عَ مرفأ العدالة: جدار الإفلات من العقاب وما بعده


2022-08-06    |   

عَ مرفأ العدالة: جدار الإفلات من العقاب وما بعده
الرسم في الغلاف لعلي نجدي

لم تنقضِ أشهرٌ على بدء التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت حتى برزتْ مسألة الحصانات كعائق أمام ملاحقة العديد من المُشتبه بهم. وفيما أنّها ليست المرة الأولى التي يبرزْ فيها خطاب مماثل[1]، إلّا أنّها المرّة الأولى التي يرتبط فيها هذا الخطاب بشكل خاصّ بدور قضائيّ فاعل لتجاوزها. وفي حين برزت[2] مسألة الحصانات في هذه القضية للمرّة الأولى تبعاً لقرارات المحقق العدلي الأوّل في هذه القضية فادي صوّان الصادرة في 10 كانون الأوّل 2020 بملاحقة رئيس حكومة تصريف الأعمال آنذاك حسّان دياب وعدد من الوزراء السابقين، برزتْ مجدداً بشكلٍ أقوى ولمدة أطول ولا تزال مستمرة حتى الآن ابتداءً من 2 تموز 2021 تبعاً لقرارات المحقّق العدلي الحالي طارق بيطار.

وبفعل جسامة تفجير المرفأ والاهتمام الواسع فيه، شكّلت هذه القرارات والتفاعلات الكثيرة حولها مادّة إعلامية نشطة ذات أبعاد بيداغوجية فائقة الأهمية حول نظام الإفلات من العقاب ومقوّمات وجوده واستمراره. وقد بلغ هذا التفاعل أوجه مع السّخط العام ضدّ العريضة التي وقّعها قرابة 30 نائباً لتهريب دياب وأربعة وزراء سابقين (نسمّيهم من الآن فصاعداً “الوزراء المدعى عليهم”) من قبضة المحقّق العدلي وتظاهُرة 4 آب 2021 الحاشدة دعماً لضحايا التفجير ولمَسار التحقيق. وعليه، بدَا رهان[3] “المفكرة القانونية” على أهمية تولّي القضاء الوطني التحقيق في هذه الجريمة، بالنظر إلى كونه الطريق الأكثر جدوى لتطوير منظومة العدالة وبناء رأي عامّ مؤيّد لها، وكأنه في صدد إنتاج ثماره.

إلّا أنّه، سرعان ما استشعرتْ القوى المتضرّرة من التحقيق محدوديّة استراتيجيتها في الدفاع عن منظومة الحصانات، فانتقلتْ بشكل تدريجي ولكن ممنهج وواضح إلى مرحلة الهجوم على المحقّق العدليّ بهدف إبعاده. وإذ باشرتْ استراتيجيتها الهجومية بفبركة ارتياب في هذا الأخير في الخطاب العامّ، اعتمدت بعد ذلك وسائل عملية شتّى لكفّ يده، وهي وسائل لم تتوقف عند اللجوء إلى المحاكم بل شملتْ مجموعة من الوسائل الضاغطة التي تعكس توجّها لفرض ما تراه عادلاً أو بكلمة أخرى عدالتها الخاصّة. وقد بلغتْ هذه المساعي أقصاها مع تعطيل الحكومة في ظلّ أسوأ أزمة يعيشها لبنان إلى حين تحقيق غايتها المنشودة. بل أنّ الأمور بدتْ كأنّ ثمّة قوى أعلنتْ حرباً مفتوحة وتصاعدية على المحقّق العدلي، مُبيحة لنفسِها استخدام ما تراه مناسباً لإزاحتِه.   

