غلق مقرّيْ الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد: تهديد معقل آخر من معاقل الديمقراطية


2021-09-06    |   

غلق مقرّيْ الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد: تهديد معقل آخر من معاقل الديمقراطية
الصورة منقولة عن موقع الهيئة

في 20 أوت الماضي، أشرف والي تونس تنفيذا لقرار الوزير المكلف بوزارة الدّاخلية مرفوقا بقوات الأمن على غلق مقرّي الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد في منطقتيْ البحيرة والبلفيدير بتونس وإخراج كلّ أعوانها وموظفيها وإقالة كاتبها العام[1] الذي كان مُكلّفا بتسييرها بعد إقالة رئيسها منذ 7 جوان 2021 وتولية المكلّف بالشؤون الإدارية والمالية للهيئة بمباشرة جميع أعمال التصرّف التي يقتضيها السّير العادي لمصالح الهيئة وذلك بصفة وقتيّة. ويتواصل إلى اليوم غلقُ مقرّي الهيئة.

هذه الإجراءات والتدابير التي من المفترض أنّها اعتمدت على الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 المتعلق بإعلان حالة الطوارئ، اكتنفها غموضٌ كبير وغيابٌ لأدنى قواعد الشفافية واحترام حق المواطنات والمواطنين في المعلومة (كالعادة منذ 25 جويلية 2021) إلى جانب ضربها عرض الحائط بمقوّمات استقلالية هذه الهيئات، فهل يمهّد ذلك لرؤية رئاسيّة للهيئات المستقلّة؟

ويتواصل غياب الشفافية وعدم احترام المُواطنة

أتتْ هذه التدابير بغلق هيئة مكافحة الفساد ومقرّاتها ووضع ملفاتها تحت حماية”/ “رقابة” وزارة الدّاخلية في تواصل لأشكال جديدة من العمل انطلقت منذ 25 جويلية 2021: اتخاذ القرارات بصفة انفرادية دونما تعليل أو تفسير… فمنذ إعلان الحالة الاستثنائية يوم 25 جويلية انطلق العمل بمبادئ جديدة: الانفراد بالقرار وعدم التعليل، في غياب تام للشفافية. فتعليق اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة عن كل نوّابه، وإقالة رئيس الحكومة والعديد من مستشاريه ثم إقالة عديد الوزراء، وكبار موظفي الدولة وعدد من الولاة، ثم المكلّف بتسيير هيئة مكافحة الفساد، وإحالة عديد المسؤولين والسياسيين على الإقامة الجبرية…

كلّ هذه الأعمال وغيرها تمّ تعليلها بتعليل فضفاض لا يحتوي على أيّ معلومَة: حماية الأمن العام، حماية أمن الوطن من التهديدات… وهي كلّها تعليلات لا تستقيم أبدا بخاصّة إذا تعلّقت بحقوق وحرّيات المواطنين وضرب سمعتهم وكرامتهم… ولذا، فإنّ غلق مقرّي الهيئة لا يبدو لنا إلا تفصيلا طالما أن الأصل هو غلق مقرّ السيادة بامتياز: مجلس نواب الشعب دونما تعليل واضح يحترم حقنا في المعلومة من ناحية (الفصل 32 من الدستور) وواجب الإدارة في أن تعمل وفق قواعد الشفافية (الفصل 15 من الدستور). ولذا لمَ الاستغراب؟ منْ أمكنه الأكثر (غلق مجلس نواب الشعب) أمكنه الأقل (غلق مقر هيئة مكافحة الفساد).

بالرّجوع إلى كل التدابير المُتّخذة يوم 20 أوت 2021: غلق المقرّين، إخراج كلّ الأعوان والإطارات من المقرين، إقالة الكاتب العامّ، تحفّظ وزارة الداخليّة على المقرّين وخاصة على الملفّات المودعة، نلاحظ الغياب التامّ لأيّ معلومة رسمية موضوعية تفسّر اتخاذ هذه التدابير الخطيرة. ويتأكد ذلك بتصريح والي تونس الذي رافق عملية مداهمة مقرّي الهيئة وإخلائها والذي صرّح بأنه “لا يعلم أسباب هذا القرار وقد قام بتنفيذه فقط ملاحظا أن العمل به سيتواصل إلى غاية الانتهاء من حالة الطوارئ”[2] وهي مسألة خطيرة وغريبة أن لا يكون المسؤول الأول عن أمن ولاية تونس عالما بكل التدابير التي تتخذ في منطقة عمله ونفوذه.

في المخاطر الآنية الناشئة عن غلْق مَقرّيْ الهيئة

عديدة هي المخاطر الآنيّة الناحمة عن غلق مقرّي الهيئة ووضعها بكل محتوياتها في عهدة وزارة الدّاخلية. وقد عبّرت عن ذلك منظّمة أنا يقظ أوّلا ثمّ مجموعة من الهيئات العموميّة ثانيا. ويمكن أن نحوْصل هذه المخاطر في مخاطر على الحقوق والحريات وعلى مستقبل الهيئات العمومية.

