لا يَغيب اليسار الحزبي في تونس عن الخارطة الانتخابية فحسب، بل هو شبه غائب عن المشهد السياسي على نحو عامٍ. في الوقت نفسه تظهر مفارقة حول هذا الغياب، فاليسار غير الحزبي، المُشكَّل من سديمٍ واسعٍ من الأفراد والجمعيات والمنظمات غير الحزبية يحضر بقوةٍ وصلابةٍ ونضجٍ، وبلا انقطاعٍ منذ عقودٍ في حيز النشاط العام. هذا الحضور غير المتكافئ بين التواجد في المجال العام، والانكفاء عن المنافسة على السلطة، لا يبدو أنَّ دافِعَه زهداً يسارياً في السلطة، ولكن أزمة بنيويةً جعلَت من اليسار بوصفه حزباً سياسياً، ذو برنامجٍ ومشروع، أمراً صعب التجسيد والفاعلية. ودفعت بقطاعاتٍ من شباب هذا اليسار وعناصره الفاعلة -وحتى بعض قياداته- إلى الهجرة نحو العمل المدني في أفقه المتسع لقضايا خدمة الشأن العام.
ورغم البيئة الخصبة، التي يُمكن أن يتطوّر فيها اليسار الحزبي، بسبب تكرّر أزمة نموذج الإنتاج والتنمية في تونس، إلا أن تطوّر أزمة الطبقات الشعبية لا يسير بشكل موازٍ لتطور اليسار الحزبي سياسياً وجماهيرياً. ترتبط هذه الأزمة البنيويةً بوجود يساراتٍ مختلفة، فكرياً وتنظيمياً، سياسياً بالأساس. لكن هذا الاختلاف لا يطال سوى السطح، حيث بالنظر المعمّق في أدبياتها لا نجد أي اختلافٍ جوهري حول الخيارات الأساسية التي تُدافع عنها. ولكن هذا الاختلاف، يَخدم مصالح أفرادٍ ومجموعاتٍ تُريد الاحتفاظ بمواقع قيادية أو تحقيق امتيازات تبدو ضيّقة أمام الاستحقاقات المصيرية لليسار والبلاد. وعلى نحو تلخيصي يُمكن رصد أربع أفكار أساسية لاختزال هذه الأزمة، التي تحتاج قدراً من اتساع الأفق والنقاش لا يقبل الاختزال.
اليَسار الموروث وغياب الأفكار
بدايةً لا يكشف تشظي اليسار في تونس، حزيبات صغيرةٍ ومجموعات هامشيةٍ، عن ثراء فكري أو أيديولوجي، بقدر ما يعبّر عن خلافات موروثة من السبعينات والثمانينات، حول قضايا نظرية لم تُعد مجديةً ولا ذات تأثير حتى في الدولة التي ظهرت فيها. لذلك فإن أغلب الأحزاب اليسارية الأساسية في البلاد هي منظمات حزبية موروثة من حقبة ما قبل سقوط الإتحاد السوفياتي والتحوّل الرأسمالي في الصين ونهاية الحرب الباردة. وعلى مدى ثلاثة عقود من النظام الدولي الأحادي، لم نشهد تحولاتٍ فكرية وحزبية موازية في تونس. ويبدو أن هذا النظام الأحادي في طريقه إلى التحول نحو قطبية جديدة، على أساس صراع جيوسياسي جديد، ولكن اليسار في تونس مازال مصراً على ربط أحزاب اليوم بقضايا الأمس وخِلافاته. ومن السّخرية أن تسمي أطيافاً من اليسار التونسي، تشكلت قبل خمسة عقود، اليوم نفسها بــ “اليسار الجديد”، لأنها كانت فعلاً مطلع السبعينات تمثل جديداً. ولعل الدّليل على ذلك هو النظر في البرامج التي تطرحها أحزاب اليسار في تونس -والتي تقريباً وبإستثناء فروقٍ طفيفةٍ- تُقدّم نفس الأفكار والحلول حول السياسات الاجتماعية للدولة والسياسات الخارجية السيادية وغيرها من مشتركات اليسار الأساسية، فضلاً عن الرؤية للثقافة وقضايا النساء والبيئة.