وإذ منيَتْ هذه القوى بفشل ذريع في إقناع الرأي العام بسدادة موقفها بشأن الحصانات، نجحتْ في المقابل استراتيجيتها الهجومية وحملات التّشكيك السياسيّة والإعلاميّة بشأن أداء المحقّق العدلي بيطار وما استتبعَها من ردود أفعالٍ سياسية، في تحويل المشكلة من مشكلة حصانات وإفلات من العقاب إلى مشكلة أداء القاضي بيطار ومشروعيته بدرجة كبيرة. فإذا بالنقاش الذي نشأ عن هذه القضية حول مدى مشروعية الحصانات وتأثيرها السلبي على المنظومة الحقوقية برمّتها (وهي مسألة حيوية لتجاوز نظام الإفلات من العقاب المدمّر) ينزلق نحو زاروب “أداء بيطار”، وهو زاروب سرعان ما توسّع وتحوّلت إليه الأضواء بفعل نفوذ سالكيه والأساليب التي استخدمُوها. وقد أدّى ذلك إلى تحويل النقاش من نقاش مبدئيّ حيويّ بشأن تمكين القضاء الوطني من أداء دوره في الجرائم الكبرى (وهو شرط لتأسيس نظام عدالة قائم على المساواة) إلى نقاش ظرفيّ محوره مدى انخراط بيطار عن قصد أو غير قصد في خدمة مخطّطات فئوية (وبخاصّة ضدّ المقاومة وحزب الله وحلفائه)، مع ما يستتبع ذلك من استدعاء للعصبيّات السياسية والطائفية (مع وضدّ). ومن شأن هذا التحوّل أن يُفقِد القضية وضوحها لتنتهي كما انتهتْ إليه قضايا حقوقية عدّة في وحول التّسييس والتّطييف. ففي هذه الحالة، يصبح من غير الممكن تكوين رأي عامّ حاسم في اتجاه أو آخر فيها على نحو يصيبها بالعُقم ويجرّدها من أيّ قدرة على إحداث أيّ تغيير إيجابي في نظام العدالة، من دون الحديث عن خطورة تحوّلها إلى مناسبة جديدة للاحتراب وإراقة الدمّ كما حصل في حادثة الطيّونة.

وما يؤكّد هذه المخاوف هو أنّ التشكيك في أداء القاضي اقترن بانتهاج أساليب غالباً ما استُخدمتْ لتعطيل المحاسبة وتكريس نظام الإفلات من العقاب. ومن أخطر هذه الأساليب، استدعاء مفهوم المقامات التي لا يجوز المسّ بها (وهو مفهوم مناقض لمبدأ المساواة) أو التذرّع المنتظم بالاستهداف والاستنسابيّة تمهيداً لقلب الأدوار في اتّجاه تحويل القضاء إلى معتدٍ وتصوير المشتبه بهم كضحايا، فضلاً عن التّطييف واستدعاء العصبية من دون الحديث عن الضغوط المُستخدمة لإرغام القاضي على التنحّي أو إرغام كلّ ذي سلطة على الإسهام في تنحيته. وكلّها أساليب تمكّن، في حال التسليم بمشروعيّتها ومقبوليتها، أيّ صاحب نفوذ من استخدامها لتعطيل العمل القضائي وضمان إفلاته من العقاب. وبكلمة أخرى، وبمَعزل عن نوايا هذه القوى أو سدادة أيّ من أوجه انتقادها للمحقّق العدلي (وهي أمور نتحفّظ بشأنها)، فإنّ من شأن الأساليب المُستخدمة منها أن تُعمِّق من مشاكل العدالة وأن تجعل القضاء (أي قضاء) عاجزاً عن الاضطلاع بمسؤولياته التي انوجد من أجلها في هذه القضية أو في أي قضية. وما يعزّز هذه القراءة هو أنّ القوى المناوئة لبيطار لم تقدّم أيّة رؤية لكيفية تطوير الأداء القضائي وتحصينه وعملياً لكيفية انتظام سير التحقيق في هذه القضية أو في أيّ قضية في ظلّ تكريس ممارسات مماثلة، فجاء خطابها خالياً من أيّ أفق. وقد تجلّى انسداد الأفق في لامبالاة القوى المناوئة للتحقيق إزاء تجميده بالكامل.  

في ظلّ واقع كهذا، يكتسي توثيق هذه الأساليب وتحليلها أهمية خاصّة لإعادة الوضوح إلى القضية ولفهمٍ أفضل لمنظومة الإفلات من العقاب والأسس التي تقوم عليها، وهو فهمٌ ضروريّ من أجل إنضاج النّقاش العامّ وتشذيبِه من أبعاده التي غالباً ما جعلتْه وتجعله عقيماً وسلبياً… بل تقسيمياً. وهو أمر ضروري ليس فقط من أجل الحقيقة والعدالة في قضية تفجير المرفأ إنما أيضاً من أجل الحقيقة والعدالة في قضايا الفساد الحاصلة طوال العقود الثلاثة الأخيرة والتي تسبّبت بانهيار اقتصادي ونقدي ومالي شبه شامل. وهذا ما نعتزم القيام به في هذه الورقة البحثية من خلال توثيق المعارك الثلاث التي رشحتْ عنها هذه القضيّة، وهي تباعاً المعركة حول الحصانات (القسم الأوّل) ومعركة تقييم أداء بيطار وحياديته أو ما نسميه معركة فبركة الارتياب بالقاضي بيطار (القسم الثاني)، انتهاء بمعركة إزاحة هذا الأخير بطريقة أو بأخرى (القسم الثالث). وهي معارك مترابطة ليس فقط لأنّ القوى المناوئة للمحقق العدلي والتي تعمل جاهدة على إزاحته هي كلّها قوى ترفض رفع الحصانات عن أيٍّ من المدّعى عليهم في هذه القضية، ولكن أيضاً من ماهية الأساليب المستخدمة والغايات المنشودة منها كما سبق بيانه.

ومن هذا المنطلق، نعلن منذ البدء أن هذه الورقة البحثية ترمي إلى إعادة طرح القضية في عمقها (وهي قضية الإفلات من العقاب وما يشوبها من أزمة في العلاقة بين القضاء والسياسي أو بشكل أعم القضاء وكلّ صاحب نفوذ)، من دون الانجرار إلى مناقشة المآخذ على قرارات المحقق العدلي. فأن يكون بيطار ممتازاً أو سيئاً يصبح مسألة لا معنى للتباحث في شأنها في ظلّ انسداد أفق المحاسبة وطغيان الأساليب التي من شأنها أن تدمّر أي عمل قضائي بمعزل عن مدى صوابيّته.

وبكلمة أخرى، ترمي هذه الورقة البحثية إلى إعادة النقاش إلى مساره الصحيح، أملاً بارتقاء التخاطب في هذه القضية من تخاطب مشحون بالفئويّة وحِسابات الربح والخسارة إلى خطاب يتطلّع إلى فتح آفاق ملهمة من شأنها أن تقودنا إلى تحقيق قفزة بتنا بأمسّ الحاجة إليها على صعيد قيم العدالة وأداء المؤسسات.      

لقراءة وتحميل الورقة البحثيّة: إضغط هنا

لقراءة وتحميل الورقة البحثيّة باللغة الانكليزية: من هنا


[1] برز خطاب لا يقل صخباً بشأن الحصانات في 1999 و2000 في خضمّ انخراط عهد الرئيس السابق إميل لحود في بداياته في عدد من الملاحقات على خلفية اتهامات بالفساد.

[2] نزار صاغية، وانفتحتْ معركة “حصانة الوزراء”… خطوة هامّة تهدّدها سياسات “الإفلات من العقاب”، المفكرة القانونية، 13/12/2020.

[3] بيان “المفكرة القانونية” بشأن مجزرة المرفأ: ليس بالمساءلة الجنائية وحدها ننصف الضّحايا، المفكرة القانونية، 7/8/2020.

انشر المقال



متوفر من خلال:

دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، قضاء ، مجزرة المرفأ ، المرصد القضائي ، محاكمة عادلة ، محاكم مدنية ، محاكم جزائية ، مؤسسات عامة ، أحزاب سياسية ، فئات مهمشة ، استقلال القضاء ، لبنان ، دراسات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني