فُجعت مدينة المزونة (وسط غرب تونس) يوم 14 أفريل بوفاة تلاميذ الباكالوريا محمد صالح الغانمي وعبد القادر ذهبي ومحمد أمين مسعدي، وإصابة تلميذَين بإصابات خطيرة بسبب انهيار جدار إحدى المعاهد الثانوية بالمنطقة، الّذي بُنِيَ منذ ما يُناهز الأربعين سنة. يروي فتحي الصغروني أستاذ التعليم الثانوي للمفكرة القانونية أنّه كان يتواصل هاتفيًّا مع زميله الّذي يُدرّس في معهد المزّونة حين قال له “سأعاود الاتصال بك لاحقًا، جدار المعهد انهار”. وماهي إلا دقائق حتّى انتشر الخبر، في حدود الساعة الواحدة ظُهرًا، ونُقل الجرحى من المزونة إلى الرّقاب، وهما منطقتان تتبعان تُرابيًّا ولاية سيدي بوزيد، ثمّ إلى سيدي بوزيد المدينة، وصولا إلى مدينة صفاقس، وفق ما رواه فتحي الصغروني. كشفت هذه الحادثة على الأقلّ ثلاث مشكلات كبرى، تأثير سياسات التقشّف على وضعية التعليم العمومي، وتواصل تهميش مدن الدّاخل رغم وعود الحكومات المتعاقبة بتطبيق مبدأ التمييز الإيجابي لفائدتها، والسياسة الاتصالية القاصرة لأجهزة الدّولة.
إثر جنازة الشباب الثلاثة محمّد صالح وعبد القادر ومحمّد أمين، كانت الأجواء مشحونة في المدينة، ومشاعر السكّان موزّعة بين الغضب من سياسات التهميش والتقشّف الّتي أثارتها هذه الحادثة من جديد، والحُرقة على فقدان “شُهداء المعرفة” كما سمَّوْهُم، خاصّة وأنّ هذه الحادثة جاءت إثر أسبوع من زيارة أدّاها وزير التربية نور الدّين النوري يوم 08 أفريل الفارط إلى مختلف المعتمديات التابعة لولاية سيدي بوزيد من أجل الاطلاع على وضعية المدارس الابتدائية والإعدادية والمعاهد الثانوية ومدى جاهزيّتها لإجراء الامتحانات الوطنيّة.
منطقة تحلم بحياة كالحياة
“الوزير لم يطّلع عن كثب على المؤسسات التربوية، بل أخذوه إلى أحد المعاهد النموذجية”، يقول علي الجدّ عضو فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بالمزونة للمفكرة القانونية، فيما يقول فتحي الصغروني إنّ الوزير لم يرَ إلّا الوجه الجميل ولم يطّلع على الحقيقة والمؤسّسات الآيلة للسّقوط، ويتحدّث للمفكرة: “ما حصل في المزونة كارثة. المدينة الآن عبارة عن محرقة كَساها السّواد. الجنازة حضرها مئات الأشخاص، وعبّروا عن غضبهم وآزروا العائلات في مُصابهم، ولكنّ الكوارث مازالت قادمة. هناك مدارس بلا دورات مياه. في هدّاج توجد مدرسة بلا أسوار ولكن فيها باب. في الغزالة هناك شقّ كبير في جدار إحدى المدارس الابتدائية بالإمكان أن تنفذ منه اليد، مبيت معهد المزونة بدوره آيل للسقوط… ما حصل اليوم كشف ما كان مستورًا”.
وقد تمّ إيقاف مدير المعهد الثانوي بالمزونة يوم 15 أفريل وفق ما أكّده الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد، وفتحت النيابة العمومية تحقيقًا في شأنه من أجل القتل والجرح المتسبب فيه الإهمال أو التقصير، مع إسناد إنابة عدلية للفرقة المركزية للأبحاث والتفتيش بالعوينة لمباشرة الأبحاث، والحال أنّ المدير كان قد راسل المندوبية الجهوية للتربية بسيدي بوزيد منذ أكثر من ثلاث سنوات، في 17 جانفي 2022، طلَبًا للتدخّل العاجل نظرًا لحدوث تشقّقات في سور المعهد، أملا في اتّخاذ الإجراءات اللازمة. ولكن ظلّت الوضعية على حالها إلى حين تداعي الجدار وسقوط الضحايا.
وقد انتظمت مسيرة سلميّة يوم 16 أفريل في مدينة المزونة باتّجاه مركز الشرطة للمطالبة بالإفراج عن مدير المعهد. وأكّد أحد المحتجّين في كلمة ألقاها أنّ أكبر إشكال تعانيه المنطقة هو اعتماد المقاربة الأمنية في مواجهة الأزمات، خصوصًا إثر التعزيزات الأمنية في المدينة وقطع التيار الكهربائي واحتمال حدوث إيقافات في صفوف أبناء المنطقة لم يتمّ إثباتها بَعْدُ ولكن تمّ الحديث عن احتمال حصولها، مضيفًا أنّه لا مكان الآن سوى للمقاربة الاجتماعية التنموية الاقتصادية. “نحن لم نحلم بأكثر من حياة كالحياة”، يقول علي الجدّ للمفكرة القانونية، ويضيف: “المزونة تبكي حالها وتبكي أبناءها، نحن نطالب بمجلس وزاري خاصّ بالمزونة، وبتحميل المسؤوليات للسُّلَط الجهوية المتعاقبة”.
وقد رفع المحتّجون خلال اليومين الماضيين مطالب مشروعة في التنمية والتشغيل وتوفير مياه الشّرب، بالإضافة إلى محاسبة المتورّطين في سقوط الجدار وضمان محاكمة عادلة لهم. فيما يُطالب عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بالمزونة بمستشفى جهوي كما في بقيّة المعتمديات التابعة لسيدي بوزيد، وتهيئة مصنع البلاستيك ليُفتَح من جديد، إلى جانب توفير مكتب فرعي للشركة التونسية للكهرباء والغاز وفرع للصندوق الوطني للتأمين على المرض وفرع للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وفرع ثان لمكتب البريد، إلى جانب إحداث فرع بنكي، إذ تفتقر المنطقة تمامًا إلى فروع بنكيّة.
سياسة اتصالية ارتجاليّة
استقبل رئيس الدولة إثر هذه الحادثة رئيسة الحكومة سارة الزعفراني، وأكّد وفق البيان الذي نشرته الرئاسة على صفحتها الرسمية أنّ “الثورة التشريعية في إطار معركة التحرير الوطني لا يمكن أن تُحقّق أهدافها إلا بمسؤولين يستبطنون روح النضال والتضحية والفداء”، وأنّ جدار المعهد كغيره من الجدران ليس في حاجة إلى خبراء بل إلى إعادة بناء من جديد، في استحضار لشعار “البناء والتشييد” الذي استخدمه في برنامجه الانتخابي، وعبّر عن ألمه لهذه الحادثة مُذكّرًا بأنّ الجدار كان “متداعيا للسقوط منذ وقت طويل شاءت الأقدار ألا يسقط بزلزال قوة رجّته 4 درجات على سلم ريشتر يوم 17 فيفري من السنة الجارية”.
ظهرت مذيعة نشرة أخبار الثامنة مساءً ليلة وقوع الحادثة لتقول للمشاهدين “إنّنا حاولنا الاتّصال بالسلطات الجهوية بسيدي بوزيد وبوزارة التربية لإيفادنا بمزيد من الإيضاحات حول هذا الحادث، لكننا لم نتمكّن من الحصول على أيّ ردّ في هذا الخصوص”، وهو ما يعكس ارتباكًا اتّصاليا في كيفيّة احتواء الحادثة وتفسير أسبابها. وقد أصدرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيّين بيانًا يوم 15 أفريل ذكرت فيه أنّ عددًا من الصّحفيّين، وهم على التّوالي ألفة الخصخوصي عن الإذاعة التونسية وكوثر الشايبي عن وكالة تونس إفريقيا للأنباء ومنال بالطايع عن التلفزة التونسية والمصور المرافق لها خليل عماري، قد مُنعوا من “الحصول على المندوب الجهوي للتربية بسبب عدم رده على الهاتف”، فيما “امتنعت المندوبة الجهوية للصحة على التصريح لـلتلفزة التونسية رغم تواصل الصحفية منال بالطايع معها وتأكيدها حصولها على ترخيص من وزارة الصحة”، وحمّلت “مسؤولية تعقد الأوضاع وتشنجها بمنطقة المزونة لسياسة التعتيم التي رافقت الفاجعة وانتشار الأخبار المضللة المرتبطة بها”.
كما دعت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى إيقاف العمل بالمنشورَيْن عدد 04 وعدد 19 اللّدَيْن يُشكّلان عائقًا أمام حقّ النفاذ إلى المعلومة. يتعلّق المنشور عدد 04 لسنة 2017 بتنظيم عمل خلايا الإعلام والاتصال الراجعة بالنظر للوزارات والمؤسّسات والمنشآت، ويمنع على الأعوان العموميين الإدلاء بتصريحات وإفشاء معلومات ووثائق إلا بإذن الرئيس المباشر، فيما يضبط المنشور عدد 19 لسنة 2021 قواعد العمل الاتصالي للحكومة من خلال تحديد قائمة في المتحدثين الرسميين بكل وزارة وإرسالها لمصالح الاتصال برئاسة الحكومة لاعتمادها عند التعامل مع وسائل الاعلام، ضمن شروط أخرى وضّحها المنشور.
كما عقد المجلس الوطني للجهات والأقاليم اجتماعًا يوم 15 أفريل دعا من خلاله إلى “فتح تحقيق شامل وجادّ في أسباب هذه الحادثة، ومحاسبة كل من يثبت تقصيره أو تهاونه، مهما كانت صفته أو موقعه” وفق البيان الّذي نُشر على صفحة المجلس، فيما شدّد رئيس البرلمان “على أهميّة متابعة ملابسات الحادث وتحميل المسؤولية لكل من يثبت تقصيره”، وفق بيان نشرته صفحة مجلس نواب الشعب، وهي بيانات سياسية تمثّل امتدادًا للخطاب الرسمي الذي أصدرته الرئاسة في بيان سابق، باعتبارها الهيكل الذي يحتكر الخطاب والفعل السياسي.
وتحسُّبًا لوقوع كوارث مشابهة في مناطق أخرى، سارعت السلطة المحليّة بتطاوين في إزالة حائط المدرسة الابتدائية بقصر أولاد دباب من معتمدية تطاوين الجنوبية وفق ما وثّقته الإذاعة الجهوية، في انتظار ما ستؤول إليه الأمور في ظلّ تواصل الارتجال ومواصلة التكتم عن الوقائع.