يكتسي نظر محكمة العدل الدوليّة في طلب الرأي الاستشاري بخصوص “النتائج القانونيّة للسياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة” أهميّة بخاصّة بالنظر إلى سياق حرب الإبادة على غزّة، وتزامنه مع القضيّة النزاعيّة التي رفعتها جنوب إفريقيا لوقفها. لكنّ نقاش رهانات هذا الرأي الاستشاريّ المنتظر وأفقه، يحتاج العودة عشرين سنة إلى الوراء، للوقوف عند لحظة مؤسِّسة، وهي الرأي الاستشاريّ الصادر عن المحكمة ذاتها في صيف 2004 بشأن الجدار العازل، بناء على طلب من الجمعية العامّة للأمم المتحدة. أكّدت الفتوى بصورة نهائية على مخالفة الجدار المشيّد على الأراضي المحتلة للقانون الدولي، وعلى موجب إسرائيل بوقف تشييده وتفكيك ما شيّد منه، والتعويض عن الأضرار التي تسبّب بها، وأيضًا على موجب الدول كافّة ألّا تعترف بالوضعيّة غير الشرعيّة النّاتجة عنه والعمل على إلزام إسرائيل باحترام القانون الدولي الإنساني، وعلى موجب الأمم المتحدة البحث في الإجراءات الجديدة الواجب اتخاذها لإنهاء هذه الوضعية اللاقانونيّة. وقد تبنّت الجمعيّة العامّة هذا الرأي الاستشاري في قرارها ES-10/15 الصادر في 20 حزيران/يوليو 2004.
لكن أهميّة الفتوى لا تتوقّف عند هذه الخلاصات التي توصّلت إليها، بل تكمن أيضًا وربما أوّلًا في كونها لحظةً مفصليّةً في مقاربة القضيّة الفلسطينيّة من منظور القانون الدولي، وتحديدًا في كونها المرّة الأولى التي تنطق فيها محكمة دوليّة “كلمة القانون” حول نكران الحقّ الفلسطيني، وإن كان في صيغة رأي استشاري غير ملزم. وبذلك، أحبطت المحكمة مساعي مُساندي إسرائيل في تصوير نظرها في الموضوع كعقبة أمام النهج السياسي لحلّ النزاع عبر محادثات السلام، وأسقطت حججًا وتأويلات ونظريات قانونيّة لطالما اختبأت السلطات الإسرائيليّة وراءها كي تبقى فوق القانون. وهي أيضًا لحظة فارقة في استراتيجيّات النضال الفلسطيني، أعطتْ دفعًا قويًّا لحركات المقاطعة ونهج “المقاومة القانونيّة”، قد تساهم العودة إليها في مناقشة أشمل لمدى نجاعة الأدوات القانونيّة، أبعد من سؤال الإلزاميّة التقني ومن وهم الانتصار النهائي والحاسم لقوّة القانون على قانون القوّة.
السياق: الحلّ السياسي يقتضي عدم النطق بكلمة القانون؟
كان “مسار أوسلو” في سنته العاشرة، وكانت الانتفاضة الثانية مشتعلة منذ قرابة سنتين، حين اعتمدتْ الحكومة الإسرائيلية في نيسان/أبريل 2002 مشروع بناء الجدار الفاصل، بحجّة “منع تسلّل المقاتلين الفلسطينيّين لتفجير أنفسهم على أراضيها”. بدأ تشييد الجدار في السنة نفسها، وفق مسار يتجاوز “الخطّ الأخضر” في أكثر من موضع، ليقضُم 16% من أراضي الضفة الغربية لصالح المستوطنات، ويعزل بلدات عديدة ومئات آلاف السكان الفلسطينيّين عن أهاليهم. ورغم ما أثاره المشروع من انتقادات دوليّة، حال الفيتو الأميركي في تشرين الأول/أكتوبر 2003 دون استصدار مجلس الأمن قرارًا يدينه.