أما المنحى الثاني لهذا التّقَادم النظري هو غياب الأفكار، والتفكير والتفكرّ. نشهد تراجعاً كبيراً لحيوية اليسار الحزبي من أقصاه إلى أقصاه، فضلاً عن الحفاظ على الأفكار القديمة التي تحلّل الواقع القديم، فإنه لا توجد حتى مواكبة للتحولات السياسية المحلية والدولية بالدراسات والإنتاج التحليلي، وغياب أحد الأسس الفكرية اليسارية وهي النقد والنقد الذاتي. حيث تمرّ المحطات السياسية والانتخابية دون صدور نقد ذاتي عميق وديمقراطي ومعلَن، لأن شأن الأحزاب اليسارية، التي تطرح نفسها بديلاً للجماهير، ليس مجرد شأنٍ داخلي حزبي، بل يهمّ عموم المواطنين. إن الصراع النظري والفكري الذي شَكّلَ لعقودٍ مناط فخرٍ لليسار صار غائباً أو مغيباً وراء قوالب جامدةٍ لقطاعٍ من يسارٍ بلا ثقافة ولا فكرٍ، ويعيد إنتاج وتكرار مقولاتٍ قديمةٍ ليثبت بها انتمائه الزائف. وعلى نحو مضادٍ، ظهر أيضاً جزء من اليسار المتخلي تماماً عن الأفكار الأساسية لليسار. حيث أصبح يدافع هذا الجزء في برامجه عن التحول النيولبيرالي، وبعضها يَنخرط في حكومات السلطة للدفاع عن هذه الخيارات، ضمن شكلٍ تسمّيه شانتال موف “ما بعد السياسة”، الذي يَمحو الحدود القائمة بين اليمين واليسار ويحتفل بالإجماع بين أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط باعتباره تقدمًا كبيرًا للديمقراطية.
وبادّعاء أنه لا يوجد بديل للعولمة النيوليبرالية، فإن منظور ما بعد السياسة يختزل القرارات السياسية إلى مسائل فنية يجب أن يتعامل معها الخبراء. واقتناعا منها بأن العولمة تتطلب “التحديث”، قَبلَت بعض الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية إملاءات الرأسمالية المالية والقيود المفروضة على الدول في سياسات إعادة التوزيع. حيث ُحُرِمَ المواطنون من إمكانية الاختيار بين مشاريع سياسية مختلفة إلى حد كبير، ويتم تقليص الانتخابات إلى مجرّد تناوب بسيط بين ما يسمى بالأحزاب “الوسطية”. مع الإعلان عن أن النموذج التنافسي للسياسة، مع انقسامه بين اليسار واليمين، قد عفَا عليه الزمن، يدعو ما بعد السياسة إلى “سياسة بلا خصم” والتي تتجاهل طابعها الحزبي.[1]
الإستراتيجية والتنظيم
تَركَت قطيعة اليسار مع حاضره، آثارها الكارثيّة على استراتيجيته في الوصول إلى السلطة وتنظيم صفوفه. فقد أدى غياب “التحليل الملموس للواقع الملموس”، إلى الدّورَان في إستراتيجيات قديمة لتحقيق التعبئة الداخلية للتنظيم والخارجية للجماهير، وبالتالي جعلَت من اليسار الحزبي هامشياً في جميع الاستحقاقات الانتخابية التي خاضهَا. أولاً من خلال التشظي الحزبي لمكونات اليسار، حتى داخل المجموعات الفكرية نفسها؛ حيث نجد أحياناً ثلاث أو أربع منظمات حزبية تتبنّى الأفكار نفسها، لكن لكل واحدة مكتب سياسي ولجنة مركزية و”رفيق” أمين عام. ثانياً، رغم التحوّلات الجذرية التي حدثت دولياً ومحلياً، لم يتبلوَر أي عمل نحو بناء حزب يساري يُلخّص برنامج المنظمات القائمة في نقاط أساسية. وحتى تجربة “الجبهة الشعبية”، المضيئة والتي شكلت أملاً، قامت على أسس جبهوية هشة حملت بداخلها أسباب تفككها -على أهمية تجارب “الجبهات الشعبية” في محطات تاريخية وسياقات استثنائية- ثالثاً، غياب واضح للديمقراطية الداخلية في إدارة هذه المنظمات، وسيطرة قطاعات من البيروقراطية الحزبية عليها. رابعاً، هجرة واسعة للشباب والنساء والقواعد في الأطراف نحو العمل في الشأن العام المدني والنقابي والنضالي في الدفاع عن قضايا متخصصة.
لكن في الوقت نفسه أدّت هذه الهجرة إلى تعاظم وجود وقوة ونموذج الحركات الاجتماعية، والذي أثر سلباً في أحزاب اليسار. حيث إن كان من المجدي التعويل على نموذج الحركة الاجتماعية، الأفقي والمرحلي، في تحقيق مكاسب نضالية في مجالات محدودة كقضايا البيئة والعمال والمرأة، فإن هذا النموذج يبقَى قاصراً في تحقيق هدف الوصول إلى السلطة، بوصفه هدفاً إستراتيجياً لتطبيق برنامج الحكم الاجتماعي الديمقراطي الجذري. ويؤثر هذا الضعف التنظيمي على قدرة اليسار على الاستقطاب والحشد وعلى تمويل المنظمات. إلى جانب وجود فجوة بين الأحزاب اليسارية التقليدية والناشطين الشباب، الذي يرون في هذه الأحزاب قصوراً عن التعاطي مع قضايا جديدة مثل العدالة المناخية والعنصرية المنهجية.
فضلاً عن ذلك لا يمكن تحميل أحزاب اليسار مسؤوليةً منفردةً عن هذه الأزمة التنظيمية، حيث أصبحنا نواجه، أكثر من أي وقت مضى، المجتمع المذرّر وأزمة التمثيل. فمن ناحية، أصبح المجتمع مفككاً من الناحية الطبقية بسبب التحولات في نمط الإنتاج، مما يجعل بناء الوحدة والتحالفات الطبقية أكثر صعوبة مما كان عليه في السباق. ومن ناحية ثانية نشهد على نطاق واسعٍ تآكل الهيئات الوسيطة على نحوٍ عامٍ. كما فرضت التغيرات التقنية السريعة، بما في ذلك صعود وسائل التواصل الاجتماعي والحملات الرقمية، تحديات على الأحزاب اليسارية التقليدية التي قد تكون أقلّ قدرة على استخدام هذه المنصات للوصول إلى الجماهير وتعبئتهم. لذلك يجب إعادة صياغة إستراتيجية سياسية وتنظيمية جديدة تتوافق مع هذه التحولات، وذلك لا يحدث إلا في مناخٍ واسعٍ وديمقراطي من النقاش والنقد والتجاوز. والإجابة على أسئلة جوهرية مثل؛ كيف يمكننا على المستوى التنظيمي توحيد الناخبين المختلفين طبقياً ومصلحياً لتكوين أغلبية؟ هل يمكننا التوفيق بين مزايا التنظيم الهرمي التقليدي ومزايا النموذج الأفقي للحركة الاجتماعية وكيف؟ هل يجب أن نُشكّل جبهة وحدوية أو اندماج كلي بين المنظمات؟
خارج ثنائية 24 و25 جويلية
لعلّ أفضل تجلٍ وتلخيصٍ لأزمة اليسار، السياسية والفكرية، هي ثنائية “24 و25 جويلية 2021″. فنحن إزاء أزمة تحليل نموذجية للواقع دفعت قطاعاً واسعاً من اليسار نحو ما أصبح يعرف بــ”المساندة النقدية”. وهي أزمة تتعلّق بمسألة التناقضات أساساً. لذلك فإن أي محاولة لاستئناف الفاعلية اليسارية نحو البرنامج المشترك والوحدة الجبهوية أو الاندماجية، يجب أن تتأسس على قاعدة القطيعة التامة مع ثنائية 24 و25 جويلية. فلا السلطة التي كانت قائمةً قبل 25 جويلية 2021 ولا التي استولت على السلطة بعد 25 يمكن أن تُمثّل اليسار وقيمه وبرنامجه، ولا يمكن أن تكون حتى حليفاً له. وكذلك على تحديد معيار واضح للتعامل مع السلطة والتناقض معها. وهنا لابدّ من إعادة اليسار إلى وظيفته الجوهرية وهي تقديم البديل للناس، دون الانخراط في حلّ أزمات اليمين الديني أو الشعبوي أو الليبرالي. وضمن هذه القطيعة يجب على اليسار الذهاب أماماً وحسم مسألة الديمقراطية، سواء الداخلية أو في المجال العام، وعدم الركون لأي سلطة تريد تحت أي ظرف مصادرة الحريات العامة والفردية أو تنتهك حقوق الإنسان تحت أي مسوّغات. وكذلك الدفاع عن التعددية، لأن الديمقراطية في بعدها النسبي، هي أكثر من مجرّد إضفاء الطابع المؤسسي على المبادئ المجردة. فالديمقراطيات القائمة هي نتاج التسوية الطبقية. وإذا لم يتمّ التعامل مع الصراعات الاجتماعية بالديمقراطية، فسوف تنقلب التسوية الطبقية وتتعثر شرعية السلطة، أي سلطةٍ مهما كانت.
الدولة الوطنية تناقضاً رئيسياً
لكن ما وراء التحالف مع السلطة أو معارضتها، أو طرح بدائل التغيير الجذري، لا يبدو اليسار التونسي واعياً من خلال خطابِه وبرامجه بطبيعة التناقض الرئيسي. حيث تُهَيمن النظرة المحلية على ترتيب التناقضات وصياغتها، إذ يرى البعض النظام الشعبوي القائم هو المشكل الأساسي، فيما يعتقد البعض الآخر أن منظومة ما قبل 25 جويلية 2021، وعلى نحو أكثر شمولية يرى البعض أن النظام الذي تأسّسَ منذ الإستقلال هو الجذر الأساسي للأزمة ويجب إسقاطه وإعادة التأسيس. لكن جميع هذه المقاربات، ومهما بلغ بعضها من الثورية، لا تنظر إلا داخل الخارطة التونسية الضيقة. ف
ي ظل غيابٍ وضاحٍ للأدبيات التي تحلّل الوضع الدولي، لا يمكن القطع بمواقف المنظمات الحزبية القائمة حول ذلك، ولكن يوجد إغفال واضح لفكرة وصول نموذج “الدولة الوطنية” إلى نهايته في أن يكون إطاراً يمكن أن يحقّق داخله اليسار أي تغيير جذري. ذلك أن التحول الذي طال النظام الدولي منذ مطلع القرن الحالي سياسياً، ضمن سيادة إمبراطوريات جيوسياسية عملاقة، واقتصادية من خلال عولمة سلاسل الإنتاج والتوزيع والموارد، أصبحت مشاريع التغيير الوطنية صعبة التحقق، حتى في حال وصول اليسار إلى السلطة، ولعل أمثلة اليونان وفنزويلا والبرازيل تبدو ذات دلالةٍ واضحة على ذلك. وهكذا يجب على اليسار النظر أبعد من حدود الدولة الوطنية الضيقة، والتي لم تعد قادرة على تحقيق الحد الأدنى من السيادة والكرامة لسكانها. ذلك فإن أي مشروع تغيير جذري وبرنامج يعطي أملاً للناس في بديلٍ لما هو قائم يجب أن يكون متضمناً لبناء وحدة مغاربية في الحد الأدنى تقوم على توسيع آفاق الناس وآمالها الاقتصادية والاجتماعية وإعطائها شعوراً بأنها تنتمي لكيانٍ عظيم ضمن برنامجٍ يوازن بين تبني القضايا المتعلقة بسياسات الهوية، مثل النوع الاجتماعي، والمسألة الديمقراطية كالحريات وحقوق الإنسان، والصراع الطبقي كأساس مركزي، والمسألة الوحدوية بدلاً من المسألة الوطنية.
لذلك فإن غياب اليسار الحزبي اليوم عن المشهد الانتخابي أو حضوره، بنفس الأفكار والقناعات والأشكال التنيظمية، ليس هو مدار النقاش الذي يجب أن يدور اليوم، بقدر ما يجب أن يطال ذلك النقاش صياغة هويةٍ جديدة لهذا اليسار وشكلاً تنظيمياً جديداً، وأفقاً جديداً لإطار التغيير الطبقي والجغرافي.
[1] – Chantal Mouffe, L’illusion du consensus, Paris, Albin Michel, 2016