تم الإعلان يوم الإثنين غرة جويلية عن فتح معبر رأس جدير أمام حركة المسافرين بعد غلق دام لأكثر من ثلاثة أشهر تواترت خلالها التّسريبات والشّائعات حول تاريخ إعادة فتحه. ويلحظ أن جزءا هاما من التوتر الأمني الذي رافق عملية الغلق من الجانب الليبي كان انعكاسا جليّا لحالة الضبابية السياسية التي أفرزها تنافس طموحات جهوية وسياسيّة لفرض معادلات جديدة للتوازنات الداخلية هناك. لذا لم يكن قرار غلق معبر رأس جدير في شهر مارس الماضي بالأمر المستغرب، فمثل هذا الحدث قد تواتر إلى ما يُشبه العادة على مدى السنوات الماضية لأسباب غالبا ما كانت خارجة عن إرادة السلطات التونسية. لا بل تنبّأ الكثيرون بحدوث ذلك منذ سيطرة حكومة الوحدة الوطنية الليبية على مدينة غدامس والشروع في خطة لإعادة نفوذ الدولة على المعابر الحدوديّة. وفي خضمّ كلّ ذلك، ظلّت مدينة بن قردان الضحيّة الرئيسية لعملية الغلق، في انتظار أن يستعيد اقتصادها المحلي عافيته عقب عودة الحركية التجارية على جانبي الحدود.
بن قردان وجرعات الأوكسجين المفقودة
يعترض مشهد المحلات التجارية المغلقة المُسافر عند مدخل مدينة بن قردان على امتداد الطريق الوطنية عدد 1 التي تربط المدينة بمدنين، مركز الولاية. كانت هذه المحلات التي بُني الكثير منها ما بعد سنة 2005 خلال فترة ازدهار التجارة البينية مع ليبيا تمتدّ على مسافة أكثر من ستة كيلومترات عن وسط مدينة بن قردان، في ضاحية “جلال” التي نالتْ نصيبا من الشهرة وطنيا ودوليا بعد مهاجمة فلول تنظيم الدولة الإسلامية للثكنة الواقعة بها في 7 مارس 2016. هذه السلسلة من المحلات الموجودة على طريق مدنين، تُعتبر من بين أحدث المراكز التجارية نشأة في المدينة، حيث دأبت على استقبال أفواج من الزائرين لشراء المواد الكهرومنزلية والملابس والمواد الغذائية القادمة من السوق الليبية أساسا خلال السنوات الماضية، غير أنها تُعاني اليوم من مضاعفات إغلاق المعبر. ولا يبدو الحال أفضل كثيرا عند الاقتراب أكثر من وسط المدينة، فالسوق المغاربية أو “سوق ليبيا” كما يسميه جلّ من يرتاده، وهو أهم مراكز التسوق في المدينة قد أغلق كثيرا من محاله، في حين اقتصر المعروض في البقية على جزء من البضاعة الناتجة عن عمليات الشراء التي تمّت خلال أشهر الشتاء السابقة لعملية الغلق. وانكفأت بقايا الحركية التجارية في المدينة خاصة على بعض الفضاءات التجارية على طريق رأس جدير، الأقرب إلى الحدود الليبية وبالذات في المحلات الكبرى التي تمتلك مخزونًا هامًا من السلع الذي يضمن استمرار نشاطها لفترات أطول. أما المحلات الصغرى فما بقي منها يُكافح بالكاد لمواصلة عمله. كما يلاحظ الزائر نقصا واضحا في السّلع القادمة من ليبيا ووفرة في المقابل للبضائع المتأتية من الجزائر التي لم يتأثر مسارها بالتطورات الأخيرة. وقد شهد موسم عيد الأضحى الأخير تراجعا كبيرا في الإقبال على المحلّات التجارية المذكورة، الذي كان يجتذب في المواسم السابقة عديد المواطنين من قاطني المدن والمناطق المجاورة. وبالتوازي مع ذلك، ساهم مفعول الندرة في ارتفاع أسعار بعض المواد الأخرى مثل الفواكه الجافّة التي أصبحت أثمانها تقترب كثيرا مما هو موجود فعليا في السوق التونسية. أما تجّار البنزين فكانوا أكثر المتضررين لانقطاع خطوط الإمداد عنهم، حيث تراجعت مشاهد الحاويات البلاستيكية الملأى بالوقود المهرّب من الطرقات الرئيسية في بن قردان وخصوصا في منطقة “جميلة” أقرب ضواحي بن قردان للحدود الليبية وارتفع الإقبال على محطات الوقود الرسمية وسط المدينة التي تكون شبه خالية عادة خلال الفترات التي يتوفر فيها البنزين المهرّب.
ضاعفت عملية غلق المعبر عددا من المشاكل الأخرى التي مرّت بها مدينة بن قردان منذ سنوات في ظلّ تعثّر المشاريع التنموية الموعودة وأهمها المنطقة الحرة في جهة الشوشة. إذ يُعاني هذا المشروع، الذي تم الإعلان عنه سنة 2012، من أزمة متعددة الأبعاد لوجستية ومالية وتنظيمية، أحيانا بسبب عدم العثور على شريك أجنبي لاستكماله، وأحيانا أخرى لصعوبات على مستوى تهيئة البنية التحتية فيه وتعبئة الموارد المالية. كما أن الوتيرة البطيئة لهذا المشروع قد دفعت إلى بروز مناطق حرة أخرى منافسة على الجانب الليبي، ومن أهمها مشروع المنطقة الحرة بمصراتة والمنطقة الحرة بزوارة الأقرب للحدود التونسية. وكذلك فاقمتْ عملية حلّ المجالس البلدية سنة 2023 وعدم انتخاب مجالس جديدة من صعوبة متابعة مشاكل البنية التحتية في المدينة على مستويّات عدة ومن بينها عدم إتمام تهيئة عدد من الطرقات في المدينة أو إعادة تعبيدها.
ويُعبّر ضعف المداخيل البلدية المتأتية من المعلوم على المؤسسات ذات الصبغة الصناعية والتجارية والمهنية كذلك عن أحد مؤشرات غياب التنمية في المدينة. إذ تعدّ نسبته غير كافية ضمن الجباية المحلية وذلك تبعا لندرة المؤسسات الصناعية خاصة في معتمدية بن قردان، مقارنة بنسبة مساهمة أكبر في بعض البلديات المجاورة ومن بينها بلدية جرجيس على سبيل المثال التي تستفيد من المعاليم الموظفة على مينائها بنسبة معتبرة في مداخليها. كما أن البلدية لم تستفِد بالقدر الكافي من تصنيفها كبلدية سياحية، حيث لم تُساهم الموارد المالية المقررة ضمن هذا الغطاء في توفير مداخيل هامة لها بينما تتحمل البلدية في المقابل جملة من الأعباء الناجمة عن تنقل آلاف المسافرين يوميا (يقدر عددهم في المتوسط ب12 ألف شخص في اليوم الواحد)، مع ما يُمكن أن تتسبب فيه هذه الحركية من عوامل إضافية للتلوث والتأثير السلبي على البنية التحتية التي تتطلب قدرا متزايدا من التعهد والعناية.
تُعطي مثل هذه المؤشرات صورة حية عن سياسة الدولة على مدار عقود والتي تُعبر عن “شبه تخلّ” عن المنطقة. ولا يمكن حصر الأمر في المخطّطات التنمويّة التي لم تنجحْ في كبح نسب البطالة في الجهة والتي تتجاوز المعدلات الوطنية (بلغت النسبة 22 بالمائة سنة 2021 في منطقة الجنوب الشرقي، أي أكثر بأربع نقاط من المعدل الوطني) وترك الحلول الاقتصادية للتجارة الموازية والتهريب. بل إن الدولة، ومنذ 25 جويلية خصوصا في أعقاب حلّ المجالس البلدية، باتت تعمد إلى تهميش دور “الديبلوماسية الشعبية” التي شكلت آلية محلية وتشاركية فعالة في المنطقة للتفاوض وحل المشاكل مع الجوار الليبي. ولعل خير مثال على ذلك التجربة السابقة للجنة المشتركة بين بلديتي “زوارة” و”بن قردان” التي تم إحداثها في 13 ديسمبر 2019 بهدف تطوير العلاقات الثنائية ورفع العراقيل أمام حرية تنقّل الأشخاص وانسياب البضائع والإعداد لإبرام اتفاقية توأمة. إذ عُدّ هذا الاتّفاق امتدادا وتعديلا لتفاهم سابق شاركت فيه جمعيات أهلية ووجهاء محليون من مدينة بن قردان مع ممثلين عن زوارة وبقية المدن الحدودية في 27 جانفي 2017. غير أن النزعة الراهنة نحو “مركزة” إدارة العملية التفاوضية لحل بعض الإشكاليات مع الجانب الليبي وتهميش الأطراف الممثلة للمجتمع المحلي مع عدم دراية الكثير من المسؤولين في المستوى المركزي بتعقيدات العلاقات محليا، لا تُهدد فقط بإضعاف هذه “الدبلوماسية الشعبية” وإنما تُساهم في تعميق الشعور بالتهميش الاقتصادي والإقصاء السياسي للفئات الفاعلة في المجتمع الحدودي التي تُدرك تفاصيل الميدان بشكل عميق ومباشر.
محلات مغلقة على طريق راس جدير
تفاعلات الداخل الليبي ودورها في غلق المعبر
بالرغم من الاستبشار الملحوظ بإعادة فتح المعبر أمام المسافرين من الجانبين، لا تزال بعض الخطوات في حاجة إلى الحسم لاستعادة نسق التجارة البينية خلال الأيام القادمة. فقد مثّلت التجاذبات بين عديد الجهات في الغرب الليبي عنصرا محددا في وتيرة المفاوضات التي أنتجت الاتفاق الحالي ومن المنتظر أن يكون لها تأثير مماثل على ديمومته. فسعي رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية الحالي إلى تثبيت مركزه ضمن المعادلة السياسية الحالية وصراعه مع عديد الشخصيات الفاعلة الأخرى (ومن أبرزها على سبيل المثال الصديق الكبير محافظ مصرف ليبيا المركزي) يمثل أحد الأسباب غير المُباشرة لمسار الخلافات التي أدت إلى غلق المعبر. كما أن طموح بعض الأطراف الأخرى للتواجد بشكل أوسع في المشهد الليبي قد لعب دورا رئيسيّا في تذكية العوامل وراء إرجاء فتح المعبر. فمنذ الأيام الأولى للتوتر في مارس الماضي، ظهر وزير الداخلية بحكومة الوحدة، عماد الطرابلسي في كلمة نُشرت على الصفحة الرسمية للوزارة مُتهما بعض التشكيلات المسلحة في زوارة بالهجوم على الأمن في المعبر واقتحامه ونهب بعض التجهيزات منه. وهو ما أثار حفيظة سكان المدينة الحدودية. وفي مقابل ذلك دعم عماد الطرابلسي نفسه القوات المحسوبة على الغرفة الأمنية المشتركة التي شكلتها حكومة الدبيبة وسبق لها الاشتباك مع بعض الفصائل من مدينة زوارة. ومن المعروف أن الغرفة الأمنية المُشتركة التي يترأسها القيادي عبد السلام الزوبي محسوبة أساسا على مدينة مصراتة وقد حاولت سابقا السيطرة على معبر رأس جدير في نوفمبر 2023.