بدلًا من ذلك، أصدر مجلس الأمن في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2003 قراره رقم 1515، لتأييد “خريطة الطريق” التي وضعتها اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة الأميركية، الاتحاد الأوروبي، روسيا والأمم المتحدة) من أجل “حلّ دائم للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني” يقوم على وجود دولتيْن، “جنبًا إلى جنب ضمن حدود آمنة ومعترف بها”. أو بعبارة أخرى، حدود قابلة للتفاوض لا تتطابق بالضرورة مع حدود 4 حزيران/يونيو 1967 التي يفترضها تطبيق مبدأ عدم شرعيّة الاستيلاء على الأراضي بواسطة القوّة. وهو ما يتماشى مع التأويل الأميركي والإسرائيلي للقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن بعيْد حرب 1967، أي الانسحاب من “أراضٍ محتلّة” وليس بالضرورة من كلّ الأراضي المحتلّة.
عجزُ مجلس الأمن عن استصدار قرار بخصوص الجدار، فتحَ الباب أمام نظر الجمعية العامّة في الموضوع وفق آلية “الاتّحاد من أجل السلام”. فأصدرت في أكتوبر 2003 قرارًا يعتبر بناء الجدار غير شرعيّ ويدعو إسرائيل إلى وقفه، ثم قرارًا ثانيًا في 3 كانون الأول/ديسمبر، بعد أسبوعيْن فقط من تبنّي مجلس الأمن خارطة الطريق، يقضي بطلب الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول “الآثار القانونيّة الناشئة عن تشييد الجدار…”، طبق المادّة 96(1) من ميثاق الأمم المتحدة. صوّتت لصالح هذا القرار 90 دولة، في حين اعترضت ثمانية، وامتنعت 74 دولة من بينها جلّ الدول الأوروبية عن التصويت. كان عدد الأصوات الموافقة أقلّ مما تحوز عليه في العادة جميع قرارات الجمعيّة العامّة الروتينيّة حول القضيّة الفلسطينيّة، بل أقلّ بكثير من القرار الصادر قبل شهر ونصف، الذي اعتبرت فيه الجدار مخالفًا للقانون الدولي، والذي حاز على 144 صوتًا موافقًا من بينها الدول الأوروبية. المفارقة هنا، أنّ العشرات من دول الشمال، مستعدّة لإقرار عدم شرعيّة الجدار (ومن ورائه الاحتلال والاستيطان وضمّ الأراضي) داخل الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، ولكنّها لا توافق على أن تُعرض المسألة على محكمة العدل الدوليّة لتعطي رأيًا قانونيًّا استشاريًّا. أمّا الحجّة، فتتمثّل في أنّ رأيًا قانونيًّا من المحكمة سيعطّل المسار السياسي وطاولة المفاوضات.
هكذا، عُرضت القضيّة الفلسطينيّة للمرّة الأولى أمام هيئة قضائيّة دوليّة، بعد أكثر من نصف قرن من النكبة، وأكثر من ثمانين عامًا من إقرار عُصبة الأمم للانتداب البريطاني على فلسطين وتقنينها وعد بلفور. لم تكن تلك المحاولة الأولى. فقد تمّ من قبل إفشال مساعي الدول العربيّة الأعضاء في العام 1947 (مصر والعراق وسوريا تحديدًا) لطلب رأي محكمة العدل الدوليّة حول قرار التقسيم وحول ما إذا كان للجمعية العامّة صلاحيّة اتخاذه من دون موافقة الشعب الفلسطيني[1]. أحد المشاريع سقط بـ21 صوتًا ضدّ، مقابل 20 صوتًا مع و13 امتناعًا عن التصويت، خمسة أيّام فقط قبل تصويت الجمعيّة العامّة على قرار التقسيم. كانت الحجّة الأساسيّة حينها، الطابع السياسيّ للمسألة، الذي يجعلها “أكثر تعقيدًا” من أن يحسمها قضاة لا يلزمهم سوى القانون. وهي الحجّة ذاتها التي استعملت لتبرير رفض مشروع قرار قدّمته سوريا أمام مجلس الأمن في تموز/يوليو 1948، بطلب الرأي الاستشاري من محكمة العدل الدوليّة حول الوضعيّة الدوليّة لفلسطين بعد انتهاء الانتداب.
لم تنجح دول الشمال السياسي في ديسمبر 2003 في منع الجمعية العامّة من طلب رأي محكمة العدل الدولية في الجدار. فأرسلت 18 دولة على الأقلّ، بالإضافة إلى الاتّحاد الأوروبي كمنظّمة، مذكّرات للمحكمة لمطالبتها بممارسة سلطتها التقديريّة (الاستنسابيّة) لرفض إعطاء رأي، وذلك من ضمن 49 مذكّرة تلقّتها المحكمة. في المقابل، لم يدافع عن “شرعيّة” الجدار سوى إسرائيل، إضافة إلى دفعها بعدم اختصاص محكمة العدل الدولية أو ضرورة ممارسة اختصاصها لرفض إعطاء رأي. حتى الولايات المتحدة، في مذكّرتها المطوّلة، ركّزت على خريطة الطريق ومسار التفاوض، وحذّرت من “تسييس المحكمة” ومن أن يتحوّل الرأي الاستشاريّ إلى طريقة لجرّ دولة إلى حلّ نزاعاتها قضائيًّا قسرًا، وذكّرت بأنّ مسائل القدس والحدود والمستوطنات واللاجئين، جميعها، بموافقة السلطة الفلسطينيّة، مرحّلة للاتفاق النهائي، وأنّ رأيًا قانونيًّا بخصوصها سيعرقل مسار السلام. وكأنّ السلام يقتضي إسكات صوت القانون.
المكسب الأوّل: قبول المحكمة إعطاء رأي قانوني
في هذا السياق، كان مجرّد قبول محكمة لاهاي إعطاء رأي استشاريّ حول الموضوع رهانًا أساسيًّا. أصدرت المحكمة رأيها في 9 يوليو 2004، بأغلبيّة كبيرة (14 قاضيًا من أصل 15)، وخصّصت ما يقارب نصفه لمناقشة المسائل الأوّلية حول الاختصاص وملاءمة إعطاء الرأي. دحضتْ المحكمة الحجج الإسرائيليّة الواحدة تلو الأخرى. أبرزها تجاوز الجمعيّة العامّة صلاحيّاتها نظرًا لتعهّد مجلس الأمن بالموضوع، وعدم تعلّق السؤال بمسألة قانونيّة، حيث ذكّرت المحكمة بأنّ وجود جوانب سياسيّة لمسألة ما، لا يكفي لإلغاء طابعها القانوني.
بعد إقرار اختصاصها، نظرت المحكمة الدولية في مدى ملاءمة ممارسة سلطتها التقديرية برفض إعطاء رأي. هنا ذكّرت المحكمة بفقه قضائها، وهو أنّها مبدئيًّا لا ترفض إعطاء رأي استشاريّ في مسألة تدخل ضمن اختصاصها، إلّا في صورة توفّر “أسباب حاسمة” تقودها إلى ذلك. ردّت المحكمة الحجّة القائلة بأنّ الطلب يخصّ نزاعًا قائمًا لم تقبل إسرائيل حلّه قضائيًّا وأنّ مسألة الجدار هي جزء من كلّ لا يحلّ إلّا بالتفاوض، حيث اعتبرت أنّ المسألة ليست فقط ثنائيّة بين إسرائيل وفلسطين، وأنّها “تهمّ مباشرة منظمة الأمم المتحدة”، بالنظر إلى اختصاصاتها في الميثاق، ولكن أيضًا إلى “مسؤوليّتها الدائمة” في علاقة بالقضيّة الفلسطينيّة منذ الانتداب. أمّا حجّة تعطيل مفاوضات السلام، فقد ردّتها المحكمة بعدما اعتبرت أنّ تأثير الفتوى القانونيّة على هذا المسار ليس واضحًا ولا محلّ اتفاق. كما استبعدت المحكمة حجّة عدم توفّر الوقائع المادية والأدلّة، وذلك بالاستناد إلى التقرير الضخم للأمين العام للأمم المتحدة حول الجدار، لتخلص إلى غياب أسباب حاسمة تقودها إلى رفض إعطاء فتوى. فكان مجرّد إقرار المحكمة اختصاصها وقرارها إعطاء الرأي، في حدّ ذاته، انتصارًا، أسقط حجّة أولويّة المفاوضات السياسيّة وفتح باب محكمة العدل الدولية كفضاء ممكن للنضال القانوني دفاعًا عن الحقّ الفلسطيني.
المكسب الثاني: الوضع القانوني للأراضي المحتلّة
تماشيًا مع السؤال المطروح عليها، اعتبرتْ المحكمة أنّ ما يهمّها ليس الجدار بأكمله، وإنّما فقط الأجزاء التي تخترق “الأراضي المحتلّة بما فيها القدس الشرقية ومحيطها”. لذلك كانت أولى النقاط التي ناقشتها هي الوضع القانوني لهذه الأراضي. فاعتبر القضاة أنّ كلّ الأراضي الواقعة بين الخطّ الأخضر (خطّ الهدنة في 1949) والحدود الشرقيّة لفلسطين الانتدابيّة، والتي وقع احتلالها في 1967، هي أراضٍ محتلّة. كلّ التطوّرات التي حصلت بعد ذلك، سواء الاتفاقيّات مع الأردن ومع منظمة التحرير الفلسطينيّة، أو القرارات الأحاديّة الإسرائيليّة بضمّ القدس لا تغيّر شيئًا من الوضعيّة القانونية. إسرائيل تمثّل إذًا قوّة احتلال داخل هذه الأراضي وفق القانون الدولي العرفي. هذا الإقرار يمكن أن يكون أساسًا مهمًّا للتشبّث بالحقّ، على عكس الباب الذي فتحته صياغة القرار 242 والمنطق الذي ذهبت فيه مفاوضات أوسلو. كما له نتائج واضحة على العلاقة بالاستيطان وضمّ الأراضي والجدار[2]. لكنّ الرأي الاستشاري لم يتعدّ ذلك لإقرار عدم شرعيّة الاحتلال في حدّ ذاته، على عكس الرأي الفردي للقاضي نبيل العربي.
المكسب الثالث: انطباق القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان
بخصوص قواعد ومبادئ القانون الدولي المنطبقة، ذكّرت محكمة العدل الدوليّة بداية بانطباق مبادئ منع الاستيلاء على الأراضي بالقوّة وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. ثمّ انتقلت إلى نقاط الخلاف، حول انطباق القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. دفعت إسرائيل بعدم انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي المحتلّة، بحجّة أنّ الأراضي لم تكن تتمتع بسيادة قبل ضمّها من الأردن ومصر، وأنّ هذا الضمّ لم يُعترف به دوليًّا، وتاليًا هي لا تشكّل أرض “دولة طرف في الاتفاقيّة”. أسقطت المحكمة هذا التأويل، حين أكّدت أنّ مجال انطباق الاتفاقيّة محدّد بشرطيْن اثنين، وهما وجود “صراع مسلّح” بين “طرفين في الاتفاقيّة”، وأنّ الفقرة الثانية من الفصل الثاني التي تستند إليها إسرائيل لا تهدف إلى حصر هذا المجال وإنّما على العكس، إلى تأكيد انطباق الاتفاقية على الحالات التي لا يواجه فيها الاحتلال مقاومة مسلّحة. هكذا سقطت نظرية “صاحب الحقّ الأصلي مفقود” الرائجة في إسرائيل منذ 1968، أمام أوّل اختبار لها أمام القضاء الدولي. إقرار انطباق القانون الدولي الإنساني عزّز حجج عدم شرعيّة الجدار وفتح مجالًا واسعًا لمساءلة ممارسات الاحتلال، ومن بينها الاستيطان ومصادرة أراضي الفلسطينيّين. أقرّت المحكمة أيضًا انطباق القانون الدولي لحقوق الإنسان، وأسقطت الحجّة الإسرائيليّة القائلة بحصرِه في زمن السلم. كما أكّدت أنّ صكوك حقوق الإنسان تنطبق على ممارسات دولة ما خارج أراضيها. إسرائيل ملزمة إذًا بتطبيق هذه الاتفاقيّات في الأراضي المحتلّة، باستثناء المادّة 9 من عهد الحقوق المدنية والسياسيّة التي تمنع الإيقاف والاعتقال التعسّفي، التي استعملت بخصوصها منذ 1991 “حقّ عدم التقيّد”. تتجاوز أهمّية هذا التأويل حدود الرأي الاستشاريّ حول الجدار، إذ يعزّز مع انطباق القانون الدولي الإنساني، فرص ملاحقة مسؤولين إسرائيليّين أمام المحاكم الأجنبيّة وفق “الصلاحية القضائية الشاملة”، بالرغم من كلّ ما تواجهه تلك المحاولات من صعوبات وتضييق.
المكسب الرابع: عدم شرعيّة الجدار والاستيطان
لم تكن إجابة المحكمة على السؤال المركزي المطروح عليها متردّدة أو مبهمة. فقد أقرّت عدم شرعيّة جدار الفصل، بما أنّه يقضم جزءًا من الأراضي المحتلّة وباعتباره انتهاكًا لحقّ الشعب الفلسطيني، “الذي لم يعد وجوده محلّ نقاش”، في تقرير مصيره. والملاحظ هنا هو الربط المباشر الذي أقامته المحكمة بين سياسة الاستيطان والجدار، إذ أكّدت، استنادًا إلى تقرير الأمين العام، بأنّ الأراضي المحتلة التي أدخلتها إسرائيل ضمن خطّ طريق الجدار يقيم فيها 80% من المستوطنين الإسرائيليّين، ملمّحة إلى أنّ هدف ضمّ غالبيّة المستوطنات كان محدّدًا عند رسم الخطّ المتعرّج للجدار. وذكّرت المحكمة بعد ذلك بأنّ المُستوطنات مخالفة للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تمنع ليس فقط النقل القسريّ للسّكان، ولكن أيضًا أيّ سياسة أو إجراءات تتّخذها قوّة الاحتلال لتنظيم أو تشجيع نقل سكانها إلى الأرض المحتلة، بما يُسقط الحجّة الإسرائيليّة التي تعتبر الاستيطان “عودة طوعيّة”[3]. كما عادتْ المحكمة إلى قرارات مجلس الأمن لتؤكّد بشكل لا لبس فيه، أنّ المستوطنات الاسرائيلية في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، مخالفة للقانون الدولي. وبذلك، أخذت المحكمة بجدّية المخاوف من أن يشكّل الجدار الحدود المقبلة في حال تحقّقت فرضيّة الدّولتيْن، ممّا قد يحوّل خرق القانون إلى “أمر واقع” ويكون بمثابة ضمّ للأراضي بحكم الواقع: annexion de facto.
تتأكّد عدم شرعيّة الجدار أيضًا من خلال انتهاكه لعددٍ من حقوق الإنسان، من بينها الحقّ في الصحة والحقّ في العمل والحقّ في مستوى لائق من العيش وأيضًا حرّية التنقل. وقد استندت المحكمة في هذا الصدد إلى مثال سكّان قلقيلية المحاصرين تمامًا عبر الجدار، بحيث لا يمكنهم الدخول أو الخروج من مدينتهم إلّا بالمرور عبر حاجز عسكري مفتوح فقط بين السابعة صباحًا والسابعة مساءً، استنادًا إلى تقرير المقرّر الخاصّ حول وضعية حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة جون دوغارد. ولهذه الغاية، تحقّقت المحكمة من مدى توفّر شرط الضرورة الذي قد يتيح في ظروف قصوى أفعالًا في الأصل غير شرعيّة، لتخلص إلى عدم اقتناعها بأنّ الجدار وفق الخطّ المرسوم له هو “الوسيلة الوحيدة المتوفّرة” لحماية إسرائيل من الخطر الذي تتذرّع به.
دول الشمال رفضت طلب رأي محكمة لاهاي، بالرغم من إقرارها بعدم شرعيّة الجدار
المكسب الخامس: إسقاط حجّة الدّفاع عن النفس
بعد انتهائها إلى مخالفة الجدار للقانون الدولي، ناقشت المحكمة الحجّة الإسرائيلية التي تعتبر بناء الجدار تطبيقا لحقّ الدفاع عن النفس طبق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن 1368 و1373 حول ”التهديدات التي يتعرّض لها السلام والأمن الدوليان نتيجة للأعمال الإرهابية“. أقصت محكمة لاهاي بشكل جذري انطباق المادّة 51 على وضعيّة الأراضي المحتلة بوصفها، حسب تأويلها الرسمي، تتعلّق فقط باعتداء مسلّح من دولة على دولة أخرى. كما استبعدت انطباق قراريْ مجلس الأمن، باعتبار أنّ التهديد الذي تتحدث عنه إسرائيل مصدره أراضٍ تحت احتلالها العسكريّ. استبعاد تحجّج إسرائيل بالدفاع عن النفس يتجاوز حدود عدم شرعيّة الجدار، ليفتح أحد الحواجز الممكنة أمام مساءلة إسرائيل دوليّا عن جرائمها، وصولا إلى الإبادة الحاصلة أمام أعيننا في غزّة.
كلمة القانون مهمّة لرمزيّتها التي تجعل الكلفة السياسيّة لتجاهلها أكبر
القانون كأداة لتعديل موازين القوى؟
ختمت المحكمة استدلالات رأيها الاستشاري، بالإشارة إلى خريطة الطريق، داعيةً الجمعية العامّة إلى تشجيعها، على قاعدة حلّ الدولتيْن. لكنّ أهمّ ما جاء في هذا الخصوص، هو اعتبارها أنّ حلّ الإشكالات المتبقية عبر التفاوض، يجب أن يكون “على قاعدة القانون الدولي”. يقرأ ريتشارد فلك هذا التشديد على ضوء تاريخ مسار أوسلو الذي اتّسم “بإقصاء ممنهج للقانون الدولي”، بما حوّله إلى “فضاء مساومة عكَس انخرام موازين القوى”، في ظلّ انحياز “الوسيط”، أي الولايات المتحدة، للطرف الأقوى[4]. وقد انعكس ذلك على مختلف المسائل المرحّلة للحلّ النهائي، وتحديدًا لجهة اعتبار مسائل الأرض والقدس والمستوطنات وعودة اللاجئين مسائل قابلة للتفاوض. من هذه الزاوية، يبدو رأي لاهاي بمثابة نقيض لأوسلو، وضابط ممكن لأيّ مسار تفاوضيّ. وليس مصادفة أن تضغط الولايات المتحدة على السلطة الفلسطينيّة كي تؤجّل أو تمتنع عن أيّ نشاط من شأنه إثقال الدعاوى القانونيّة ضدّ إسرائيل. فالتمسّك بالحقّ ربما يعرقل بالفعل، التفاوض، ولكن فقط حين يكون التفاوض مرادفًا للمساومة.
قد يجادل الكثير بأنّ “الحرب القانونيّة”، كما تصفها إسرائيل، تبقى عاجزة لوحدها عن إرجاع الحقّ، طالما ظلّت موازين القوى السياسيّة على حالها، وأنّ قيمة المكاسب القانونيّة مرتبطة بقوّتها الإلزاميّة ومدى إمكانيّة تطبيقها. وليس أدلّ على ذلك من أنّ فتوى 2004 وتبنّي الجمعية العامّة لها، لم يحولا دون مواصلة سلطات الاحتلال بناء الجدار وسياسات الاستيطان. بمعنى أن إنفاذ القانون الدولي يبقى إلى درجة كبيرة رهين علاقات الهيمنة داخل المنظومة الأممية، وبالأخصّ في مجلس الأمن. حتى في مثال ناميبيا، التي عاشت في البداية نظام انتداب ثمّ أدّت الآراء الاستشاريّة لمحكمة العدل الدوليّة والقرارات الأممية دورًًا في تحرّرها من الأبرتهايد الجنوب أفريقي، نلحظ أنّ الموقف الأميركي أدّى دورًا أساسيًا وحاسمًا[5].
لكنّ الوعي بمنطق الهيمنة وانتقاده لا يجب أن يتحوّل إلى يأس من أيّ فرصة لتقويضه، من داخل المؤسسات الأمميّة نفسها. لقد سمح اللجوء إلى محكمة العدل الدولية بإسقاط النظريّات القانونيّة التي ظلّت إسرائيل تختبئ وراءها لعقود، وبافتكاك اعتراف قانونيّ وقضائي غير مسبوق بالحقّ الفلسطيني، وبتحويل الجهد الإنساني والتوثيقي من داخل الأمم المتحدة نفسها إلى رافعة قانونيّة. ولكنّ أهميّته تتجاوز البُعد القانوني الصرف، لتُقرأ ضمن موازين القوى الأشمل وحروب السرديّات والمصالح. أهمّية النطق بكلمة القانون هي أيضًا في رمزيّتها، التي تجعل الكلفة السياسيّة لتجاهلها أكبر، وتمنح مشروعيّة أقوى في أعين العالم للقضيّة، وتسمح بتوسيع جبهة الحلفاء ليس فقط في الجنوب السياسي، بل في صفوف الحركات الاجتماعيّة والتحرّرية داخل دول الشمال السياسي نفسها. ليس أدلّ على ذلك من البيان التأسيسيّ لحركة المقاطعة – سحب الاستثمارات – العقوبات (BDS)، والذي صدر في الذكرى السنويّة الأولى للرأي الاستشاري حول الجدار. استلهمت BDS الكثير من تجربة حركة المقاطعة العالميّة ضدّ نظام الأبرتهايد، واستندتْ بشكل خاص إلى القانون الدولي ورأي 2004 في معاركها ضدّ الشركات التي تستثمر في المشاريع الاسرائيليّة داخل الأراضي المحتلة، وحقّقت نتائج مهمّة، بالرغم من كلّ المحاصرة التي استهدفتها[6]. وقد تحوّلت BDS سريعًا إلى تهديد استراتيجي في نظر إسرائيل، ليس فقط بالنظر إلى الكلفة الاقتصاديّة التي تسبّبها، ولكن أيضًا لنجاحها في نسج علاقات وتحالفات نرى اليوم بعضًا من نتائجها في المسيرات الجماهيريّة في العواصم الغربيّة للمطالبة بوقف الإبادة.
إنّ الدرس الأساسي من رأي 2004، هو أنّ القانون ليس فقط نتيجة لموازين القوى، بل يمكن أن يكون سلاحًا بيد الطرف الأضعف لتعديلها، حتى إذا احتاج الأمر إلى وقت أكثر ومراكمة. وحتى إذا كانت الأمم المتحدة في تصميمها ونشأتها، محكومة بعلاقات هيمنة دفع الشعب الفلسطيني ولا يزال ثمنًا باهظًا لها، فإنّ فيها فضاءات يمكن أن تستعمل ضمن استراتيجيات لمكافحة الهيمنة والدفاع عن الحقّ، أبرزها الجمعية العامّة ومحكمة العدل الدولية، أي فضاء الديمقراطيّة وفضاء القانون، بشرط أنْ ينخرط ذلك ضمن استراتيجية تحرّر أشمل، لا تعوّل على سيادة الدول بقدر ما تخاطب الشعوب ومجتمعات المقاومة داخلها.
نشر هذا المقال في الملف الخاص في العدد 72 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان
لتحميل الملف بصيغة PDF
ونشر في مجلة تونس العدد 29
[1] Ardi Imseis, The United Nations and the Question of Palestine: Rule by Law and the Structure of International Legal Subalternity, Cambridge University Press, 2023, p. 70.
[2] محمد خليل الموسى، تداعيات الرأي الاستشاري الخاصّ بالجدار الفاصل: رؤية عملية لبناء استراتيجيا قانونية وسياسيّة، في مجموعة مؤلفين، قضية فلسطين ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، الجزء الأوّل: في الهوية والمقاومة والقانون الدولي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015، ص. 634-619.
[3] ديانا بوطو، تأكيد عدم شرعية المستوطنات الإسرائيليّة، ورد في مجموعة مؤلفين، قضية فلسطين ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني، الجزء الأول: في الهوية والمقاومة والقانون الدولي، سبق ذكره، ص. 635-652.
[4] Richard A. Falk, op. cit.
[5] John Dugard, « A tale of two sacred trusts: Namibia and Palestine », in Tiyanjana Maluwa (ed.), Law, Politics and Rights. Essays in Memory of Kader Asmal, Martinus Nijhoff Publishers, 2014, Leiden, pp. 287-305.
[6] Omar Barghouti, Boycott Désinvestissement Sanctions. BDS contre l’apartheid et l’occupation de la Palestine, La Fabrique éditions, 2010.