ما أن أقبل النائب المنتخب إدغار طرابلسي إلى الغرفة الرقم 104 في الطابق الأول من المجلس النيابي في وسط بيروت، حتى انفرجت أسارير النائب غسان مخيبر. كان نائب المتن الذي أطاح الصوت التفضيلي بمقعده في الاستحقاق النيابي الأخير في 6 أيار 2018، غارقاً بين عشرات الملفات التي اكتظ بها مكتبه منذ العام 2002 ولغاية العام 2018. ملفات تختزن اقتراحات قوانين وأبحاثا ودراسات وتقارير لجان وأدلة تبدأ من دليل صياغة التشريعات ولا تنتهي عند اقتراح تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب. قضايا شرع مخيبر يوصي بها زميله طرابلسي كمن يوصي جاره بأولاده خلال غيابه المؤقت.
نعم "غياب مؤقت"، هكذا يرى غسان مخيبر غيابه عن الندوة البرلمانية من دون أن يغيب عن "الشأن العام والسياسة". سيستريح المحارب الذي "خسر معركة" ولم يخسر "الحرب"، وإن كان بحسه المدني والحقوقي العالي يرى النيابة مهمة يتصدى لها "لأن السياسة أخطر من أن تترك للسياسيين وحدهم".
هذا الجانب من شخصية غسان مخيبر وفكره، والذي جعله جسر عبور بين السلطة الثانية في الدولة اللبنانية، أي مجلس النواب، وبين الناس وقضاياهم، هو نفسه الذي دفع البعض إلى تسجيل ملاحظات على أدائه وانتقاده من باب "العتب" والمونة والرؤية للدور الذي يمكن أن يلعبه، بحكم أنه جاء إلى السياسة من باب قضايا حقوق الإنسان وعالم القانون، وإن كان مخيبر خلف عمه النائب الراحل ألبير مخيبر في مقعده النيابي.
من يعرف مكتب غسان مخيبر في المجلس النيابي، يدرك أنه كان أشبه ببيت بغرفة واحدة: يفرشه بالسجاد أيام الشتاء، تزين جدرانه اللوحات المعبرة، كادرات صور لأفراد العائلة كما في البيوت الدافئة، "نقرشات" للضيوف من الزملاء النواب والأصدقاء والزوار تملأ براده الصغير. "ربما لم يكن ينقصه إلاّ سرير" وفق ما كان يقول عنه أحد زملائه "كنا نحس إنه غسان بينام بالمجلس".
قبل عشرة أيام من اليوم، وتحديداً عشية الإنتخابات التي أخرجته من الندوة البرلمانية، احتفل مخيبر بمرور ثلاث سنوات على زواجه. زواج لم يشغله عن سعيه التشريعي ل "بناء الدولة المدنية، دولة المؤسسات والعدالة والتشريع والمواطن الإنسان".
لا يخلو أي تقرير تقييمي في السنوات الأخيرة لنشاط النواب، من سجل غسان مخيبر الحافل في التشريع واللجان، إلى أن صار لقبه المحبب على قلبه "خياط المجلس وتشريعاته". أليس هو صاحب الصورة الشهيرة التي نشرتها وسائل إعلام عدة؟ رجل منكب في مكتبه في المجلس النيابي يعمل على ضوء الشمعة بعدما انقطعت الكهرباء في وسط بيروت، في البرلمان من دون أن يكبد أي كان عبء تشغيل الموتور، فلا أحد في البرلمان سواه؟ النائب الذي كان حراس المجلس يشتكون من إضطرارهم لانتظاره إلى ساعات متأخرة، بعدما تتحول ساحة النجمة إلى بقعة "حفرة نفرة" مهجورة كما يقول المثل الشعبي.
نائب لا يشبه بعض النواب، من رجال ونساء، ممن قبضوا أموالهم من مال الشعب، الشعب الذي منحهم ثقته، فلم يكونوا أمناء لا للمال العام الذي يتلقون، ولا للثقة التي نالوها.
بعد يومين من إعلان النتائج الرسمية للانتخابات النيابية التي جرت في 6 أيار 2018، كان مكتب غسان مخيبر يشبه هذا الرجل الذي شغله منذ العام 2002 ولغاية يوم الجمعة في 9 أيار 2018. يومها، في 9 أيار 2018، قام مخيبر بآخر واجباته من داخل الندوة البرلمانية تجاه القضايا المحقة التي قضى خدمته في المجلس وفياً لها: أصرّ على جمع زملائه في لجنة الإدارة والعدل حيث أقروا اقتراح قانون المفقودين بعد أيام من الانتخابات النيابية. كان يمكنه بكل بساطة أن يدير ظهره كنائب سابق قام بواجباته خلال فترة ولايته، ولكن القضية بالنسبة له كما قال ل "المفكرة" قضية "مبدأ والتزام". أتراه كان يستشعر خوفاً على القانون الذي ساهم في تحويله إلى اقتراح قانون، وبالتالي رأى أن يغادر مطمئن البال إلى الأمانة التي وضعتها رئيسة لجنة أهالي المفقودين وداد حلواني، وأهالي المفقودين في ذمته؟ "ارتحت كثيرا لتحويل اقتراح قانون المفقودين إلى الهيئة العامة للمجلس"، يقول .
لكن مخيبر، وهو من قلة أوفت لعملها التشريعي ووظيفتها الأساسية، لم ينل أصواتاً تكفيه للعودة إلى ورشه التشريعية التي ما تزال مفتوحة أو ربما معلقة. تشريعات تركت غصة في قلبه وهو يغادر المجلس النيابي من دون أن تصل إلى خواتيمها المرجوة. نائب مثّل صورة النائب التي ننتصر لها كمواطنين يرنون إلى نواب التشريع والشراكة مع منظمات المجتمع المدني في سبيل القضايا المحقة. نائب لا يستزلم لزعامات طائفية، برغم ملاحظات البعض على تحالفاته السياسية وخصوصا بعد إقرار قانون نسبي للإنتخابات، وانتقاده مع الوزير السابق زياد بارود على ترشحهما ضمن إحدى لوائح أحزاب السلطة وعدم سعيهما إلى تشكيل لوائح اعتراضية متراصة.
في الإجمال لم يخرج غسان مخيبر بسلوكه المدني عن مسيرة عمه النائب الراحل ألبير مخيبر، طبيب الفقراء، ورافع الصوت ضد الميليشيات في عز الحرب وسيطرة الأخيرة على البلاد، والذي ورثه في مقعده النيابي، وإن كان انتقل من الوراثة إلى تكريس مكانته عبر نشاطه التشريعي وخزينه الحقوقي والمدني الذي استثمره في الندوة البرلمانية.
واليوم، وهو يسلم مكتبه للنائب المنتخب عن مقعد الأقليات في بيروت القيسيس إدغار طرابلسي، يرفع مخيبر الصوت على عادته في تحديد الأولويات. يخرج غسان مخيبر من المجلس النيابي مصوباً انتقاده على هذه المؤسسة ومعوقات العمل فيها التي تصل إلى تعطيلها: "أتمنى من الزملاء الجدد وأولئك الذين عادوا إلى مكاتبهم، أن يسعوا لإقرار مشروع تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب، وإلا سيبقى المجلس غير فعال على الصعيد التشريعي والرقابي". يوصي مخيبر باقتراح قانون تعديل النظام الداخلي للمجلس النيابي، بالإضافة إلى 12 مجالا آخر "تصون الإستقلال وتستكمل بناء الدولة وتخدم الناس"، وهي نقاط جعلها في صلب برنامجه الإنتخابي.
لماذا تعديل النظام الداخلي للمجلس؟
يرتكز النظام الداخلي لمجلس النواب على مجاليّن: "تطوير العمل البرلماني التشريعي ليكون فعّالاً وإلا سيبقى مشروع بناء الدولة بطيئاً". وعليه، يركز مخيبر على جودة التشريع (تحقق منها دليل الصياغة التشريعية)، وتطوير مجموعة أدوات أخرى ومنها جودة التقارير في مجلس النواب ليتمكن النائب من تكوين فكرة واضحة ودقيقة عن النقاشات والصعوبات في اللجان، وبالتالي اتخاذ موقف شامل وسليم، ولإصلاح القوانين التي تصل سيئة في بعض الأحيان.
ويخلق المجال الثاني في العمل على النظام الداخلي للمجلس "تطوراً مهماً ونوعياً جداً في الوظيفة الرقابية للبرلمان وشفافيتها". يقول مخيبر "وضعنا آلية لإلزام المجلس بإستخدام اللوح الإلكتروني عند التصويت وطورنا آلية عمل اللجان وعلانيته، ما لم تقرر اللجان عكس ذلك. كما أقررنا مبدأ نظام جديد للأسئلة والاستجوابات. ولكن لم يتم تنفيذ أي من هذه الإصلاحات".
مع الوقت، اكتشف مخيبر أن "هناك مصلحة جامعة للقوى السياسية كافة بعدم تطبيق هذه الإصلاحات في النظام الداخلي لمجلس النواب. قصدت الجميع ولكن للأسف لم يتحمس أحد ولم يهتم أي منهم. وعليه، إذا لم تتطور فعالية المجلس النيابي وخصوصا وظيفته الرقابية فستبقى إعاقة التشريع قائمة".
والتشريع يعود مخيبر إلى الوظيفة الرقابية للمجلس "هي الأهم، لأنه يجب مراقبة القوانين والسياسات وإلا لن تُطبق".
كانت الرقابة البرلمانية "شبه معدومة وكنت أول من كشف هذه الأرقام"، يقول مخيبر مشيراً إلى أنه "ومنذ انتخابات العام 1992 ولغاية اليوم عقد مجلس النواب 19 جلسة مساءلة، بينما في العالم تعقد البرلمانات متوسطة النشاط، على الأقل جلسة استجواب من خلال الهيئة العامة مرة في الإسبوع". وعليه، تنحصر الرقابة عندنا في اللجان حيث الإجتماعات سرية، ولا تقدم تقارير للهيئة العامة". "المذهل" في عمل مجلس النواب اللبناني، بالنسبة لمخيبر "هو غياب العمل الرقابي بآلياته البرلمانية، في المناقشة العامة والأسئلة والإستجواب وهذا لا يرد عليه بفصل النيابة عن الوزارة، لأن النواب ينتقدون الوزراء من قوى أخرى، والمحاسبة سياسية وليست رقابية في المجلس، لأن الرقابة معطلة فعلياً لعدم انعقاد جلسات محاسبة وجلسات أسئلة".
يقول النظام الداخلي لمجلس النواب: "ينعقد البرلمان في جلسة أسئلة ومناقشة عامة كل ثلاث جلسات تشريعية مرة"، وصودف أن المجلس "لا يعقد أكثر من تلات جلسات تشريع في السنة"، ولكن مع ذلك، وفق مخيبر، "بالكاد نقيم جلسة مساءلة وأسئلة واحدة وهناك سنوات مرّت لم تعقد فيها حتى جلسة أسئلة واحدة".
يثير مخيبر افتقاد المجلس النيابي إلى القدرات في الأجهزة المساعدة "قلة من موظفي المجلس يقومون بعملهم، ولا يتمتع جميعهم بقدرات تشريعية كافية، وبالتالي يقوم التشريع على قدرات النواب بالذات وليس على القدرة المساعدة لهم".
نواب وموظفون لا يحضرون
ليس النواب وحدهم الذين لا يحضرون إلى المجلس، وفق مخيبر، "بل الكثير من أمناء سر اللجان وبعض الموظفين أيضاً لا يحضرون، كما أن اللجان لا تنعقد كفاية". فمجلس النواب، وكما شهد شاهد من أهله "مؤسسة يتوقف العمل فيها عند الساعة الواحدة والنصف من ظهر كل يوم، وبالتالي الجودة متدنية، وهناك وقت قليل مخصص للعمل التشريعي عند النواب وعند الموظفين، فيرمى الجهد كله على النواب الذين يتمتعون بقدرات ومهارات في المحاماة والقانون أو الذين يشتغلون على أنفسهم ليتابعوا بشكل جيد".
يثير مخيبر افتقاد المجلس للمتخصصين بالإقتصاد والمال والمحاسبة لمساعدة النواب على فهم المال العام، على سبيل المثال لا الحصر "إذا فمهنا الجمل المكتوبة باللغة العربية في الموازنة أو غيرها من القوانين المالية، لكن كيف نفهم رموز الأحرف والأرقام؟". ولذا يقوم المجلس على "بعض الجهود الفردية وامكانيات عدد محدود من النواب وهنا الصعوبة، وإلا لبان قصور هذه المؤسسة بشكل فاضح".
ألا يجعل هذا القصور من التصويت على القانون مسألة محض سياسية وليست تشريعية تستند إلى دراسة القوانين ومدى مواءمتها لدولة المؤسسات ومصلحة المواطن؟ يقول مخيبر "أن بعض الكتل تستدرك هذا الأمر بتخصيص نائب ممن يعتبرون من حرفيي التشريع، وتبني موقفها على عمله".
إفتقاد المجلس النيابي للقدرات التشريعية يفتح ملفاً مهماً جداً كما يصفه مخيبر ب "فساد التوظيف في البرلمان".
يعتبر مخيبر أن موظفي مجلس النواب هم أحد أسراره " لا أحد يعرف عددهم الحقيقي ولا كل أسمائهم ولا مراكزهم، ويكون لدينا أحياناً أكثر من موظف على وظيفة واحدة". حصل أن وضعت إحدى الجامعات العالمية "هيكيلية للتوظيف والوظائف لم تطبق".وليس إنتداب أحد الموظفين للتدريب لمدة شهر في فرنسا من دون أن يعرف كلمة فرنسية واحدة إلاّ، على سبيل المثال لا الحصر، نموذجاً عن الطريقة التي تحصل فيها بعض الأمور "لقد أخبرني بذلك رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي والذي كان مستغربا جدا".
مساهمات غسان مخيبر التشريعية
بعد كل هذا التفصيل في أهمية إقرار اقتراح قانون النظام الداخلي لمجلس النواب، يعيد غسان مخيبر التذكير بما نشره على صفحته عن انجازاته التشريعية واليت صنفها ضمن أبواب عدة منها:
أولا: بناء الدولة النزيهة ومكافحة الفساد والوقاية منه
ساهم في صياغة قوانين مختلفة لمكافحة الفساد والوقاية منه، أقر منها قانون الحق بالوصول الى المعلومات. فيما ما تزال عالقة لدى المجلس اقتراحات القوانين لحماية كاشفي الفساد والإثراء غير المشروع المتضمن التصريح عن الذمة المالية والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وكذلك بما يتصل باقتراحات تعديل قوانين الهيئات الرقابية (ديوان المحاسبة وهيئة التفتيش المركزي وإدارة المناقصات العمومية).
ثانيا: حماية الحريات العامة وحقوق الإنسان:
إذ ذكر مخيبر بمساهمته في وضع الخطة الوطنية لحقوق الإنسان المتعلقة بـ 22 موضوع ذات اولوية، فاخر في إقرار قوانين الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان المتضمنة اللجنة الخاصة بالوقاية من التعذيب والتشدد في تجريم اطلاق الرصاص في الهواء والتشدد في معاقبة التعذيب، وتشجيع المرأة المتزوجة للترشح للإنتخابات البلدية في بلدة قيدها الأصلي. بالإضافة إلى اقتراح القانون الذي قدمه بشأن حقوق ذوي المفقودين والذي أقرته لجنة الإدارة والعدل. كما يذكر اقتراح قانون جديد للإعلام أعده بالتعاون مع جمعية "مهارات". يضاف إلى ذلك اقتراح قانون لحماية القاصرات من الزواج المبكر وآخر لتجريم التحرش الجنسي والإساءة العنصرية (أحيل الى الهيئة العامة).
ثالثا: حماية البيئة والسهر على حسن ادارة النفايات:
هنا، ذكر مخيبر مشروعي قانون إدارة النفايات والمحميات والمناطق الطبيعية.
رابعا: تطوير مؤسسات الدولة المدنية الديمقراطية الفعالة:
هنا أشار مخيبر إلى مساهمته في مناقشة اقتراح قانون اللامركزية الإدارية الموسعة فضلا عن المشروع الذي تقدم به لتعديل النظام الداخلي لمجلس النواب، كما سبق بيانه.
بالطبع تعرض مخيبر لانتقادات بعض منظمات المجتمع المدني على خلفية بعض القوانين التي وافق عليها كقانون تحرير الإيجارات القديمة أو بعض القوانين المتصلة بحقوق الإنسان والتي جاءت حصيلتها أقل من طموحات هذه المنظمات كقانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري وقانون مكافحة التعذيب. يرد مخيبر على هذه الانتقادات بصعوبات العمل داخل المجلس النيابي والمعوقات الفعلية في صياغة التشريعات وتصحيح القوانين السيئة التي ترد، ومواجهة المعارضين الذين يكونون كثراً في معظم الأحيان. وبشأن قانون الإيجارات، يذكر مخيبر أنه كان من المفترض أن يصدر هذا القانون ضمن سلة من ثلاثة قوانين تراعي سياسة إسكانية هادفة
في زمن تشوه معايير الإقتراع وأساساته، لم يجد غسان مخيبر ما يكفي من أصوات المواطنين في دائرته الانتخابية لعودته إلى إستكمال ما في جعبته من اقتراحات قوانين وتشريعات. لكنها "استراحة محارب ليس إلاّ وأنا عائد بإذن الله".
*مرفق فيديو يودع فيه النائب غسان مخيبر الندوة البرلمانية لهذا الإستحقاق الإنتخابي، من دون أن ينسحب من العمل العام والسياسة.
https://bit.ly/2Iq8MXm