غَرق قارب المهاجرين في جربة: قُصور السياسات الأمنية


2024-10-09    |   

غَرق قارب المهاجرين في جربة: قُصور السياسات الأمنية

أب يَستَلم من المستشفى جثّة ابنته التي لم يَتجَاوز عمرها 12 عاما، ومن السلطات الأمنية جثة ابنه البالغ من العمر عشر سنوات. عائلة تَستلِم حفيدها الذي نجا بعد موت أبيه وأمّه وأخيه، عائلات تتسّلم جثث رُضّع، عائلة متكونة من أربعة أفراد لم ينجُ منهم أحد، آباء وأمّهات وإخوة يبحثون عن ذويهم المفقودين. هذه ليست حرب ولا كارثة طبيعية، فقط مشاهد مأساوية نتجت عن حادثة غرق قارب يُقلّ عشرات المهاجرين غير النظاميين، انطلق من جزيرة جربة (ولاية مدنين، جنوب شرق تونس) فجر الاثنين 30 سبتمبر نحو السواحل الايطالية، لكن رحلته كانت سريعة وقصيرة انتهت بعد مسيرة 500 متر فقط.

حَسب المعطيات الرسمية المتوفرة ما بين 1 و6 أكتوبر الجاري فإن عدد الركاب يقارب الـ60 شخصًا أغلبهم من حاملي الجنسية التونسية، استطاعَ أربعة منهم السباحة والعودة إلى الجزيرة وإبلاغ السلطات الأمنية للتحرك من أجل إنقاذ البقية. في المجمل نجَا 34 شخصا وتمَّ انتشال 18 جثة ومازالت عمليات البحث مستمرة للبحث عن مفقودين محتمَلين. طبعا هذه ليست الحادثة الأولى لغرق مراكب المهاجرين في السواحل التونسية، وحتى حصيلة الخسائر البشرية ليست الأكبر لكن هناك جملة من العوامل والتفاصيل تجعل من قارب جربة الغريق حالة تستحق الدراسة نظرا للتركيبة الديموغرافية والملامح الاجتماعية-الاقتصادية للعابرين والعابرات الذين كانوا على متنه، والتي تدلّ عن تطورات تعيشها ظاهرة الهجرة غير النظامية في تونس، ويبدو أن السلطات السياسية والأمنية في تونس غير واعية بها كما ينبغي أو إنها تتجاهلها. 

لا صوت يعلو فوق الخطاب الأمني 

التّفاعل الإعلامي، في القطاعين العمومي والخاص، مع حادثة جربة تُظهِر فداحة تراجع نوعية المحتوى، سواء من حيث سطحيّة التناول أو هيمَنة صوت واحد بشكل كامل تقريبا على التغطية: الصوت الأمني. تكاد التغطية تقتصر في أغلب وسائل الإعلام على اجترار بلاغات الحرس الوطني والمحكمة الابتدائية وإقليم الحرس البحري في مدنين وبرقيات “وكالة تونس أفريقيا للأنباء” التي تأتي هي الأخرى من نفس المصادر، أو الاتصال المباشر بالناطقين الرسميين باسم الأجهزة والمؤسسات الأمنية والقضائية التي ذكرناها. طبعًا هذه المصادر ضرورية للعمل الصحفي-الإعلامي لكن لا يمكن الاكتفاء بها ويجب أوّلاً مقارعَتها بمصادر أخرى غير رسمية وثانيا عدم الاكتفاء ببث الخبر والسعي إلى تحليله ووضعه في سياقه.

ركّزَت البلاغات والتصريحات الرسمية على سرعة تدخّل أجهزة الدولة في إنقاذ ركّاب القارب، وعلى نجاعة العمل الأمني في تفكيك “شبكة” منظمي رحلة الهجرة غير النظامية. تتالَت البيانات بنسق سريع خلال الأيام التي تلت الحادثة المأساوية: تم إلقاء القبض على المنظم الرئيسي للرحلة وزوجته، ثم على عدد من الوسطاء، وتمّ أيضا حجز سيارات وزورق ومبالغ مالية، وحتى أصحاب الشّقق التي استأجرها المشاركون في الرحلة -أتوا من عدة ولايات تونسية- خلال الأيام التي انتظروا فيها موعد الانطلاق تم التحقيق معهم للتثبت من مدى “تورطهم” في الإعداد اللوجستي. في المحصلة تم إلقاء القبض على 15 شخصا، في حين تتواصل مساعي قوات الأمن للقبض على 6 “متورطين” آخرين، مما يعني أن هناك حسب المصادر الأمنية 21 شخصا على الأقل ساهموا بأشكال مختلفة في تنظيم عملية هجرة غير نظامية يُفترَض أنها سرية!  

