أن يقال إنّ اللبنانيين يعومون على المجارير، فهذا لم يعد قولًا مجازيًا، بل هو مُسجّل في تقرير رسميّ لأعلى سلطة رقابية على صرف الأموال العامة في لبنان (ديوان المحاسبة)، وهو تقرير يضاف إلى عشرات التقارير والاعتراضات والشكاوى التي حذّرت على مدار السنوات السابقة من هذه الحقيقة المرعبة. التقرير صدر في 27 شباط الماضي تحت عنوان: “إدارة منظومة الصّرف الصحّي”.
باختصار، البحر والأنهار والوديان والمزروعات ومياه الشفة والمياه الجوفية تغرق بمياه الصرف الصحي غير المعالجة، التي تنتهي في أمعائنا ورئاتنا.
وإذ تسلّم رئيس الحكومة نواف سلام، نقل عنه أنه سيقرأ التقرير، ليبني على الشيء مقتضاه. وهو عندما ينتهي من قراءته سيكتشف أن كل دقيقة إضافية تحمل معها المزيد من التلوث والأمراض والموت.
خلاصة التقرير أنه تمّ صرف ما يعادل مليار دولار على إنشاء وتركيب محطات تكرير لمياه الصرف الصحي، من دون أي نتيجة إيجابية تُذكر، مقابل مئات النتائج السلبية التي يعرفها كل المعنيين بالقطاع.
قبل الغوص في التقرير، مضمونه وتوصياته، لا بد من الإشارة إلى أن منظومة الصرف الصحي تتألف من:
- شبكات تجميع المياه المبتذلة التي يفترض أن تتم بطريقة تضمن تدفق المياه بعد فصلها من شبكات تصريف مياه الأمطار والمياه الصناعية لمنع التلوث والانسدادات.
- محطات الضخ التي تستخدم لرفع المياه المبتذلة من المناطق المنخفضة إلى محطات التكرير.
- محطات التكرير هي العنصر الأساسي في منظومة الصرف الصحي حيث يتم فيها معالجة المياه المبتذلة.
- المصبات البحرية تستخدم لتصريف المياه بعد معالجتها إلى البحر ويجب أن تصمم بطريقة تراعي المعايير البيئية الصارمة لضمان عدم تلوث البيئة البحرية.
أما الجهات التي تتولى، من الناحية القانونية، إدارة هذا القطاع، فهي: وزارة الطاقة والمياه، مؤسسات المياه، البلديات، اتّحادات البلديّات والمصلحة الوطنية لنهر الليطاني. كذلك لا يمكن التقليل من دور وزارات أخرى مثل الأشغال والبيئة والصناعة والزراعة.
ومقابل هذه الجهات المعنية مباشرة أو غير مباشرة بالقطاع، اضطلع مجلس الإنماء والإعمار بدور رئيسي في تلك المنظومة، بعدما كلّفه مجلس الوزراء بإنشاء وتشغيل وصيانة محطات التكرير لصالح مؤسسات المياه. فكانت النتيجة تنفيذه 25 محطة تكرير في مختلف المناطق اللبنانية، ما بين 2001 و2020، بكلفة إجمالية بلغت 763.5 مليون دولار، يضاف إليها 43.5 مليون دولار كلفة صيانة لبعض هذه المحطات.
الملاحظة الأولى التي تطرق لها الديوان تتعلق بعمل مجلس الإنماء والإعمار، الذي لم يضِئ، بعد إنجازه دراسات الجدوى، على ضرورة تنفيذ شبكات تصريف مياه الأمطار بهدف الحدّ من مخاطر الفيضانات ومنع تدفق مياه الأمطار والمخلّفات الصناعية إلى محطات المعالجة. وهو أمر يشير، بحسب الديوان، إلى “قصور في التخطيط والتنسيق، فضلاً عن عدم اعتماد استراتيجية شاملة ومدروسة تراعي الأسس السليمة لإدارة مياه الأمطار”.
محطّات تكرير مع وقف التنفيذ
بحسب التقرير، يتبين أن ديوان المحاسبة دقق بوضع كل محطات التكرير المنجزة، فتوزّعت النتائج كالتالي: أغلب هذه المحطات لا تعمل، وبعضها لم يعدْ بالإمكان تشغيله بعد سنوات من الإهمال الذي أتلفها، وبعضها الأخر أنشئ من دون دراسة جدوى فعالة، فتبين أنه لا يمكن تشغيله، أما معظم المحطات العاملة، فتعمل بالحد الأدنى، أو بما يسمى التكرير الأولي (نزع الشوائب من المياه وضخها إلى المصب البحري دون أي معالجة). من دون أن ننسى المحطات التي اختفت من الوجود بعدما سُرقت وبيعت حديداً.
فيما يلي وضع عيّنة من المحطات ووضعها:
- محطة صور، أنجزت في العام 2013 بكلفة وصلت إلى 35 مليون دولار، إلا أنها لم توضع في الخدمة بسبب عدم وصول المياه المبتذلة، وتم تكليف المتعهّد بالصيانة الوقائية منذ العام 2013 وحتى العام 2019.
- محطة الجيّة، أنجزت في العام 2006 وقام المتعهد بأعمال الحراسة والصيانة الوقائية لغاية العام 2014 بانتظار استكمال شبكات الصرف الصحي التي تؤدي إلى المحطة. ويتم منذ ذلك الحين تشغيل قسم التكرير التمهيدي، أي أن المحطة لا تزال غير قادرة على العمل بالرغم من الأموال التي صرفت عليها والتي وصلت إلى 18 مليون دولار في ذلك الوقت.
- محطة إيعات، أنجزت في العام 2001، كذلك قام المتعهد بأعمال الحراسة والصيانة الوقائية لغاية العام 2006 بسبب عدم استكمال الشبكات اللازمة لصرف المياه المبتذلة. وقد وصف الديوان ما حصل بالتقصير المرتبط بنقص الخبرة والكفاءة وسوء الادارة.
- محطة اليمونة، خارج الخدمة بسبب موقعها الجغرافي غير الملائم وقدرة استيعابها غير الكافية لعدد السكان، فضلاً عن وجود تعديات على الخطوط.
- خط تجميع وتصريف المياه المبتذلة للقسم الساحلي الجنوبي لبيروت (كارلتون – الغدير): أنجز المشروع في العام 2014 ولم تجر عملية الاستلام إلى العام 2020، علماً أنه تعذّر المباشرة في إنجاز محطّات الضخ في الوقت المحدد بسبب صعوبة استملاك المواقع والتعديات على الأملاك العامة ورفض الأهالي أو السلطات المحلية وفيضانات المياه، وعلى الرغم من تأثير هذه التحديات على تنفيذ المشروع، إلا أنها لا تنفي وجود ضعف في التخطيط في مرحلة التصميم والذي انعكس تأخيراً في التنفيذ وتجاوزاً للتكليف وتغييراً في التصميم. وهذا كله يعود إلى عدم وجود تقييم كاف لمخاطر المشروع وعدم اتخاذ خطوات كافية للتخفيف من هذه المخاطر، وعدم اتباع مبادئ الحوكمة الرشيدة وسوء إدارة استعمال المال العام.
بالنتيجة، كما يتبين من التقرير فإن معظم المحطات كان يجرى لها صيانات وقائية فقط لحمايتها من التلف، إلا أن هذه العملية توقفت، في نهاية العام 2021 بسبب عدم توفر الاعتمادات لتمويل عقود الصيانة والتشغيل، واكتفى المقاولون بالتواجد في المحطات لتأمين سلامتها.
خلال إعداد التقرير، أبلغ مجلس الإنماء والإعمار ديوان المحاسبة أن القيمة الإجمالية لمحطات التكرير التي بقيت خارج الخدمة بانتظار الانتهاء من تنفيذ الشبكات الصرف الصحي تصل إلى 194 مليون دولار، فيما بلغت كلفة الصيانة الوقائية 9 ملايين دولار، علماً أنه لو لم تُصرف هذه المبالغ الإضافية لكانت محطات التكرير في وضع لا يسمح بإعادة تشغيلها أسوة بعشرات محطات التكرير التي تم تنفيذها في لبنان من قبل البلديات وغيرها من المنظمات غير الحكومية.
أما المحطات التي استلمتها مؤسسات المياه، فبقي عددها محدوداً جداً وذلك بسبب عدم قدرتها على تأمين الموارد اللازمة لصيانتها وتشغيلها. كما واجهت هذه المؤسسات بعد استلامها عدداً من المحطات تحديات عديدة حالت دون تشغيلها بكفاءة وفاعلية، ومن هذه التحديات:
- عدم وجود بنية تحتية متكاملة لشبكات الصرف الصحي، مثل وجود محطات تكرير بدون شبكات مجاري، أو وجود شبكات مجاري من دون محطات.
- عدم توفّر معلومات كافية بشأن زيادة عدد السكان، وبالتالي النمو السكاني.
- عدم تحديد مواقع المصانع الموجودة وانعدام البيانات التي تكشف كمّيات وأنواع النفايات والمياه المبتذلة الناتجة عنها.
- التداخل بين شبكة الأمطار وشبكة الصرف الصحي، مما يتسبب بزيادة الضغط على المحطة في فترة هطول الأمطار.
- التعديات على الشبكة من قبل المصانع والمستشفيات، والافتقار إلى المتطلبات الأساسية للتشغيل، مثل الكهرباء والفيول وقطع الغيار.
- عدم وجود الموارد البشرية المتخصصة وعدم وجود التمويل اللازم للتشغيل. الأمر نفسه يتكرر في كل المناطق، حيث تعمل محطات قليلة بشكل منتظم، فيما أغلبها يتم تشغيلها أولياً.
في بيروت، وهي الأكثر كثافة بالسكان، فتقتصر منظومة الصرف الصحي فيها على محطة تكرير واحدة، (محطة الغدير) و8 محطات رفع (خلدة، الدامور، الناعمة، كارلتون، السلطان ابراهيم، جدرا، الوردانية، الجية)، البعض منها يعمل والآخر خارج الخدمة. أما بالنسبة لمحطة الغدير، فبالرغم من أنها المحطة الوحيدة لمعالجة المياه المبتذلة في بيروت وضواحيها، إلا أنها لا زالت في مرحلة التكرير الأولي. كذلك يوجد 8 محطات رفع في شمال بيروت – ساحل المتن وجونيه وهي جميعها خارج الخدمة بانتظار تنفيذ محطة تكرير برج حمود – الدورة.
باختصار، يُحدّد التقرير المعوّقات التي تواجه مؤسسات المياه في تشغيل وصيانة محطات التكرير، والتي تحول عملياً دون حماية البيئة والصحة والعامة وتحسين نوعية المياه وتعزيز التنمية المستدامة.
أما أبرز هذه التحديات فهي:
- تهالك البنية التحتية،.
- اختلاط شبكات الصرف الصحي والمياه العادمة.
- النقص الحاد في التمويل.
- نقص الخبرات والكفاءات البشرية المتخصصة.
- صعوبة الالتزام بالمعايير البيئية المعتمدة دولياً وعدم القدرة على التكيّف مع المتغيّرات المناخية.
- نقص التخطيط وسوء الإدارة، فضلاً عن غياب الوعي البيئي (إلقاء النفايات من المصانع والمسالخ والمطاعم والمستشفيات في شبكات الصرف الصحي).
- عدم اضطلاع الجهات المعنية بمسؤولياتها.
مجلسا النواب والوزراء: هل يتحرّكان؟
في توصياته، ركز الديوان على الآليات الواجب اعتمادها من قبل كافة الأطراف في مجال إدارة منظومة المياه وهذا أبرزها:
بالنسبة لوزارة الطاقة والمياه:
- إعداد دراسات جدوى شاملة ودقيقة لأنظمة الصرف الصحي.
- إنشاء لجنة تقييم أداء المؤسسات العامة.
- إنجاز مشاريع الصرف الصحي قيد التنفيذ وتشغيل محطات التكرير الحالية قبل البدء بإنشاء محطات جديدة.
- وضع آلية تبيّن أصول التعاون مع مجلس الإنماء والإعمار، وكذلك مع البلديات ومؤسسات المياه، خاصة لجهة استلام محطات التكرير المنجزة وتشغيلها وفق الأصول.
- تعزيز قدرات الجهات المسؤولية عن إدارة مشاريع محطات التكرير عبر التدريب المستمر وتطوير المهارات.
- ضرورة متابعة وزارة الطاقة لمسألة إنشاء وحدة إدارية ضمن هيكليتها، خاصة بقطاع الصرف الصحي.
- وضع خطة استراتيجية وخطط تشغيلية بالتعاون مع كل الجهات المعنية لإيجاد حلول جذرية لمسألة تلوث نهر الليطاني.
بالنسبة لمؤسسات المياه
- تدريب الموظفين لتحسين مهاراتهم ورفع كفاءاتهم.
- تحسين الحوكمة المالية عن طريق تحسين الجباية وتطبيق التعرفة المتدرجة.
- تعزيز مشاركة القطاع الخاص في مشاريع الصرف الصحي.
- إعادة استخدام المياه المعالجة للري والاستخدامات الصناعية الأخرى.
- تطبيق معايير صارمة لحماية جودة المياه.
- فرض عقوبات زاجرة بحق كل من يتسبب بتلوث مصادر المياه وتطبيق مبدأ الملوّث يدفع.
لجهة البلديات:
- وجوب التقيد بالاستراتيجية المعتمدة من قبل وزارة الطاقة، من دون إغفال مسألة التعاون الفعّال مع مجلس الإنماء والإعمار. وكذلك مع مؤسسات المياه عبر تأليف فرق عمل فنية متخصصة لإدارة المحطات وتشغيلها وصيانتها.
لجهة مجلس الإنماء والإعمار
بعدما تبين أن دراسات الجدوى أغفلت مسائل في غاية الأهمية، لاسيما لجهة اختيار الموقع الجغرافي للمحطة، وعدم أخذ أراء المعنيين بمن فيهم السكان المحليين، الأمر الذي تسبب بالتأخر في التنفيذ وعدم تحقيق الغاية المنشودة من إنشاء محطات التكرير. وبالتالي ينبغي دراسة مواقع إنشاء محطة تكرير، تقييم جودة البنية التحتية الموجودة، دراسة الموقع الجغرافي والأخذ بعين الاعتبار مدى ملاءة تضاريس الموقع وشبكات الصرف الصحي وخطوط الكهرباء، دراسة حجم التأثير البيئي.
لكن من يضمن تطبيق هذه التوصيات؟
من جهة الديوان، طلبت اللجنة الخاصة إيداع نسخة عن التقرير لدى الغرفة المعنية في الديوان تمهيداً لاتخاذ الإجراءات المناسبة بشأنها ومتابعتها وفق الأصول النظامية والقانونية.
بالنسبة للحكومة، وعد رئيس الحكومة بدرس الملف تمهيداً لإيجاد الحلول له، كما سبق ذكره، علماً أن هذا الملف يبدو من الأولويات التي تسبق أي أولوية أخرى، خاصة أنها تتعلق بحياة الناس وصحتهم ومستقبلهم.
يبقى مجلس النواب، الذي يفترض بدوره أن يتبنى الملف، مع الإشارة إلى أن النائبة حليمة قعقور كانت أعدت في العام 2022 عريضة نيابية وقّع عليها عدد كبير من النواب طلبت من خلالها تشكيل لجنة تحقيق برلمانية بموضوع مشاكل الصرف الصحي ومحطات التكرير المنشأة على امتداد لبنان، والقروض التي تم الاستحصال عليها والأموال التي دفعت لإنشاء هذه المحطات، في مقابل عدم تشغيلها وعدم الاستفادة منها. ما يؤشّر، بحسب الرسالة الموجّهة إلى رئيس المجلس، إلى وجود شبهة هدر مال عام. فهل حان موعد تشكيل هذه اللجنة، وهل سيستمر التغاضي عن ملف بهذه الخطورة، حتى بعد تقرير الديوان؟