، ”القضاء الجزائي كساحة جديدة للحروب السياسية: الأسباب عديدة والجميع خاسرون“، نشر في العدد 20 من المفكرة القانونيّة، قضاء تونس في زمن الياسمين، جانفي 2021.
[5] فاروق بوعسكر، ”القضاء الانتخابي بين تشتّت الاختصاص ومحدوديّة النجاعة“، نشر في العدد 20 من المفكرة القانونيّة، قضاء تونس في زمن الياسمين، جانفي 2021.
[6] محمد سميح الباجي عكاز، ”حياديّة الهيئة المستقلّة للانتخابات: أزمة ثقة في مسار شائك“، موقع نواة، أفريل 2018.
[7] في فرنسا مثلا، وفي حين أن تنظيم الانتخابات موكل إلى وزارة الداخلية، توجد لجنة وطنية لحسابات الحملات الانتخابية والتمويلات السياسية، التي تختصّ في مراقبة تمويلات الأحزاب، سواء المتعلّقة بالحملات الانتخابية أو خارجها.
[8] مهدي العش، “مقترح منع “السياحة الحزبية” في النظام الداخلي للبرلمان التونسي: عندما نترك المرض لنعالج أحد أعراضه”، المفكرة القانونية، ماي 2020.