الاعتداء على الحق في الحماية:

“إن غلق مقري الهيئة سيؤدي حتما إلى توقف صدور قرارات حماية المبلغين عن الفساد بموجب القانون عدد 10 لسنة 2017 مؤرخ في 7 مارس 2017 يتعلق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين”. ذلك أنه بغلق مقر الهيئة إلى حين انتهاء حالة الطوارئ (التي لا نعلم متى تنتهي) من سيصدر قرارات الحماية؟

فالفصل 21 من القانون عدد 10 لسنة 2017 ينصّ على أن الهيئة تدرس طلبات الحماية والآليات اللازمة لها ومدّتها وتتخذ قرارها في الغرض في ظرف ثلاثة أيام من تاريخ توصلها بالطلب… وتتولى الهيئة في كل الأحوال إبلاغ قرارها إلى المبلّغ في أجل 48 ساعة من تاريخ اتّخاذه”، ولذا وبتوقف الهيئة عن العمل من سيحمي المبلّغات[3] اللواتي أودعْن مطالبهن من مختلف أشكال الانتقام أو التميّز التي قد تسلط عليهن من مضايقات أو عقوبات… كالعزل أو الإعفاء أو رفض الترقية، رفض النقلة أو النقل التعسّفية”. ثم بغلق الهيئة لمن سيّتوجه المبلّغون في المستقبل؟ لوزارة الداخلية؟ خاصة إذا كان التبليغ ضدّ مصالحها أو أعوانها؟[4]

الحق في حماية المعطيات الشخصية:

بغلق مقرها في 20 أوت، وضعت كل المعطيات والوثائق الموجودة في مقرّيْ الهيئة أو في سياراتها أو عند أعوانها وموظفيها[5] لدى وزارة الداخلية وهي تحتوي جميعها على معطيات شخصية وحساسة للأشخاص كانوا أودعوها لدى هيئة مستقلة تضمن لهم حمايتها وسريتها وعدم استعمالها إلا في حدود ما ينصّ عليها القانون عدد 46 المؤرخ في 01 أوت 2018 المتعلق بالتصريح بالمكاسب والمصالح ومكافحة تضارب المصالح والإثراء غير المشروع. وعليه، تصبح هذه الملفّات[6] تحت حماية ورقابة وزارة الداخلية وهو ما يتنافى تماما مع الغاية من إحداث هيئات مستقلة عن الإدارة أساسا والأطراف السياسية. فما هو مصير هذه المعطيات وكيف سيتمّ استعمالها وتوظيفها؟ وأي ضمانات للأشخاص الذي قاموا بالإيداع؟

هذا الوضع الخطير جعل مجموعة من الهيئات العمومية تصدر بيانا تعرب فيه عن “الانشغال الشديد والتخوّف من خرق قواعد حماية المعطيات الشخصيّة وخاصة منها المعطيات التي تقوم الهيئة بمعالجتها…”. هذا التخوّف المُشرّع يأتي في نظرنا متأخراً جدّاً، ذلك أنه ومنذ 25 جويلية 2021 تمّ التحفظ على كل المعطيات الموجودة في مجلس نواب الشعب وفي قصر الحكومة بالقصبة. ونذكّر من جديد من أمكنه الأكثر أمكنه الأقل، فمن تحفظ على كل وثائق مقرات السيادة لن يمتنع من حجز ملفات ومعطيات داخل هيئة عمومية مستقلة أو غير مستقلّة.

 

في المخاطر العميقة والدائمة لقرارات غلق الهيئة:

إن الهجوم على مقرّ هيئة عمومية مستقلة وحجز كل وثائقها وإخراج كل أعوانها وتفتيشهم وغلق مقراتها وعزل كاتبها العام، دونما أي تفسير أو تعليل جدّي وواضح، وجعل وزارة الدّاخلية هي المسؤولة عن حماية ورقابة كل المعطيات المتحفظ عليها يطرح سؤالا جوهريّا حول معنى إحداث هيئات مستقلة ومدى ضمان هذه الاستقلالية؟ هذه التدابير دفعت مجموعة من رؤساء الهيئات العمومية المُنضوين تحت رابطة الهيئات العمومية المستقلّة إلى إصدار بيان في 27 أوت 2021 رافضين فيه غلق المقرّيْن المركزيين للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومستهجنين طريقة تنفيذه، ومؤكدين تمسكهم المبدئي والثابت باستقلالية الهيئات العمومية ومحذّرين من مخاطر المسّ بوحدتها واستقلاليتها ومن التدخل في شؤونها”.