أثناء فترة غلق المعبر، تم التعلل بإحداث بعض الإصلاحات على مستوى تجهيزات المراقبة والتفتيش وتعزيز مراكز التسجيل الإلكتروني للسيارات الليبية ومعالجة بعض الإشكاليات المتعلقة بتشابه الأسماء، التي أدت إلى منع دخول عدد من المواطنين الليبيين الذين يحملون أسماء مماثلة لبعض الشخصيات الممنوعة من السفر إلى تونس عقب الأزمة الأمنية التي شهدتها ليبيا سابقا وخصوصا في الفترة الممتدة بين 2014 و2016. إلّا أنّ التوازنات السياسيّة والعسكريّة وتعقيداتها كانت هي السبب الأكثر تأثيرا في عملية التسريع بفتح المعبر من عدمه. ويُمكن أن نذكر كمثال على ذلك توصّل الدبيبة مع أطراف ممثّلة من مدينة زوارة إلى تفاهمات حول فتح المعبر مقابل ضمان مصالح زوارة فيه وبرمجة مشاريع لصالح المدينة التي تُعاني من تهميش مستمرّ رغم قربها من المنطقة الحدودية. إلا أن تدخل أطراف أخرى كاد أن يؤدي بالاتّفاق إلى الفشل مما دفع الزواريين إلى غلق منطقة جوار المعبر بُعيد عيد الاضحى. واليوم لا يزال قرار فتح المعبر هشّا، خصوصا مع تغيير الطاقم الجمركي في الجهة الليبية من المعبر وهو ما يتطلّب تدريبًا وتكوينًا خاصّا.
هذا وقد تم الاتفاق في البيان الصادر عن وزيري الداخلية التونسي والليبي، على استمرار التنسيق بين الجانبين لفتح معبرين جديدين بين تونس وليبيا “حين تسمح الإمكانيات بذلك”. ومن المرجّح أن يكون أحدهما واقعا بين منطقتي “تيجي” الليبية وبرج مشهد صالح التونسية، وهو المعبر الذي طالب به منذ فترة طويلة سكان مدينة الزنتان القريبة، التي ينحدر منها وزير الداخلية الليبي الحالي عماد الطرابلسي. ويحتاج إنشاء مثل هذا المعبر إلى مراعاة خصوصية مدينة زوارة وسكانها المستفيدين من معبر رأس جدير الحدودي، أحد مصادر نفوذهم الذي اكتسبوه بعد سقوط نظام معمر القذافي خلال الثورة الليبية، فضلا عن تذليل الصعوبات اللوجستية لتحقيقه مع غياب الطرقات والبنية التحتية الملائمة وبُعد مكان المعبر المُقترض عن الحواضر الرئيسية في الجنوب الشرقي التونسي خاصة.
على وجه العموم، تقتضي إدارة معبر رأس جدير بعد فتحه شكلا منظما من البناء المؤسساتي الذي لا يخضع لهوية التوازنات السياسية والعسكرية وتقلّباتها. إذ أنّ المعبر هو شريان الحياة الرئيسي لمنطقة الجنوب الشرقي التونسي في ظلّ غياب برامج تنمية حقيقية. وانسداد الآفاق في الجهة كان عاملا مهما في مُضاعفة عدد المهاجرين غير النظاميين من ولايتي مدنين وتطاوين خلال سنتي 2022 و2023 في اتجاه الدول الأوروبية (قُدر العدد ب12 ألف مهاجر من ولاية تطاوين فقط سنة 2022)، وهو ما كان من الممكن تفادي جزء منه لو تم استكمال بعض المشاريع المقررة للمنطقة والتفكير في منوال تنمويّ حقيقيّ يهدف إلى إدماج التجارة الموازية في آليات الاقتصاد الرسمي للدولة. ولعل الوضع في مدينة بن قردان تحديدا يمثل تلخيصا شاملا لتحدّيات معقدة، تختلط فيها الأجندات الدولية بالإقليمية، وينعكس ثقل ذلك على المجتمعات المحلية التي تجد نفسها يوما بعد يوم ضحية سائغة للفشل الذي تُعاني منه الدولة -على جانبي الحدود- في تبنّي سياسات عامة تشاركية وذات ديمومة ونجاعة. قد يكون فتح المعبر اليوم جرعة أوكسجين جديدة للمنطقة الحدودية، لكنه لن يستطيع حجب النزيف العميق الذي تُعانيه المنطقة نتيجة اللاعدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.