على مستوى الخطاب السياسي الرسمي لم تكن النبرة والهواجس مختلفة. أوصى الرئيس سعيّد خلال اللقاء الذي جمعه عصر الاثنين 30 سبتمبر 2024 في قصر قرطاج مع وزير الداخلية، بـ”إماطة اللثام عن ملابسات هذه الحادثة الأليمة والغريبة في نفس الوقت” مبديا تعجّبه من موقع الحادثة معتبرا إن “جزيرة جربة لم تكن منطلقا لمحاولات الهجرة غير النظامية”. ولم يفت الرئيس التلميح إلى وجود أبعاد خفية وراء الحادثة، فحسب المعطيات التي توفرت له هناك “عدد من الناجين الذين عادوا سباحة إلى الشاطئ أفادوا بأنهم كانوا يقيمون في شقق مفروشة سعر إيجار كل واحدة منها يبلغ 1200 دينار في الأسبوع الواحد”.  

فعلا، جربة ليست “بؤرة ساخنة” أو منصة تقليدية للهجرة غير النظامية، وإن كانت قد شهدت في بعض السنوات الفائتة حوادث مثل غرق قارب انطلق من سواحل الجزيرة وتوفي 6 من ركابه من بينهم رضيع في ديسمبر 2021. الجزيرة وجهة سياحية عالمية، وفيها يتواجد أغلب التونسيين اليهود، وكانت قد شهدت عمليات إرهابية متفاوتة الحدة منذ مطلع الألفية الثالثة، مما يجعلها تحظى باهتمام أمني خاص جدا. لكن التجاء المهربين والمهاجرين غير النظاميين إلى جربة ومناطق أخرى غير مُرسّمة في خارطة منصات الهجرة غير النظامية تكرّرَ في السنوات الأخيرة وقد يتواتر أكثر في السنوات القادمة، وهو أمر منطقي، فمع اشتداد المراقبة الأمنية على المنصات الكبرى كجرجيس (ولاية مدنين، غير بعيد على جربة) وسواحل ولايات صفاقس والمهدية ونابل يبحث منظمو عمليات الهجرة غير النظامية والمشاركون فيها عن أماكن جديدة أقل اكتظاظا بالأجهزة الأمنية، حتى وإن كانت الطريق بينها وبين الجزر الايطالية أطول أو أخطَر.  

الجهود التي بذلَتهَا الأجهزة الأمنية في السنوات الثلاث الأخيرة، وبخاصة منذ توقيع مذكرة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي في جويلية 2023 واتفاقيات ثنائية مع إيطاليا في الأشهر الموالية بدأت تعطي أكلها. الأرقام أفصح دليل؛ فلنقارن بين عدد المهاجرين غير النظاميين الذي أوقفتهم السلطات التونسية قبل الوصول إلى إيطاليا (في البر والمياه الإقليمية) والذين استطاعوا الوصول إلى وجهتهم في السنوات الخمس الأخيرة.[1] في 2019 وصل 2690 مهاجر إلى إيطاليا، وبلغ عددهم 12883 في سنة 2020 و15671 في 2021 و18148 في 2022 و17322 في 2023. أما المهاجرين الذين اعترضت السلطات التونسية طريقهم فقد بلغ عددهم 4177 فردا في 2019 و13466 في 2020 و25657 في 2021 و38373 في 2022 و80636 في 2023 و74464 ما بين 1 جانفي و14 جويلية 2024.  في السابق كانت أعداد الواصلين والموقوفين متقاربة، ولكن انطلاقا من 2021 بدأ “التوازن” يختل بسرعة. 

ما بين 1 جانفي 2011 و30 جوان 2021، منعت السلطات التونسية 49653 مهاجرا غير نظامي من الوصول إلى السواحل الإيطالية، وارتفع هذا العدد ليبلغ 211487 مهاجرا خلال الفترة الممتدة ما بين 1 جويلية 2021 و14 جويلية 2024.  هذا يعني أن أعداد الموقوفين في السنوات الثلاث الأخيرة  أكثر من أربعة أضعاف أعداد المهاجرين الذين أوقفوا خلال السنوات العشر التي تلت ثورة جانفي 2011.

 هذا “النجاح” له كلفته الباهظة.. كلفة في الأرواح البشرية. المعادلة بسيطة: ستظل شعوب جنوب المتوسط تسعى بكل الطرق إلى اجتياز البحر نحو الضفة الشمالية مهما انغلَقَت السياسات الهجرية الأوروبية ومهما زاد خناق السياسات الأمنية الجنوبية. كل ما في الأمر أن رحلة العبور ستكون أخطر وأعلى تكلفة مما يفتح شهية شبكات الاتجار في البشر. مرة أخرى تُغنينا الأرقام عن الكلمات: في 2020 بلغ عدد ضحايا رحلات الهجرة غير النظامية (جثث ومفقودين) في السواحل التونسية 106 ضحية، ثم ارتفع عددهم إلى 440 في 2021 و581 في 2022 و1313 في 2023. [2] 

حادثة “جربة” تختزل متغيرات الهجرة غير النظامية

في الحصيلة الأوّلية لحادثة الغرق نجد أنّه تمّ انتشال جثث ثلاثة رضّع وطفلين وأربع نساء، كما أكدت المعلومات الصادرة عن الأجهزة الرسمية وجود عدد من النساء والقصّر ضمن الركاب الناجين. يمكن القول أن قارب جربة شهد حضورا قويا للجيل الرابع من المهاجرين غير النظاميين في تونس.  

انطَلَقت أولى قوارب “الحرّاقة” من السواحل التونسية نحو الجزر الإيطالية مطلع تسعينيات القرن الفائت بعد فَرض عدة دول أوروبية تأشيرة دخول على التونسيين ثم إرساء “فضاء شنغن”. طيلة العقدين الأولين ظلت ملامح المهاجرين شبه ثابتة: ذكور تتراوح أعمارهم بين 20 و40 سنة من ذوي المستويات التعليمية المتدنية عموما، أبناء الطبقات الشعبية المدينية أساسا شكّلُوا الجيل الأول من “الحراقة”. ومنذ بداية الألفية الثالثة بدأت شرائح أخرى تَنضمّ إلى ركّاب قوارب الهجرة غير النظامية: شباب متعلمين أحبَطَتهم أزمة بطالة حاملي الشهادات الجامعية، وأبناء الطبقات الوسطى ممن أُغلِقَت أمامهم فرص بعث مشاريع في تونس وأبواب السّفر إلى أوروبا بشكل قانوني، أجانب من المنطقة المغاربية وأفريقيا جنوب الصحراء. ما ظل ثابتًا مع قدوم هذا الجيل الثاني من المهاجرين غير النظاميين هو هيمنة الذكور الشباب.  أما الجيل الثالث فهم “حرّاقة” الفترة الممتدة ما بين ثورة 2011 والأزمة الوبائية التي ضربت العالم في سنتي 2020- 2021. مع هذا الجيل شهدت ملامح المهاجر غير النظامي المنطلق من تونس نحو أوروبا تغييرات هائلة: تنامى حضور المهاجرين القادمين من أفريقيا جنوب الصحراء تدريجيا حتى فاق حضور التونسيين في قوارب “الحرقة”، وصار القُصّر بدون مرافق من العناصر الثابتة في الرحلات (بلغت أعداد الواصلين منهم إلى إيطاليا 518 في 2019 و1431 في 2020 و2076 في 2021 و2404 في 2022 و3072 في 2023)[3]، وتزايدت أعداد النساء المشاركات في الرحلات خاصة من حاملات جنسيات دول غرب أفريقيا ومعهن بعض التونسيات.  

ونعيش في السنوات الأربع الأخيرة ولادة الجيل الرابع من الهجرة غير النظامية في تونس أو بالأحرى فيضان هِجري لم يعد يعترف كثيرا بالفئات العمرية والانتماءات الطبقية والهوية الجندرية: عاطلون عن العمل، وعمال، وحرفيون، وموظفون عموميون، وأصحاب مشاريع صغرى ورياضيون محترفون ومتحصلون على الدكتورا، ورُضّع، وأطفال، ومراهقون، وشباب، وكهول، وشيوخ، ونساء، وعائلات بأسرها.   

في سنة 2019 بلغ عدد النساء التونسيات اللاتي تمكن من الوصول إلى سواحل إيطاليا 72 امرأة، ثم تطورت الأرقام بسرعة: 353 في 2020، و584 في 2021، و850 في 2022، و1405 في 2023. نفس التطور تقريبا شهدته أعداد القصر المصحوبين بمُرافق: 111 في 2019، و398 في 2020، و655 في 2021، و995 في 2022، و1640 في 2023. [4]

في سنة 2023 بلغت نسبة النساء والقُصّر المصحوبين بمرافق 17،5 % من مجمل الواصلين والواصلات إلى السواحل الإيطالية من تونس، وإذا أضفنا إليهم القُصّر من دون مرافق الذين شكلوا 17،7  % من الواصلين، فسنجد أن النساء والأطفال يمثلون عمليا أكثر من 35 % من “الحراقة” مما يدل على متغيرات هائلة في الملامح النمطية للمهاجر غير النظامي.   

تحدث الرئيس خلال لقائه مع وزير الداخلية عن المهاجرين غير النظاميين الذين يُؤجرون شققًا مفروشة بـ1200 دينار في الأسبوع (حوالي 400 دولار) في انتظار موعد الرحلة، وكأنه يريد القول لماذا يفكرون في الهجرة إذا كانوا يملكون هذه المبالغ؟ ليس في هذه “المعلومة” ما يبعث على الاستغراب.  لقد وَلىّ زمن “الحرّاق” الشاب الفقير الذي يقضي سنوات في جمع المبلغ اللازم لاجتياز الحدود بطريقة سرية، والذي يركب القارب دون أن يُعلم والديه حتى لا يسعيان إلى إقناعه أو إجباره عن العدول عن فكرة الحرقة. كثير من العائلات أصبحت تَعي جيّدًا ما يخطط له أبناءها، وما عادت تُحاول منعهم من خوض تجربة الهجرة غير النظامية، بل صارت تُساعدهم في جمع المبلغ اللازم، وتحاول أحيانا تسفير أكثر من فرد كاستثمار قد يُحسِّن أحوال العائلة بأسرها. تدريجيا وصلنا إلى قبول -محدود- لفكرة ركوب الفتيات والنساء في قوارب “الحرقة”، قبل أن نمرّ إلى المرحلة القصوى: عائلات بأسرها تُهاجر جماعيا. عائلات تحرق كل سفنها في تونس وتتخلى عن الشغل والمحيط العائلي والاجتماعي وتبيع كل ما تملكه، وتُخاطر بسلامتها وحيَاتها أملا في الوصول إلى أوروبا وضمان “حياة كريمة”. ومن الطبيعي أن يبحث المهاجرون الأكثر “ثراءً” عن رحلات “حرقة” أقل خطرا -أو هم يعتقدون أنها كذلك- حتى وإن كانت أعلى تكلفة.  

لماذا يهرب كل هؤلاء من بلد لا يعيش حربا ولا كوارث طبيعية مُدمّرة؟ من المؤكد أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الفردية والعامة مؤثرة بقوة، لكن هناك أيضا إحساس لدى كثير من التونسيين بضبابية مستقبل البلاد وعدم وجود مشروع واضح وواقعي للنهوض بأوضاعها، كما أن حالة الإحباط بعد تبخر أغلب وعود ثورة 2011 وانغلاق المجال السياسي في السنوات الأخيرة وتردي حالة عدد من المرافق العمومية الحيوية في قطاعات شتى (خاصة التعليم والصحة والنقل) تُعدّ هي الأخرى عناصر محفزة. وطبعا تَلعب “قصص نجاح” المهاجرين السابقين دورا في تشكيل مخيال المهاجرين المستقبليين، وتزيد المعلومات المغلوطة أو المنقوصة عن ظروف إقامة المهاجرين في أوروبا وعن “الأفضلية” التي يتمتع بها المهاجرون غير النظاميين عندما يكونون من فئات القصر بدون مرافق أو النساء أو العائلات في جاذبية فكرة “الحرقة” لدى أعداد متزايدة من التونسيين والتونسيات.  


[1] انظر احصائيات وتقارير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية:

https://ftdes.net/rapports/en.migration2021.pdf

https://ftdes.net/rapports/fr.decembre2022.pdf

https://ftdes.net/wp-content/uploads/2024/02/ost2023fr.pdf

[2]  المصدر السابق

[3]  احصائيات: الواصلون الى ايطاليا من ذوي الجنسية التونسية منذ 2011، المنتدى التونسي للحقوق الأقتصادية والاجتماعية.

[4]  المصدر السابق

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني