أصدر أمين عام الحكومة في فرنسا بتاريخ 2 تموز 2024 مذكرة توضيحية حول مفهوم حكومة تصريف الأعمال. ولا شكّ أن الأزمة السياسيّة التي تشهدها فرنسا منذ قرار رئيس الجمهورية الفرنسي المفاجئ في 9 حزيران 2024 بحلّ الجمعية الوطنية أعاد تسليط الضوء على حكومات تصريف الأعمال التي لم تعد مشهدا مألوفا في الحياة الدستوريّة الفرنسيّة. فقد عرفت فرنسا منذ تأسيس الجمهورية الخامسة سنة 1958 استقرارا سياسيّا وغيابا شبه كامل للأزمات الوزارية ما أدى إلى تشكيل الحكومات بسرعة كبيرة، الأمر الذي جعل فترة تصريف الأعمال من قبل الحكومات المستقيلة تقتصر على أيام معدودة كان أطولها سنة 1962 عندما قامت حكومة جورج بومبيدو بتصريف الأعمال لفترة تسعة أيام فقط.
ولا شكّ أن هذا الاستقرار في عمل المؤسسات الدستورية كان نتيجة الثنائية الحزبية بين اليمين واليسار التي هيمنت على الانتخابات التشريعية في فرنسا، بحيث كانت الغالبية المطلقة من أعضاء الجمعية الوطنية تتألف دائما من نواب ينتمون إلى الفريق السياسي ذاته، سواء كان هذا الفريق داعما لرئيس الجمهورية أو مناوئا له. لكن هذا الواقع اختلّ بشكل كبير في الانتخابات التي جرت هذه السنة إذ لم تتمكن أيّ جهة من الحصول على الغالبية المطلقة في الجمعية الوطنية، لا بل أن الكتلة النيابية المؤيدة لرئيس الجمهورية تراجعت بشكل ملحوظ وأصبحت تشكل القوة الثالثة في البرلمان بعد تحالف اليسار وكتلة اليمين المتطرف. وهكذا دخلت فرنسا في أزمة سياسية لم تعهد مثيلا لها خلال الجمهورية الخامسة، ما دفع برئيس الجمهورية إلى قبول استقالة الحكومة بتاريخ 16 تموز 2024 من دون تشكيل حكومة جديدة حتى اليوم بسبب الصراع السياسي بين مختلف الكتل النيابية وغياب أكثرية واضحة قادرة على فرض رئيس حكومة جديد.
ومنذ استقالة الحكومة الفرنسية، أعاد الفرنسيون اكتشاف نظريّة تصريف الأعمال التي كانت شبه منسية لا سيما وأن هذه الأخيرة مرشّحة للاستمرار لفترة طويلة. لذلك أعدّ أمين عامّ الحكومة المذكّرة التوضيحية التي عالجت مختلف الجوانب الدستورية لمفهوم تصريف الأعمال وتداعياته على عمل الحكومة والبرلمان. وسرعان ما يتمكن قارئ هذه المذكرة من تبيان أوجه الشبه الكبيرة بين الإشكاليات التي تطرحها نظرية تصريف الأعمال في كل من فرنسا ولبنان. لذلك كان من المفيد تحليل أهم النقاط التي تعالجها المذكرة ومقارنتها مع النقاش الدستوري السائد اليوم في لبنان حول حكومات تصريف الأعمال.
نقاط شكلية مهمة
عالجت المذكرة مجموعة من النقاط الشكليّة المهمّة التي تتعلق ببداية ونهاية تصريف الأعمال ومدته. فبخصوص لحظة انطلاق تصريف الأعمال، اعتبرت المذكرة أنّ ذلك يتم عندما يقبل رئيس الجمهورية استقالة الحكومة وليس من تاريخ تقديم رئيس الحكومة لاستقالته[1]. لا بل أنّ المذكرة كانت أكثر وضوحا فأشارت أن قبول استقالة الحكومة يتمّ عبر توقيع رئيس الجمهورية على المرسوم[2] الذي يعلن ذلك، ما يعني أن مجرد إعلان هذا الأخير قبوله الاستقالة ببيان لا يكفي على الرغم من أن إصدار المرسوم المذكور يتم دائما في اليوم نفسه الذي تعلن فيه رئاسة الجمهورية ببيان قبول استقالة الحكومة.
وهكذا يتبيّن أن الممارسة في لبنان تختلف بعض الشيء عن الوضع في فرنسا خلال الجمهورية الخامسة. فعلى الرغم من أن مسألة بداية تصريف الأعمال لا تثير عادة جدلا ولا يوجد جوابٌ واضحٌ عليها لكن يمكن الاستنتاج ضمنيا من أحد قرارات مجلس شورى الدولة أنّ تصريف الأعمال في لبنان يبدأ من تاريخ تقديم رئيس الحكومة لاستقالته. إذ اعتبر أن حكومة الرئيس عمر كرامي “قدمت استقالتها أمام المجلس النيابي بتاريخ 28/2/2005” (قرار رقم 575 تاريخ 32/5/2007) أي أنه اعتبر أن تصريف الأعمال يبدأ منذ إعلان الاستقالة. وعلى سبيل الاستطراد، أعلن مفوّض الحكومة لدى مجلس شورى الدولة “بأن صلاحيات الحكومة تقتصر على تصريف الأعمال منذ تاريخ إعلان تقديم الاستقالة” (قرار رقم 522 تاريخ 5/5/1999).
نقطة دستورية ثانية تتعلق بوجوب قبول الاستقالة من قبل رئيس الجمهورية. فكما هو جليّ من المذكّرة، إن الاستقالة لا بدّ من قبولها. وهذا ما يفسر لماذا أقدم رئيس الجمهورية الفرنسي على رفض الاستقالة التي تقدم بها رئيس الحكومة في 8 تموز طالبا منه التريّث لبعض الوقت. وبالفعل أقدم رئيس الحكومة على تقديم استقالته مرة ثانية بعد ثمانية أيام فقبلها حينها رئيس الجمهورية في اليوم نفسه. وهذا ما حصل أيضا في لبنان بعد أزمة احتجاز رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية إذ قدم استقالته بعد عودته إلى رئيس الجمهورية في 22 تشرين الثاني 2017 الذي رفضها طالبا منه التريث، وبالفعل سيقدم رئيس الحكومة على سحب استقالته في 5 كانون الأول 2017.
وقد كانت الممارسة شبيهة في لبنان إذ دأبت العادة منذ 1926 على صدور مرسوم بقبول استقالة الحكومة عندما يتقدم بها رئيس مجلس الوزراء (أي خارج الحالات التي تعتبر فيها الحكومة مستقيلة حكما المحددة في المادة 69 من الدستور). وبالفعل، كان آخر مرسوم صدر وفقا لهذه الصيغة المرسوم رقم 14321 الصادر بتاريخ 19 نيسان 2005 عقب استقالة الرئيس عمر كرامي في 28 شباط من العام نفسه. لكن تطورا مستغربا طرأ سنة 2014 في عهد الرئيس ميشال سليمان. فبعد تقديم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي استقالته في 22 آذار 2013، صدر المرسوم رقم 11215 تاريخ 15 شباط 2014 والذي نصت مادته الأولى على اعتبار الحكومة مستقيلة بدل النص المعهود الذي كان يقول بقبول استقالة الحكومة. والأمر نفسه بات يتكرّر منذ ذلك التاريخ، إذ بدل أن يصدر مرسوم بقبول استقالة الحكومة عندما يتقدّم بها رئيس الحكومة، بات المرسوم يكتفي باعتبار الحكومة مستقيلة، علما أن ذلك يخالف الدستور الذي يميّز في أكثر من مادة بين مرسوم قبول استقالة الحكومة ومرسوم اعتبارها مستقيلة.
لكن الاختلاف الأبرز بين لبنان وفرنسا يكمن في تاريخ صدور مرسوم الاستقالة. فالتجربة الدستورية في لبنان تقضي بأن يقبل رئيس الجمهورية في أول الأمر استقالة الحكومة ببيان بحيث لا يصدر المرسوم بذلك إلا عند تشكيل الحكومة الجديدة. ففي اليوم الذي يتم فيه الاتفاق على تشكيل الحكومة يقوم رئيس الجمهورية بتوقيع مرسوم استقالة الحكومة القديمة، ومن ثم يصدر مرسوم تسمية رئيس الحكومة الجديد ويعقب ذلك مباشرة صدور مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة. وهكذا يتبين أن رئيس الجمهورية في لبنان يقبل استقالة الحكومة ببيان يصدر عن رئاسة الجمهورية ويكلفها فيه بتصريف الأعمال بينما في فرنسا يصدر مرسوم قبول استقالة الحكومة قبل صدور مراسيم تعيين رئيس الحكومة وتشكيل الحكومة الجديدة.
وقد خالف الرئيس ميشال عون قبيل انتهاء ولايته هذا التقليد المتبع في لبنان بسبب الخلاف السياسي المستحكم الذي كان قائما حينها بينه وبين رئيس الحكومة المستقيل نجيب ميقاتي عندما أصدر في 30 تشرين الأول المرسوم رقم 10942 الذي اعتبر فيه حكومة الرئيس نجيب ميقاتي مستقيلة قبل تشكيل الحكومة الجديدة ما شكل سابقة مستغربة كون الممارسة في لبنان كما اسلفنا القول تقضي بضرورة تزامن صدوره مع مرسوم تسمية رئيس الحكومة الجديد ومرسوم تشكيل الحكومة، أي أنّ جميع هذه المراسيم يجب أن تصدر بشكل متعاقب وفي اليوم نفسه.
فتصرّف الرئيس السابق للجمهورية جاء من حيث لا يدري متوافقا مع التجربة السائدة في فرنسا اليوم لكن يجدر التذكير أن مرسوم قبول الاستقالة لم يتمّ نشره حتى اليوم في الجريدة الرسمية، ما يشي بأن تصرف رئيس الجمهورية لم يكن مألوفا على الإطلاق، الأمر الذي دفع رئاسة الحكومة إلى التمنع عن إرسال هذا المرسوم إلى الجريدة الرسمية من أجل نشره.
ومن النقاط اللافتة في المذكرة الفرنسية هو إمكانية صدور مرسوم تعيين رئيس جديد للحكومة قبل تشكيل الحكومة الجديدة ما يعني أن رئيس الوزراء الجديد سيتمكن من مباشرة مهامه مع بقاء أعضاء الحكومة القديمة الذين يقومون بتصريف الأعمال في مناصبهم. وهذا أمر لا يحدث إطلاقا في لبنان إذ كما شرحنا لا يصدر مرسوم تشكيل الحكومة إلا مباشرة بعد صدور مرسوم تسميّة رئيس الحكومة الجديد وفي اليوم نفسه.
وتضيف المذكّرة أنّ الدستور لا يفرض مهلة دستورية على رئيس الجمهورية لتشكيل الحكومة ما يعني أن مدة تصريف الأعمال قد تطول وهو الأمر نفسه الذي يحصل في لبنان لكن بسبب عدم الاتفاق بين رئيسي الجمهورية والحكومة لتشكيل الحكومة ما يعني أن الحكومة المستقيلة ستستمرّ بتصريف الأعمال بانتظار التوافق السياسي الذي بات يتطلب في لبنان شهورا عديدة.
ولا شك أن من أبرز نقاط الاختلاف بين نظام تصريف الأعمال في كل من لبنان وفرنسا، أن تصريف الأعمال في فرنسا ينتهي مع تشكيل الحكومة الجديدة بينما في لبنان تستمر الحكومة الجديدة بتصريف الأعمال حتى نيلها الثقة من مجلس النواب.
صلاحيات الحكومة المستقيلة
تعيد المذكرة التأكيد على أن تصريف الأعمال يشمل الأمور العادية المتعلقة بالعمل اليومي لمؤسسات الدولة و الأمور الملحة التي تستوجب اتخاذ تدابير ضرورية من أجل معالجة الظرف الطارئ، وهي تضيف بشكل معبّر أن طول فترة تصريف الأعمال سيؤدّي في نهاية المطاف إلى توسيع صلاحيات الحكومة[3] لا سيما الأعمال التنظيمية التي لا يمكن تأخير صدورها إلى أمد غير معلوم. وهذا تحديدا ما تبناه القضاء الإداري في لبنان عندما عالج مسألة صلاحيّات الحكومة خلال تصريف الأعمال في العديد من قراراته إذ ميّز بين الأعمال الإدارية العادية والأعمال الطارئة التي يجوز اتّخاذها من قبل حكومة مستقيلة والأعمال التصرفيّة التي تتعلّق بسياسة الدولة في شتى الميادين والتي لا يجوز اتخاذها من قبل حكومة مستقيلة. لا بل أن مجلس شورى الدولة اللبناني أقرّ أيضا بأن المدة الطويلة لتصريف الأعمال ستؤدي إلى توسيع صلاحيات الحكومة. وقد شرحت الورقة البحثية التي أعدتها المفكرة القانونية حول هذا الموضوع جميع هذه التفاصيل بإسهاب.
وفي التفاصيل ذهبت المذكرة إلى اعتبار أن الأعمال التنظيمية كونها عامة وتؤدي إلى إدخال تعديلات على البناء القانوني للدولة لا تدخل في مفهوم تصريف الأعمال باستثناء تلك التي يفرض القانون على الحكومة اتخاذها ضمن شروط واضحة بحيث لا تتمتع الحكومة إلا بهامش ضيّق جدا لتقدير مضمون هذا العمل التنظيمي. كذلك الأمر بالنسبة للتدابير التنظيمية التي تتخذها الحكومة بغية تمديد العمل بأحكام مماثلة انتهى العمل بها ولا بد من تجديدها بغية تفادي الفراغ القانوني.
أما بخصوص جواز انعقاد مجلس الوزراء في ظل حكومة مستقيلة، فقد اعتبرت المذكرة أن هذا الأمر حصل مرارا خلال الجمهورية الثالثة والرابعة في فرنسا وسبق له وأن حصل خلال الجمهورية الخامسة إذ لا شيء يمنع دستوريا ذلك. إذ أنّ ضرورة انعقاد مجلس الوزراء لاتخاذ قرار ما قد يكون مؤشرا على أن هذا القرار هو من الأهمية بمكان بحيث لا يشكل تصريفا للأعمال، لكنه ليس معيارًا كافيا لوحده كي يصبح بحكم ذلك خارجا عن صلاحيات الحكومة المستقيلة[4]. وهذا تحديدا ما أكدته أيضا الورقة البحثية للمفكرة القانونية.
وفي موضوع التشريع عند وجود حكومة مستقيلة، تشير المذكرة إلى أن هذه الإشكالية غير مسبوقة خلال الجمهورية الخامسة، إذ لم يقم البرلمان بإقرار أي قانون ولا مجلس الوزراء تبنى مشاريع قوانين عندما تكون الحكومة في مرحلة تصريف الأعمال. وما يرجح عدم جواز التشريع هو عدم قدرة البرلمان على ممارسة أهم صلاحياته أي سحب الثقة من الحكومة كونها مستقيلة، إذ لا يعقل أن تطلب منه تبني قوانين بينما المجلس يعجز عن محاسبتها[5].
ولا شك أن هذا التحليل سليم في فرنسا عندما يكون التشريع شكلا من أشكال الحكم، أي عندما يكون إقرار القوانين الوسيلة التي تطبق بفعلها السلطة التنفيذية مشروعها السياسي. لكن الواقع اليوم في لبنان بات مختلفا إذ أن الغالبية الساحقة من القوانين التي يقرها مجلس النواب هي عبارة عن اقتراحات قوانين تقدم بها النواب وهي لا تعبر عن سياسة واضحة للحكومة بل عن توافق الكتل النيابية المهيمنة على البرلمان.
لكن المذكرة تعود وتقول أن المحاذير التي تمنع التشريع عندما تكون الحكومة مستقيلة لا يمكن أن تكون مطلقة في الحالات التالية:
-اتخاذ تدابير مالية طارئة لا سيما إقرار الموازنة من أجل تمكين الحكومة من جباية الضرائب وفتح الاعتمادات الضرورية لتأمين استمرارية المرافق العامة ما يوجب على الحكومة إحالة مشاريع القوانين اللازمة في هذا المجال إلى البرلمان. وهذا ما بات يتمّ في لبنان إذ عمدت الحكومات إلى إحالة مشروع الموازنة العامة لسنتي 2023 و2024 إلى مجلس النواب رغم كونها مستقيلة.
-عند إعلان حالة الطوارئ ضرورة إقرار البرلمان لقانون يجيز تمديدها لفترة تفوق الـ 12 يوما علما أن تمديد حالة الطوارئ في لبنان يجيزها مجلس النواب بقرار وليس بقانون (وهو أمر مستغرب). وهذا ما حصل بالفعل في لبنان عندما تمّ إعلان حالة الطوارئ في الخامس من آب 2020 وأقرها مجلس النواب في 13 آب بينما حكومة حساب دياب كانت قد أعلنت استقالتها في العاشر من الشهر نفسه.
-إقرار قوانين من أجل التصديق على المراسيم الاشتراعية التي تصدرها الحكومة عملا بالتفويض التشريعي الذي يلزمها خلال مهل معينة بإحالة مشاريع قوانين تطلب بموجبها التصديق على تلك المراسيم الاشتراعية. وعلى الرغم من أنّ المراسيم الاشتراعية توقفت عن الصدور في لبنان لأسباب سياسية منذ 1990 حتى اليوم لكن الإشكالية الدستورية تظل صالحة للتطبيق في لبنان إذ في حال كانت الحكومة مستقيلة وكانت قد أصدرت مراسيم اشتراعية يتوجب عليها إحالتها إلى مجلس النواب والطلب منه تصديقها بقانون.
-ضرورة إقرار قوانين جديدة من أجل تدارك النقص أو الخلل الذي حصل في قانون قام المجلس الدستوري بإبطال بعض مواده.
وتنهي المذكرة معالجة هذه المسألة بملاحظة هامة فتعتبر أنه من الناحية القانونية لا يمكن الخلط بين تصريف الأعمال ومنع الحكومة من إحالة مشاريع قوانين إلى البرلمان، كذلك لا يمكن الجزم أن عدم التقدم بمشاريع قوانين من البرلمان هو أكثر حساسية سياسيا من الامتناع كليا عن ذلك[6].
وفي ملاحظة استطرادية تعالج المذكرة مسألة إصدار القوانين فتعتبر أنّ هذه الصلاحية تعود لرئيس الجمهورية الذي لا يعتبر معنيا بتصريف الأعمال ما يسمح له لا بل يوجب عليه إصدار القانون ضمن المهل الدستورية وبالتالي يعتبر توقيع الوزير المختص على إصدار القانون داخلا في صلاحياته حتى لو كان عضوا في حكومة مستقيلة[7].
وفي استطراد معبر جدا، تقول المذكرة أن حق رئيس الحكومة المستقيل بالطعن بالقوانين أمام المجلس الدستوري هو مسألة لم يحسمها الفقه، لكن الحذر يقضي عند الضرورة بممارسة رئيس الجمهورية لهذه الصلاحية عوضا عن رئيس الوزراء خارج فترات المساكنة. فعندما تكون الغالبية النيابية داعمة لرئيس الجمهورية يصبح رئيس الحكومة خاضعا سياسيا للرئيس، وبالتالي من الأفضل عدم اتخاذه لمبادرات تطرح مسؤولية الحكومة أمام الجمعية الوطنية إذ يمكن لرئيس الجمهورية أن يفعل ذلك مباشرة[8]. لكن الأمر يختلف في فترات المساكنة عندما تكون الغالبية النيابية ضد رئيس الجمهورية ما يعني أن الحكومة ستتحرر من وصاية هذا الأخير السياسية، الأمر الذي يمنح رئيس الوزراء الشرعية للطعن بالقوانين أمام المجلس الدستوري حتى لو كان مستقيلا كونه ينتمي إلى الغالبية النيابية نفسها التي أقرت القانون.
وقد عالج المجلس الدستوري في لبنان هذه النقطة أيضا إذ اعتبر “إنّ حقّ رئيس مجلس الوزراء المستقيل بالطعن بالقانون الذي يشارك بتوقيعه رئيس الدولة في مرسوم إصداره لا يدخل في المفهوم الضيق لتصريف الأعمال، لأنّه عمل إنشائي بامتياز وغير إجرائي، طالما أنّ من شأنه أن يؤدّي إلى إبطال هذا النص التشريعي وإحداث وضع قانوني مغاير بنتيجة هذا الإبطال” (قرار رقم 1/2005 تاريخ 6/8/2005).
الخلاصة:
يتبين أن الإشكاليات الدستورية التي يطرحها تصريف الأعمال هي متشابهة جدا في لبنان وفرنسا. لكن الأهم يكمن في الاستنتاج السياسي الذي يمكن التوصل إليه من خلال مقارنة هذه المذكرة مع الحالة اللبنانية. فبمجرد تعرض الاستقرار السياسي في فرنسا للاهتزاز بسبب عدم وجود غالبية مطلقة في الجمعية الوطنية، فقدت الممارسة الدستورية رتابتها وانحرفت عن طبيعتها المنتظمة المعهودة منذ عشرات السنوات، ما انعكس مباشرة على الممارسة الدستورية التي باتت تشهد جدلا متزايدا وأعاد إحياء نظرية تصريف الأعمال التي غابت عن المشهد السياسي لعقود طويلة.
وهكذا نفهم احتدام الخلافات الدستورية في لبنان إذ أنّها مجرّد انعكاس للأزمة الدائمة والمديدة التي تعصف بالنظام السياسي اللبناني ما يجعل من الدستور ساحة من الساحات التي تتواجه فيها المصالح المتضاربة لمختلف أركان السلطة.
لكن الاختلاف الأهم بين التجربتين هو أن المذكرة تتقيد بالآليات التي يلحظها الدستور في كل المواضيع التي تدخل في تصريف الأعمال، بينما تبنّى لبنان بدعة الموافقات الاستثنائية التي تنقل فعليا صلاحيات مجلس الوزراء إلى رئيسي الجمهورية والحكومة عند استقالة الحكومة بذريعة عدم جواز انعقاد مجلس الوزراء خلال تصريف الأعمال. وقد اختفت كليا هذه الظاهرة بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون كون الحكومة باتت مرغمة على الانعقاد في مجلس الوزراء من أجل إصدار أي مرسوم كان لأن صلاحية إصدار المراسيم انتقلت إلى هذا الأخير عملا بالمادة 62 من الدستور.
وبالفعل، عقدت حكومة الرئيس ميقاتي المستقيلة عشرات الجلسات، لا بل أن التطبيع مع الأزمة السياسية المفتوحة في لبنان أدى عمليا إلى اضمحلال تصريف الأعمال ونسيانه من قبل الجميع، إذ باتت الحكومة تتخذ جميع القرارات فعليا وكأنها حكومة مكتملة الصلاحيات بينما هي حكومة مستقيلة في ظل شغور مديد لرئاسة الجمهورية، وفشل مزمن لمجلس النواب بانتخاب رئيس جديد أو إقرار القوانين الاصلاحية التي تساهم في وقف الانهيار المالي الذي يعيشه لبنان.
وهكذا نصل إلى مفارقة بالغة الدلالة. إذ أن غياب الاستقرار السياسي المحدود في فرنسا أعاد مفهوم تصريف الأعمال من غياهب النسيان وجعله من المواضيع التي تطرح بقوة في الحياة الدستورية الفرنسية اليوم، بينما في المقابل أدى طول الأزمة السياسية في لبنان إلى نتيجة معاكسة تماما إذ دخل تصريف الأعمال في غياهب النسيان ولم يعد من المسائل التي تثير النقاش العام، ما يعني أن الاستثناء (فترة تصريف الأعمال) تحول في لبنان إلى القاعدة، وأن الأزمة السياسية لم تعد مرحلة يمرّ بها النظام بل باتت النظام نفسه.
[1] “La période d’expédition des affaires courantes commence non pas à compter de la présentation, par le Premier ministre, de la démission de son Gouvernement, mais à compter de l’acceptation de cette dernière par le Président de la République, c’est-à-dire à la date de la signature du décret présidentiel mettant fin aux fonctions du Gouvernement” (Secrétaire Général du Gouvernement, L’expédition des affaires courantes, 2 Juillet 2024, p. 1).
[2] لا بد من الإشارة هنا أن العنوان الرسمي لمرسوم قبول استقالة الحكومة في فرنسا هو التالي: “مرسوم توقف الحكومة عن ممارسة وظائفها”
[3] “ On peut néanmoins dégager de l’observation du passé les lignes de forces suivantes, étant d’emblée observé que plus les périodes d’expédition des affaires courantes ont été longues, plus la notion d’affaires courantes a, nécessité faisant loi, été appréciée de façon extensive” (p. 4).
[4] “Autrement dit, la circonstance qu’une mesure doive être délibérée en conseil des ministres pour être adoptée, si elle est un indice de son importance et donc de la difficulté à la qualifier d’affaire courante, en particulier au sens d’affaire ordinaire, n’est pas à elle seule de nature à interdire cette qualification, notamment au titre du volet « affaires urgentes » des affaires courantes” (p. 4).
[5] “il peut sembler inadéquat de saisir le Parlement alors même qu’il est privé de sa prérogative la plus forte, à savoir la possibilité de renverser le Gouvernement, qui est déjà démissionnaire” (p. 6).
[6] “Il n’est toutefois pas évident, d’un point de vue juridique, d’assimiler l’expédition des affaires courantes à une impossibilité radicale de saisir le Parlement ni, politiquement, de penser qu’il est plus indélicat de saisir un Parlement dépourvu de la faculté de renverser le Gouvernement que de ne pas le saisir du tout”.
[7] “Pour le cas où le délai de promulgation expirerait pendant la période des affaires courantes, le Président de la République non seulement pourrait, mais devrait procéder à cette promulgation, les membres du Gouvernement démissionnaires devant alors nécessairement être regardés comme compétents pour contresigner le décret de promulgation.”
[8] “La question de savoir si un Premier ministre démissionnaire pourrait valablement déférer une loi au Conseil constitutionnel n’est pas tranchée par la doctrine. En pratique et hors période de cohabitation, la prudence dicterait qu’une telle saisine, si elle était nécessaire, soit portée par le Président de la République.”