غياب الحلّ الإقتصادي عن التعبئة العامة يستنفر المبادرات الأهلية


2020-04-02    |   

غياب الحلّ الإقتصادي عن التعبئة العامة يستنفر المبادرات الأهلية

بعد أن أعلنت الحكومة عن بدء تطبيق قرار التعبئة العامّة لمواجهة فيروس كورونا في 15 آذار الماضي، ومدّدت تطبيقه حتّى 12 نيسان، كخطوة أولى، مضيفة عليه حظراً للتجوّل من الساعة السابعة مساء حتّى الخامسة صباحاً، خسر عدد كبير من الموظّفين والعمّال مدخولهم وخاصّة العمّال المياومين أو العاملين في المهن الحرّة. وبالطبع لم تكن أزمة انتشار فيروس كورونا السبب الوحيد لتضرّر العمّال والعائلات، فسبق للوضع الاقتصاديّ والماليّ المتردّيين، أن قادا إلى صرف حوالي 150 ألف عامل من عملهم في أواخر عام 2018، بحسب المرصد اللبناني لحقوق العمّال والموظّفين، وهو رقم مرشّح للارتفاع بشكل كبير جداً مع احتساب أرقام العام 2019 والعام الجاري. وأغلقت مؤسسات عديدة أو صرفت موظّفين أو خفّضت رواتب إلى النصف. وأعلنت جمعيّة المستهلك أنّ أسعار السلع والموادّ الغذائيّة ارتفعت 13.17% من 15 شباط إلى 31 آذار 2020، وارتفع حوالي 58.43% منذ تشرين الأوّل 2019. 

وبدأت آثار الأزمة تظهر في الشوارع وبين الناس. ففي الأيّام القليلة الماضية، شهدت مدينة طرابلس تحرّكين احتجاجيين على الوضع الاقتصاديّ الصعب. وفي 29 آذار، شهدت منطقة حيّ السّلم تحرّكاً حاول الناس فيه فتح محالّهم التجاريّة التي يعتاشون منها، مردّدين "بدنا ناكل بدنا نعيش". وفرّقت القوى الأمنيّة والجيش هذه الاحتجاجات بحجّة تطبيق قرار التعبئة العامّة وحظر التجوّل، والمفارقة أن هذه الاحتجاجات واجهات انتقادات من شريحة من الناس وبعض الإعلام بحجّة أنّها تهدد بانتشار الكورونا من دون الإلتفات إلى الوضع السيئ الذي يعاني منه المحتجّون ونسبة كبيرة من الناس.

 

لا مبادرات جدّية من الحكومة: 400 ألف ليرة لكلّ عائلة محتاجة لشهرين فقط

في ظلّ هذه الأوضاع، لم تعلن الحكومة عن أيّة مبادرة جديّة لإيجاد حلّ للفقر والبطالة المتزايدَين وللمتضرّرين جرّاء الأزمة الاقتصاديّة التي تفاقمت بفعل كورونا. واكتفت الحكومة بقرارها إعطاء 400 ألف ليرة كمساعدة عينيّة للعائلات الأكثر فقراً، معتمدة بذلك على لوائح قديمة لدى وزارة الشؤون الاجتماعيّة، كانت محدّدة سابقاً، قبل بداية الأزمة الاقتصاديّة وأزمة انتشار فيروس كورونا. وأوكلت الحكومة مهمّة توزيع هذه المساعدات إلى الجيش اللبنانيّ، "في وقت قريب"، من دون أن تعطي تاريخا محدّداً. ووعدت بأن تتكرّر هذه المساعدة لشهر آخر فقط.

ولا تشمل هذه المساعدات غير اللبنانيّين من نازحين سوريّين وفلسطينيّين لأنّهم، بحسب شميط، يتلّقون المساعدات وتقوم مفوضية الأمم المتحدّة لشؤون اللاجئين بمتابعة وضعهم.

ولكن مستشار وزير الشؤون الاجتماعيّة ناجي شميط يعتبر في حديث إلى "المفكّرة القانونيّة" أنّ الحكومة يجب أن تبدأ العمل من نقطة معيّنة (وهي اللوائح الموجودة أساساً في الوزارة)، بدل أن تستمرّ في وعد الشعب اللبنانيّ بدون اتّخاذ أيّة إجراءات. ويقرّ بأنّ البيانات الموجودة حالياً، والتي اعتمدتها الحكومة لتوزيع المساعدات، وافية لمساعدة جميع المتضرّرين.

وفي الأسبوع الماضي، تحدّثت الوزارة عن استمارات ستوزّع على البلديّات والمخاتير في كافّة المناطق اللبنانيّة، على أن يتوجّه الأشخاص المحتاجون أو العائلات الفقيرة إلى تعبئة تلك الاستمارات حتّى تحدّد الوزراة الأشخاص الأكثر حاجة إلى المساعدة. ومع تفاقم الأزمة وظهور عدد كبير من العائلات المحتاجة والمتضرّرة، ما زالت هذه الاستمارات غير موزّعة حتّى الآن. ويشرح شميط لـ"المفكّرة" أنّ تاريخ تسليم هذه الاستمارات وتوزيعها ليس واضحاً لأن العمل في لجنة التكافل الاجتماعيّ التي أنشأتها الحكومة برئاسة وزارة الشؤون الاجتماعيّة، يرتبط بأكثر من وزارة من الداخليّة والدفاع والعمل والزراعة والصناعة. فوزارة الداخليّة ستستلم الاستمارات من البلديّات للتأكّد من المعلومات التي سجلّها الناس، أمّا قيادة الجيش فتستلم موضوع التوزيع. وتتمنّى لجنة التكافل أن تدوم المساعدات وتتوسّع مساعداتها لكلّ سكّان لبنان. ولكنّ الواقع مغاير، بحسب شميط الذي يضيف أنّ الاستمراريّة مرهونة بالدول المانحة والصديقة وبالمساعدات التي يتلّقاها لبنان بالإضافة إلى ميزانيّة الدولة.  

ويستمر العمل على تحضير الإستمارات واللوائح حتّى تتضمّن معايير واضحة وفئات محدّدة مثل "سائقي التاكسي" أو "أصحاب النمر" أو "النجّارين"، بحسب شميط. ويشير إلى أنّه لا يمكن إحصاء جميع المهن الحرّة، وبالتالي يتمّ تقسيم المهن كفئات تبعاً للنقابات الموجودة. ولكلّ سؤال في الاستمارة علامة تحدّد مدى احتياج العائلة، مشيراً إلى أنّ الحاجة تختلف بين عائلة وأخرى بحسب عدد الأشخاص فيها. ومن خلال جمع العلامات، يمكن تقييم الوضع العائليّ، ليصار بعدها إلى تحديد الأكثر احتياجاً، في خطوة لاحقة.

 

مبادرات أهلية تحاول ملء فراغ الحكومة والبلديات

بالطبع لا تشكّل المساعدات التي قررتها الحكومة حلّاً بل نوعاً من مخدّر سيئ الصنع للناس المحتاجين والذين لا يمكن أن تكفيهم هذه المبالغ لتسديد قيمة فواتيرهم التي لا تقف عند الطعام والشراب بل تتعدّاها إلى الطبابة والمسكن والماء والكهرباء.  ونظراً إلى تقاعس الدولة لا بل غيابها لا يجد اللبنانيون أمامهم من خيار سوى الوقوف إلى جانب بعضهم البعض وذلك من خلال مبادرات كثيرة تتلقّى التبرّعات من الناس وتهدف إلى تأمين المساعدات الغذائية والماليّة للعائلات المتضرّرة. ويجهد القيّمون على هذه المبادرات إلى محاولة إحصاء العائلات المحتاجة وهو أمر يصطدم بصعوبة أساسية هي غياب الإحصاءات المحدّثة لدى مؤسسات الدولة عن أحوال المواطنين طبعاً إلى جانب ضمان استمراريّتها وقدرتها على تغطية حاجات المزيد من المضررين إذا ما طالت الأزمة الاقتصاديّة.

وفي كافّة المناطق اللبنانيّة، بدأت مجموعات وأفراد مبادرات وحملات لمساعدة المتضرّرين من الوضع الاقتصاديّ ومن تبعات قرار التعبئة العامّة. ونشط الناس في نطاق قراهم أو مدنهم أو في إطار أوسع يشمل مناطق متعدّدة، لتأمين حاجات الناس قدر المستطاع. وتعتمد هذه المبادرات التطوّعيّة على تبرّعات من قبل المنظّمين ومن قبل أشخاص مقيمين في لبنان أو في الخارج. 

في القرى والبلدات، تطوّع شباب لجمع تبرّعات من داخل قراهم أو من مغتربيها، لتأمين حاجات معيّنة لأهلها، خاصّة في ظلّ تأخّر وزارة الداخليّة عن دفع مستحّقات البلديّات. في بعض القرى، وزّع شبّان وصبايا الخبز على العائلات الفقيرة في القرية. وفي قرى أخرى، اختارت بعض الحملات حاجة معيّنة لا تشملها المساعدات الغذائيّة، فقامت مبادرة في قرية برقايل في عكّار تهدف إلى توزيع علب حليب الأطفال على العائلات. ويشير وسام خالد، أحد المبادرين في برقايل، إلى أنّ بعض العائلات لجأت إلى حليب البودرة المتوفّر في الدكاكين، وهو غير صحّي للأطفال، وذلك لعدم قدرتها على شراء الحليب المخصّص بسبب ارتفاع الأسعار وتردّي الأوضاع الاقتصاديّة. وأمّنت هذه المبادرة حتّى الآن حوالي 250 علبة حليب، على أمل تأمين عدد أكبر بفضل التبرّعات التي قد تصل. وإضافة إلى هذه المبادرة، تطوّع عدد آخر في القرية لتوزيع 1000 حصّة غذائيّة على العائلات، بفضل التبرّعات المالية من مقيمين ومغتربين. وتعهّدت البلديّة بتقديم المساعدة في حال تلقّت مستحّقاتها التي وعدت بها قريباً من قبل وزارة الداخليّة والبلديّات. 

 

"ع قدّنا".. "صامدون".. "كتفي بكتفك".. هل تصمد إذا استفحلت الأزمة؟

وما يميّز هذا التكاتف الشعبيّ هو تضامن الناس فيما بينهم على قدر استطاعتهم، ومن هذه الفكرة انطلقت حملة "ع قدّنا" من قبل فنانين وإعلاميّين لبنانيّين تحت عنوان "من كلّ حسب قدرته، إلى كلّ حسب حاجته". بدأت هذه الحملة بمبادرة فرديّة قام بها الممثّل عبده شاهين وصديقه محمّد قانصو لتوزيع 150 ربطة خبز بشكل يوميّ. ولكنّ عدد العائلات المحتاجة التي تواصلا معها كان كبيراً، فبدآ التواصل مع فنّانين وإعلاميّين لإطلاق هذه المبادرة لتأمين "مخصّصات غذائية وطبيّة للأسر المفقّرة وللمعطلّين قسراً عن العمل". تتواصل هذه الحملة مع شركات غذائيّة وطبيّة حتى تستطيع تأمين احتياجات الأسر التي وصلت إلى 5000 أسرة، وفق ما صرّح شاهين لـ"المفكّرة". ويقول شاهين إنّ توزيع المخصّصات لا يقتصر على منطقة محدّدة، بل بدأت الحملة بتوزيع الحصص (التي تكفي العائلة الواحدة شهراً واحداً) في بيروت وطرابلس وبعلبك-الهرمل، مشيرا إلى عدداً من الذين تبرّعوا للحملة، يقومون أيضاً بالتطوّع لتوزيع تلك الحصص. وتسعى الحملة، بحسب شاهين، إلى زيادة التبرّعات عبر الإعلان عن الحملة على وسائل التواصل الاجتماعيّ وفي الإعلام، حتّى تكبر قدرة الحملة على المساعدة. ويقول شاهين إنّ إحدى العائلات التي اتّصلت بحملة "ع قدّنا" كانت من غير طعام لثلاثة أيّام، مضيفاً أنّ النازحين يحتاجون أيضاً لمساعدات، داعياً الحملات الأخرى عدم استثنائهم من التقديمات.  

ومن المبادرات العديدة الأخرى: حملة "كتفي بكتفك" التي أنشأتها شبكة مدى وهي شبكة سياسيّة شبابية لمواجهة المشاكل التي يواجهها جيل الشباب، ويتطوّع فيها 30 و40 شخصاً يقومون بتوزيع حصص غذائيّة أو أدوية لعائلات في بيروت أساساً على أن تنطلق اليوم في الجنوب ولاحقاً في كافة المناطق. ويقول كريم صفيّ أحد أعضاء الحملة لـ"المفكّرة" إنّ القيّمين على المبادرة يعتمدون منظوراً اجتماعيّاً ـ اقتصاديّاً ينطلق من فكرة غياب السلطة السياسيّة عن تقديم حلول جذرية للأزمة التي يواجهها اللبنانيون.

ولا يكاد يمرّ يوم من دون أن تنتشر على مواقع التواصل الإجتماعي أرقام وحملات للتبرّع أو أسماء وأرقام أشخاص يعرضون خدماتهم مجاناً مثل مجموعة ممرضات وممرضين عرضت تقديم المساعدة في مناطق معيّنة بالمجّان كذلك نشر عدد من الأطبّاء أسماءهم وأرقامهم لتكون بمتناول الجميع حتّى يتمكّنوا من الحصول على استشارات طبيّة مجانيّة.

وأطلقت قناة "الجديد" حملة "صامدون" التي جمعت حتّى كتابة هذه السطور 777 مليون ليرة لبنان وبلغ عدد المتبرعين 20427. وسلّطت القناة الضوء في برامجها الضوء على العديد من المبادرات في بيروت والمناطق التي تقدّم مساعدات غذائية وطبية ومالية لأشخاص وأسر محتاجة.

وبرزت أيضاً مبادرات أخرى مثل جمع 5000 دولار أميركي لتأمين سيارة بديلة لسائق الأجرة الذي حرق سيّارته في كورنيش المزرعة الأسبوع الماضي احتجاجاً على تحرير ضبط بحقّه تطبيقاً لقرار التعبئة العامة. وفي صيدا، قامت مجموعة شبابيّة بتقديم موادّ تعقيم وتنظيف لمن يحتاجها. وانطلقت مبادرة هدفها جمع تبرّعات للعاملات الأجنبيّات اللواتي تضرّرن من أزمة الدولار ويتضرّرن الآن من تفاقم الأزمة بسبب الكورونا. 

ولكن من المتوقّع أن يؤدّي تفاقم الأزمة ليس فقط إلى ارتفاع عدد العائلات المتضرّرة بل أيضاً المسّ بقدرة الناس على التبرّع نظراً إلى أن المتبرّعين ليسوا جميعهم أشخاص ميسورون، لذلك يتخوّف صفي الدين من قدرة المبادرات الأهلية على الإستمرار في ظلّ استمرار غياب إرادة السلطة السياسيّة عن التحرّك وإيجاد حلول جذرية.

 

 

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني