منذ مؤتمره التأسيسي والسّري، في 10 فيفري 1952، وبِدَعم من أكبر القوى الاجتماعية: الاتحاد العام التونسي للشغل وزَعيمه فرحات حشّاد،[1] خاضَ الاتحاد العام لطلبة تونس عديد النضالات الطلابية برِهَانات سياسية وحقوقية وثقافية واجتماعية، سواءً كان ذلك ضدّ الاستعمار الفرنسي أو ضدّ الدولة التسلطيّة البورقيبية والنوفمبرية (1956-2011). فالقمع الذي مارَسَته الدولة الاستبدادية على الاتحاد العام لطلبة تونس بوصفه معارضة نقابية -ورغم نجاح الحزب الدستوري الحاكم في سياق ما بعد الاستقلال في الهيمنة عليه- لم يَمنع تّشكّل أرض خصبة للاحتجاج الطلابي خلال سنوات الاستبداد الطويلة. في الواقع، كان الاتّحاد العامّ لطلبة تونس مِساحة يُوجَد فيها نوع من النقد الاجتماعي[2] المُختنق في أماكن أخرى، بل أصبح أشبه بـ “فضاء تعويض سياسي”[3] خاصة خلال فترة حكم زين العابدين بن علي.
تاريخيا، مَثّل الاتحاد العام لطلبة تونس أيضا “الإطار التنظيمي الذي حافظ على ديناميكية الشباب الطلابي سواء على المستوى الفكري أو الميداني، وهو المنظمة -والتّي إن كانت تتكفّل تدريجيا بإعداد جزء هام من كوادر الدولة- إلا أنّها كانت تتكفل كذلك بإعداد العدد الكبير من مناضلي الاتحاد العام التونسي للشغل. ثمّ أصبحت منذ أن استفحلت بطالة أصحاب الشهادات العليا (خلال مطلع الألفية) المصدر الرئيسي لإعداد الكوادر المناضلة لاتحاد أصحاب الشهادات المعطلين عن العمل”.[4]
في سياق التحولات السياسية والسوسيولوجية العميقة بعد الثورة التونسية (17 ديسمبر 2010- 14 جانفي 2011)، وفي ظرفية آنية اتسمت بالمقاربات البوليسية والقمعية بعد 25 جويلية 2021، يُمكن ملاحظة تراجع هذا الفاعل التاريخي والطلابي، والذي يتزامن مع ضعف المشهد الحزبي والتنظيمي مقابل بروز فواعل مدنية واجتماعية جديدة. ومن خلال هذه الملاحظة السوسيولوجية تبحث هذه المقالة في بعض أسباب تراجع الاتحاد العام لطلبة تونس في التعبئة الجماعية والشعبية المحلية والعربية والعالمية، وفي مقدمتها القضيّة الفلسطينية، وبروز أطر شبابية جديدة للفعل الجماعي تُناضل بطرق مختلفة عن المنظمات الكلاسيكية والتقليدية.
تراجع الحركة الطلابية في التعبئة الجماعية
بعد سنة 2011، عاشت البلاد التونسية على وقع العديد من الحركات الاحتجاجية والجماهرية، من أبرزها اعتصاميْ القصبة 1 و2 في عام 2011، واعتصام الرحيل في صيف 2013، وحركة “مانيش مسامح” في 2016. إضافة إلى الحركات المحلية التي عُرفَت بطول نفسها مثل “حراك جِمنة”، وذلك غداة الثورة التونسية، أو “حراك الكامور” في ربيع 2017، أو الحراك المساند للقضية الفلسطينية بخاصة بعد 7 أكتوبر 2023. وفي كل هذه الديناميات التعبوية، ورغم تاريخها الحافل بالنّضالات، وانخراطها في أغلب التحركات[5] لم تكن الحركة الطلابية -في جانبها المتعلق بالاتحاد العام لطلبة تونس أساسا- مؤثرة بصفة كبيرة سواء كان ذلك في عمليات التأطير أو الإسناد أو التعبئة التي تهدف في التأثير على عملية صنع القرار وتغيير السياسات العامة. ويعود هذا التراجع لعدّة أسباب داخلية وأخرى خارجية يطول شرحها وتفسيرها، لذلك سنكتفي هنا ببعض الملاحظات الوصفية.
منذ الوهلة الأولى، يَتّضح أنّ النزاع الداخلي ما بين التيّارات السياسية اليسارية الماركسية والقومية صلب الاتحاد كان أحد أهم أسباب التراجع. ففي ظرفية تخلَّت فيها وزارة التعليم العالي بكلّ هياكلها (جامعات، مخابر بحث، دواوين الخدمات الجامعية، إلخ) عن الدّعم المادي واللوجستي والمعرفي للطلاّب، وفي سياق احتَدّت فيه الأزمة السياسية والاقتصادية المحلية وانسدّت فيها الآفاق، حيث بات أغلب الطلاب يفكرون في مشاريع الهجرة والتخلي عن الجامعة وحُلم ما بعد الجامعة، اهتمّ النقابيون الطلابيون –رغم دفاعهم عن حقوق الطلبة- بتمثيلية التيارات السياسية في القيادة النقابية الطلابية، الأمر الذي أدّى إلى انقسام ما بين مؤتمريْن: “مؤتمر البناء” و”مؤتمر ردّ الاعتبار” في سنة 2013، ومؤتمر آخر بقيادة طلابية أخرى.
وفي السياق نفسه، تعتبر هيمنة أغلب الأحزاب اليسارية على توجّهات واختيارات الحركة الطلابية، حتى بعد ثورة 2011 -حيث أن عديد أحزاب اليسار هي التي تُحدد أسماء المرشحين للقيادة في مؤتمرات الاتحاد دون ديمقراطية داخلية نقابية- أحد أسباب عدم انفصال القيادة النقابية الطلابية عن تياراتها السياسية والفكرية التي لا تراعي مشاغل الطلاب وتمثّلاتهم وطموحاتهم مما أدّى إلى نفور العديد من المناضلين غير المرئيين من التنظيمات الرسمية. وهكذا فإن التنظيم السلطوي، الحديدي والمغلق من قبل اليسار، يُعد أحد أسباب تراجع ديناميكية التعبئة الطلابية، فهذا الشكل التنظيمي يستثني عددا مهما من النقابيين القاعدين في عملية اتخاذ القرار والعمل السياسي، ويؤدّي في المحصلة إلى نزع راديكالية الاحتجاج أحيانا، والحدّ من استقلاليته الإبداعية- التنظيمية أحيانا أخرى.
من جهة أخرى، سرّعت العاصفة الشعبوية، التي اجتاحت البلاد التونسية بعد سنة 2011 وبخاصة مع صعود قيس سعيّد إلى الحكم في سنة 2019، إلى تنامي أزمة التنظيمات الكلاسيكية ومن بينها الأحزاب السياسية والحركة النقابية الطلابية. حيث أنّ الشعبوية السلطوية لها القدرة -كما في أغلب الشعبويات اليمينية- على خلق تصدعات داخل المنظمات التقليدية من خلال شيطنتها وتحويل الصراع إلى ما بين “الخير” و”الشر” عوضا عن الصراع بين “اليمين” و”اليسار”، وذلك عن طريق بنية خطابية تُشوّه أغلب الأعمال الجماعية والتنظيمية. ففي نظرها يعتبر نزاع الأيديولوجيات والأفكار والبرامج حالة “غير صحيّة” و”عفا عنها الزمن”.
على المستوى السياسي المرحلي، يُلاحَظ غياب الاتّحاد العامّ لطلبة تونس عن المعارك السياسية الكبرى التي تَشهدها البلاد، من بينها معركة الحريّات العامة والفردية والتنديد بانتهاكات الحياة العامة التي يقوم بها النظام الحالي من خلال سجن المعارضين والصحفيين، وسنّ قوانين قمعية من بينها المرسوم 54. والمقصود هنا غيابه كعنوان نقابي وسياسي واضح وأداة نضال وتعبئة جماعية وازنة. بالمقابل، فإن حضوره كمناضلين فاعلين في الحراك المدني والسياسي، ومنتسبين للاتحاد الطلابي، لن يعوّض أثر هذا الغياب. كما أن الغياب عن التعبئة من أجل معركة الحرية لا يعني أيضا انغماس التعبئة الطلابية في معارك اجتماعية واقتصادية أخرى. ففيما يستمر الخطاب اليساري في إعطاء الأولوية للمسألة الاقتصادية، إلا أنه يبقى مبعثرا وغير منظم ويظل مربوطا بالأفق الفكرية والسياسية المغلقة لعدد من المجموعات اليسارية التي لها إرث وبقايا تواجد داخل الفضاءات الطلابية. وقد برز النقاش الذي يفاضل بين المسألتين خلال المؤتمر الأخير الوطني 30 للاتحاد العام لطلبة تونس المنعقد في ماي 2024. وعلى أهمية هذا النقاش وضرورة الاستماع لوجهات النظر المتنازعة، إلا أنه ظل رهين قاعة المؤتمر، وعلى الأرجح تمّ إغلاقة بسرعة دون السماح للجدل بأن يأخذ منتهاه.
أيضا، كان لانقسام التيارات اليسارية حول الموقف من “سلطة 25 جويلية” تأثير في الحلقات الطلابية الصغيرة المنتسبة لهذا اليسار داخل الجامعات، وهو ما جَعل الاتحاد العام لطلبة تونس يُدشّن فصلا جديدا من تاريخه لا تقف فيه جميع التيارات اليسارية الطلابية موقفا معارضا للسلطة الحالية. وما زالت هذه المسألة لا تحظى بالنقاش الكافي داخل الفضاءات الطلابية -كغيرها من المسائل الأخرى- ويجري التعامل معها بمنطق التسيير العادي للأشياء.
وعموما لا يمكن تحميل الاتحاد العام لطلبة تونس عبء هذه المآزق التنظيمية والسياسية، لأنها أصبحت خاصية تُهيكل مجمل المرحلة السياسية في البلاد، وتعاني منها وأحزاب سياسية تاريخية ومنظمات مهنية لديها موارد وأكثر وزنا اجتماعيا وسياسيا وذات هيكلية مستقرة، وبخاصة الاتحاد العام التونسي للشغل.
الفواعل المدنية والشبابية الجديدة: هل هي أطر نضالية وبديلة للحركة الطلابية؟
جلبَت الثورة التونسية معها مفاهيم جديدة للفضاء، حيث أن طفرة الحرية التي برزت بعد سنة 2011 ورغم حدودها، -والتي تراجعت بعد 25 جويلية 2021- وفرّت أمكنة أخرى للفعل الجماعي. يلاحظ هذا من خلال ارتفاع عدد الجمعيات إلى 18.503 جمعية (منظمة) في حدود فيفري 2016[6] وتحسّن واضح في الانتشار الترابي للجمعيات في اتجاه تراجع ظاهرة عدم التوازن الجهوي على مستوى عدد الجمعيات الجديدة.[7] وفي ظرفية تعيش فيها البلاد التونسية على وقع تحوّل جيلي يبدو أنّ الشباب تُلهمه أطر أخرى للفعل النضالي والتعبيري سواء كان الفردي أم الجماعي مثل الراب، الألتراس، وفنون الشارع، إلخ. وفي سياق ديناميكية دورات الاحتجاج في تونس والتي توفر وفقا لسيدني تارّو: “تزايد كثافة الصراع، انتشاره الجغرافي والاجتماعي، ظهور أفعال عفوية، تشكل مجموعات منظمة جديدة، ونشوء رموز جديدة”،[8] وفي زمنية عاشت فيها الديمقراطية التمثيلية على وقع أزمة سياسية مقابل تنامي أصوات الشعبوية، كلها عوامل ساهمت في ابتعاد العديد من الشباب، بخاصة منهم ذوي المرجعيات الفكرية اليسارية عن التنظيمات الأفقية والبيروقراطية والسلطوية لليسار والحركة النقابية الكلاسيكية، والبحث عن مساحات أخرى للنضال يجد فيها (الفاعل) نفسه أكثر حريّة خاصة في مسألتيْ التشاركية الداخلية وعملية اتخاذ القرار، مثل الحملات والمبادرات التنظيمية الاحتجاجية الشبابية[9]، المنظمات غير الحكومية، فنون الشارع، التنسيقيات[10] التي تشكلت في جهات عديدة.
إنّ ظاهرة تراجع الحركات الكلاسيكية في عمليات التعبئة والتأثير والتغيير ليست ظاهرة محلية فقط. فقد أعلن الفرنسي آلان توران عن موت الحركات الاجتماعيّة في كتابه La fin des sociétés ويعتبرها غير قادرة على إيجاد سبل التغيير، مُعلنا عن تدمير المجتمعات الصناعيّة وتدمير الفاعلين الاجتماعيين،[11] وأنّ الفاعل الاجتماعي أصبح هشّا، وتراجع دوره، وحلّت محلّه منظمات إنسانوية جديدة هي أيضا غير قادرة على التغيير والتعبئة الاجتماعيّة.
وفي الختام، جدير بالذكر أنّ بروز هذه الفواعل الجديدة والشبابية في تونس لا تعني بأنها ستتكفّل أو تعوّض دور ومكانة الحركة الطلابية، فهذه الأخيرة ربما تمُر بأزمة تنظيمية آنية وداخلية وظرفية مثلها مثل أغلب الأحزاب السياسية، إذ يمكن القول أننا بصدد مشهد لم يتشكّل بعد، أو بصدد إعادة التشكل، لأن الثورات لا تعلن عن تاريخها النهائي دفعة واحدة.
نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية – تونس العدد 31
لقراءة وتحميل العدد 31 بصيغة PDF
[1] علي الجلولي، قراءة في تاريخ الحركة الطلابية والاتحاد العام لطلبة تونس (1952- 2002)، الطبعة الثقافية المنستير، تونس، 2024، ص 23، 24.
[2] « Mars 68 » et le non-mai 68 tunisien | SciencesPo – Dossiers documentaires
[3] مطاع أمين الواعر، الخصائص الاجتماعية المؤثرة في الالتزام الطلابي بتونس خلال العشرية الأولى لحكم بن علي، إضافات، العددان 53- 54، 2021، ص 64- 87، ص 69.
[4] المولدي قسّومي، المنصف القابسي، الشباب والمواطنة في تونس بعد » الثورة « ، الاتحاد العام التونسي للشغل: قسم الدراسات والتوثيق، 2021، ص 40.
[5] جدير بالذكر أن الاتحاد العام لطلبة تونس، قد كان منخرطا في أغلب التحركات الوطنية والمحلية والعابرة للوطنية وذلك بأشكال عديدة من بينها: البلاغات- المظاهرات- الاجتماعات العامة داخل الكليات- الإضرابات العامة داخل الجامعة.
[6] المنصف ونّاس، “التقرير التمهيدي: المجتمع المدني والحياة الجمعياتيّة في تونس قبل ثورة 2011 وبعدها”، في المجتمع المدني التونسي: من الإسهام في التحولات بعد 14 جانفي 2011 إلى نيل جائزة نوبل للسلام سنة 2015، أعمال الندوة العلمية التي نظمت بتونس في 12 فيفري 2016، تحت إشراف: فاضل بليبش، مؤسسة روزا لكسمبورغ، مكتب شمال إفريقيا تونس، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، تونس، 2017، ص 12-25، ص 19.
[7] فاضل بليبش، ” تطورات المشهد الجمعياتي بتونس منذ 2011″، “، في المجتمع المدني التونسي: من الإسهام في التحولات بعد 14 جانفي 2011 إلى نيل جائزة نوبل للسلام سنة 2015، أعمال الندوة العلمية التي نظمت بتونس في 12 فيفري 2016، تحت إشراف: فاضل بليبش، مؤسسة روزا لكسمبورغ، مكتب شمال إفريقيا تونس، الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم، تونس، 2017، ص 26- 59، ص 37.
[8] ماهر حنين، اليسار حيث لا تنتظر أو “حملات” اليسار القادم، في مانيفستو اليسار التونسي، تنسيق: ياسين النابلي، المفكرة القانونية، تونس، 2023، ص 119.
[9] مثل حملة :مانيش مسامح” – “وينو البترول” – “احكموا لحيوط” الخ.
[10] مثل تنسيقية الكامور.
[11]Alain Touraine , Nous sommes sujets humaines, Editions du seuil, Paris, 2015, P 181.