هذا البيان الهام (والشجاع في هذه الفترة الحرجة المرسومة بجوّ الخوف والصنصرة الذاتية) أمضاه رئيسة ورؤساء كل من الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية، والهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب والهيئة الوطنية لمكافحة الإتجار بالأشخاص وهيئة النفاذ إلى المعلومة، وغابتْ عنه الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نظرا لعدم وجود رئيس لها)، والهيئة العليا المستقلّة للانتخابات والهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري والهيئة العليا لحقوق الانسان والحريات الأساسية (الملحقة إداريّا وماليا برئاسة الجمهورية). هذا الغياب يمكن أن يفسّر أيضا بالخشبة من الانخراط في مثل هذا النوع من البيانات من ناحية أو عدم الرغبة في الإعراب من مواقف مما يحدث في إطار نوع من الحياد (غير المبرّر في نظرنا). إلا أن الانعكاسات الخطيرة لمثل هذه القرارات على الهيئات العمومية ستكون وخيمة على استقلاليتها وعلى طرق عملها وعلى الثقة فيها.

فمن حيث الاستقلالية، يجدر التذكير بأن الدستور (الفصل 125 منه) نصّ صراحة عليها من خلال ربط الهيئة بمجلس النواب الذي ينتخب أعضاءها بأغلبية معزّزة وترفع إليه تقريرا سنويا. وهذا ما أكّده القانون الأساسي 47 المؤرخ في 07 أوت 2018، المتعلّق بالأحكام المشتركة بين الهيئات الدستورية المستقّلة والذي جعل استقلالية الهيئات أحد المبادئ الأساسية وربطها فقط بمجلس نواب الشعب. وعليه، فإن ما حصل يوم 20 أوت 2021 هو تعدّ صارخ على كلّ مبادئ الاستقلالية بحيث أصبحت وزارة الدّاخلية هي المتصرّف في المعطيات والملفات التي حجزت صلب الهيئة… وهو ما يتنافى أيضا مع مبادئ باريس المتعلقة بالهيئات الوطنية لحقوق الإنسان والتي تعتبر أهم المبادئ التي تحاول كلّ المؤسسات الوطنية المستقلة أن تكرّسها.

ومن شأن النيل من استقلالية هذه الهيئة، التأثير على طريقة عمل الهيئات كافة. فما حصل يوم 20 أوت من شأنه ضرب كلّ ثقة في هذه الهيئات وجعل العاملين فيها ورؤسائها في وضعيّة حرجة، ذلك أنه يمكن التدخل في عملهم وفي طرق تصرّفهم بقرارات صادرة عن السلطة التنفيذية، وبخاصة وزارة الدّاخلية وطوال مدة إعلان حالة الطوارئ التي لا أفق محدّد لها. هذا التصرّف سيؤدّي حتماً إلى عزوف الأشخاص ذوي الكفاءة والنزاهة والموضوعية من الرّغبة في الالتحاق بهذه الهيئات وسيشجّع الأشخاص المنسجمين والتابعين للسلطة التنفيذية من الالتحاق بها ممّا سيؤدي إلى تدني مستوى عملها وانتفاء دورها في “دعم الديمقراطية” (الفصل 125 دستور).

بالمحصلة، إن ما تمّ يوم 20 أوت 2021 هو حدث خطير جدّا من شأنه أن يعكس تصوّرا مغايرا لدور هذه الهيئات ولنظامها القانوني، تصوّرا مختلفا ممّا تم ارساؤه انطلاقا من 2011 وتعزّز بدستور 2014، يعود بنا إلى ما قبل 2011 حين لم تكن هناك هيئات مستقلة بإمكانها مساءلة ومحاسبة السلطات الأخرى، بل كانت خاضعة إداريا وماليّا ووظيفيّا للسلطة التنفيذية… هذا الخطر الحقيقي من شأنه أن ينسف معقلا آخر من معاقل الديمقراطية وحقوق الإنسان ومن شأنه أن يمهّد لاختفاء مثل هذه المؤسسات الهامة.

  1. أمر رئاسي عدد 108 مؤرخ في 20 أوت 2021 يتعلق بإنهاء مهام الكاتب العام للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، الرائد الرسمي عدد 75 في 20 أوت 2021، ص 2147.
  2. تصريح والي تونس شاذلي بوعلاق، لإذاعة شمس، أف أم بتاريخ 20 أوت 2021، الساعة 16.05.
  3. يعتمد تحرير المفكرة القانونية على الحيادية الجندرية بمعنى أن جمع المؤنث كما جمع المذكر قد يجمع الإتاث والذكور معا.
  4. أنظر، أنا يقظ، في شمس أف. أم بتاريخ 25 أوت 2021، الساعة 16h.31: منظمة أنا يقظ تعبّر عن تخوفها من مواصلة إغلاق مقر هيئة مكافحة الفساد..
  5. بما أنه تم تفتيش الجميع، بحسب ما صرح به أنور بن حسن كاتب عام الهيئة بتاريخ 23 أوت 2021 في نصّ نشره على صفحته وتداولته وسائل الإعلام.
  6. بلغت التبليغات عن الفساد 43459 ومطالب الحماية 828 والتصاريح بالممتلكات 144152 تصريحا: أنظري: موقع الهيئة www.intucc.tn ) .
انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، قرارات إدارية ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني