أخرجُ في هذا الصّباح الباكر، مع مجموعة من عمّال “شركة الغراسات والبستنة” يتّجِهون لعملهم في تصليح المنشآت المائيّة التقليديّة في سفوح جبال ولاية تطاوين التّونسيّة. وهذه الشّركة الحكومية تم تأسيسها بعد احتجاجات الكامور في العام 2017، بهدف تشغيل جزء من البِطالة المستفحلة في منطقة تطاوين الصحراويّة والطّرفية المُهمّشة. وتُواجهُ هذه الشركات، التي أنشأت الدّولة عددًا منها في بعض المناطق الدّاخليّة، اتهامات بكونها شكلًا من أشكال “البطالة المُقنّعة” وأنّها “رشوة” من الدّولة لشراء السّلم الاجتماعي في تلك المناطق.
لكن بالنّسبة لهذه المجموعة، وكل عمّال الشّركة هنا في تطاوين (جنوب شرق تونس) فإن الأمر يبدو مختلفًا تمامًا. فهؤلاء العمّال يخرجون كلّ يوم للعمل بدوامٍ كامل. ويتوّزعون على مختلف المجالات، وعدد منهم تم توظيفه حتى في الإدارات الحكومية خاصة من حاملي الشهادات الجامعيّة.
وتعملُ هذه المجموعة، على استصلاح “الجُسور“ وإعداد “الطَّوابي“ في سُفوح الجبال عند مجاري الوديان والسّواقي. وهي جزء من منشآت مائيّة قديمة ابتكَرَها سكّان المنطقة منذ قرون، لمواجهة العطش واستغلال مياه الأمطار القليلة التي تتساقط في أيام معدودة من السّنة، ضمن فلسفة معمارية وفلاحيّة كاملة للتعايش مع ندرة الماء في منطقة قاحلة وجافّة.
جُغرافيا العطش
تقع ولاية تطاوين في الجنوب الشرقي التونسي، على السّفح عند منتصف السلسلة الجبليّة الطويلة الممتدة من مطماطة التونسيّة، غربًا، حتى غريان الليبية، شرقًا. وتفصلُ هذه السلسلة الجبليّة بين الظاهر الصّحراوي الممتد نحو الصحراء الإفريقية الكُبرى وبين سهل “الجفارة” المنبسط حتى سواحل البحر المتوسّط. وتتميّز منطقة الجنوب الشرقي التونسي، عُموما، بضعفُ التساقطات في معظم مواسم السّنة. وهي بحسب البيانات الحكومية “إقليم صحراوي جافّ لا تتعدى التساقطات فيه 200 مم سنويا”. وتُظهر الخرائط ذات العلاقة بنسب التساقطات أنّ هذه النّسبة هي الأضعف في البلاد، حيث تتجاوز معدّلات الأمطار في المناطق السهليّة الشماليّة الـ400 مم في السّنة، وفق البيانات ذاتها.
وبخلاف هذا المُعطَى المناخيّ الجافّ، فإنّ مشكلة ملوحة المياه الجوفيّة تمثّل مشكلة أخرى لسكّان الجنوب الشرقي التونسي. وهذا ما تُشير إليه الخبيرة الفلاحيّة روضة قفراج، حيثُ تؤكّد أنّ “ملوحة المياه تعدّ من أخطر المشاكل بالجنوب التونسي”. وهذا ما ترصده، أيضًا، حتّى المصادر القديمة ومدّونات الرحّالة القُدامى الذين مرّوا بالمنطقة، فالرحّالة أبو عبد الله التجاني في رحلته (1306 م) والمشهورة بـ“رحلة التجاني“ وهي واحدة من أهم المراجع عن تاريخ تونس في القرن الرابع عشر، يصفُ أحد آبار المنطقة بالقول “لا يستطيع أحدٌ لمائها شُربا”، ويصفُ ماء بئرٍ آخر بالقول: “لا يحمد مذاقهُ مختبرٌ، ولا يصبر لتجرّع صبره مصطبر”.[1]
تاريخيًا، وإضافة إلى مشاكل المياه هذه، واجهَت سكان المنطقة مشكلة طبيعة الأرض وصلابتها وصعوبة الحفر فيها، وهو ما يُشير إليه التجاني في رحلته التي مرّ خلالها بالمنطقة بالقول: “وقلّة آبارهم ما يعانونه في حفرها من شدّة الأرض وصلابتها حتى أنّ الرّجل ليمكث العام والعامين في حفر البئر بحسب كبرها أو صغرها”.[2] ولكلّ هذا، فإنّ الأدبيات الشعبيّة تُطلق على هذه المنطقة تسمية “بْلادْ العْطَشْ”[3].
كل هذه العوامل جَعلَت سكّان هذه المنطقة يعيشون على وقع الخوف الدّائم من العطش وحتى الجُوع بسبب فقدان الغذاء الذي توفّره الأشجار والزراعة، وهو ما كان يدفعهم، دومًا ومنذ قرون، لتجاوز “هذه المشكلة بتكثيف إنشاء عمارة لتخزين مياه الأمطار ضمانا لشرابِهم، في فساقي ومواجل، مع إيجاد طرق مَكَّنَتهم من استغلال مياه السيلان وتوزيعها حسب المتطلبات الزراعيّة”. [4]
عِمارة تقاوم نُدرة الماء
دفعت جغرافيا العطش، سكّان المنطقة ومنذ القدم إلى ابتكار طرق للتعامل مع ندرة الماء من خلال إنشاء عمارة مائيّة تَضمن تخزين مياه الأمطار القليلة من أجل الشّرب. وكذلك تصريف هذه المياه عبر الأودية والسّواقي والشِّعاب في سفوح الجبال الممتدة على كامل المنطقة، بهدف استغلالها في الفلاحة والسقي وغراسة الأشجار المثمرة، خاصة الزيتون والتين والنّخيل. لذلك كانت هذه العمارة تنقسمُ إلى فرعين رئيسيين: عمارة حصاد المياه والتخزين أولاً، وعمارة تصريف المياه واستغلالها في الزراعة، ثانيًا.
ولاستغلاَل هذه المياه بالشكل الأفضل، أنشأَ سكان المنطقة ما يعرف بالمواجل والفساقي، وهي منشآت مائية موجّهة لخزن مياه الأمطار. وتنتشر هذه الطرق أيضًا في عدد من المدن التونسية الأخرى، إذ يتم تصريف مياه الأمطار نحوها من خلال أسطح المنازل.
والمواجل والفساقي هي منشآت يتمّ حفرها في الأرض بعمق متفاوت من الأمتار بحسب القدرة. ففي حين تأخذ المواجل شكلاً اسطوانيًا، فإنّ الفساقي تأخذ شكل غرفٍ مرّبعة تحت الأرض. تستقبل هذه المنشآت مياه السيول التي يتمّ توجيهها عبر سواقٍ صغيرة تُسمّى في اللهجة المحليّة “الحمّالة” (لأنّها تحمل المياه إلى داخل المنشأة)، لتترسّب بعد ذلك في حفرة أولى تُسمّى “القنجورة” التي تُساهم في تصفية المياه من الأتربة والشوائب والأوساخ، ثمّ تعبر إلى داخل المنشأة. وعند الامتلاء تبدأ المياه من الخروج قريبًا من السّطح عبر مخرج يُسمّى “النفّاسة”، لأنّه يُنفّس الماجل أو الفسقيّة عند الامتلاء.
تضمن هذه المنشآت توفير مياه مخزّنة لفترات طويلة قد تمتدّ لسنوات عندما يطول انحباس الأمطار أو سنوات “الزَمّة” مثلما تُسَمّى في اللهجة المحليّة. ما يُوفّر بالتالي تأمينًا لمياه الشّرب والطّبخ، وحتى سقي الحيوانات، حيث تُخزّن هذه المنشآت آلاف المكعبات من المياه العذبة.
قديمًا، كان يتمّ إنشاء هذه المنشآت باستعمال الحجارة ومادة الجبس. أما في العقود الأخيرة فقد أصبحت عمليّة تتمّ في الغالب باستعمال مادة الإسمنت. ومعَ منشآت التخزين لمياه الأمطار، ابتكر سكّان المنطقة، عمارة أخرى تخصُّ تصريف هذه المياه للسقي والفلاحة وتهيئة التّربة. هذه المنشآت هي الجسور والطوابي. والتي سعى من خلالها السكّان لاستغلال سَيَلان مياه التساقطات للزراعة والتشجير. والطّوابي هي سدود رمليّة تُبني في مجاري الأودية والسواقي. وتَسمح هذه الطوابي بتجميع كميّة من مياه السيلان، التي تترسّب بعد ذلك محتفظة بموادها العضويّة الغنيّة مُشكلّة نوعًا من التّربة الذي يسمح بغراسة الأشجار وسقيها. تلك المساحة من التّربة الغنيّة المغروسة خلف الطّوابي (جمع طابية باللّهجة المحلّية) تُشكّل ما يُسمّى في اللهجة المحليّة بـ“الجِسِرْ” (جمع جُسور). ويشير الباحث مسطاري بوكثير إلى أنّ “تهيئة ثلاثين طابية يمكن أن توفر مساحة فلاحية تقدر بـ1,7هكتار، بمعنى أن كل طابية توفر600م”.
تنتشر هذه الجسور، التي تُشكّلها الطوابي، بكثافة في الجنوب الشرقي التونسي ومنذ قرون، وهو ما رصدهُ الرحّالة التجاني في كتابه قائلاً: “وقوّة اعتمادهم في ري الأرض إنما هو على ما ينحدرُ من سيول تلك الجبال في وقت الأمطار…تُحدق بمزارعهم أحداق السور أو السوار”[5].
هذه العمارة المائيّة المتماهية مع مجالها الجغرافي، الباحثة عن تجاوز واقع العطش والجفاف الكامن في المنطقة، تخضعُ لقوانين عُرفيّة صارمة لا يُمكن تجاوزها، تُنظّم أدقّ التفاصيل في الإنشاء ومهارات التشييد والصيانة وتحديد المواضع والمحافظة على البيئة والتقاسم العادل لمياه السيلان. هذه القوانين صاغها أحد علماء المنطقة منذ قرون، وهو أبو العباس الفُرسطائي، في مدونة كاملة أسماها “القسمة وأصول الأرضين“. وأبو العبّاس أحمد الفرسطائي هو من علماء القرن الخامس هجري في جنوب إفريقيا،[6]وهو فقيه إباضي وعالم دين غزير الإنتاج في مختلف المجالات الفقهيّة والمِعماريّة، ولا تزال هذه الأعراف سارية إلى اليوم في كلّ ما يتعلّق بهذه المنشآت، ويتمّ الرّجوع إليه حتّى قضائيًا في حالات التنازع أو تحديد الملكيّة.
وأهميّة الكتاب، هو أنّه يُعتبر من أقدم كتب قوانين المياه في المغرب العربي، بحسب ما يشير المؤرخ محمّد حسن[7]. كما يعتبرُ مرجعًا رئيسيًا في كل ما يخصّ هذه المواجل والفساقي والطوابي والجسور وكل ما يتعلّق بقوانينها الفقهية والعُرفيّة وحتّى التقنيّة. فهو يُنظّم كيفية إنشاء هذه المنشآت وقوانين تشييدها وطرق التعامل معها. إذ أن مواضع المواجل والفساقي تخضعُ لتحديد دقيق بشكل لا يضرّ بتدفّق المياه أو توجيهها بشكل يمنع وصولها لمن هو في المواضع السفلى للمنحدر، وكذلك بناء الطوابي وتشييد الجسور تخضعُ بدورها لقواعد كثيرة جدًا تُعنى بطرق جلب الماء وتوجيهِه وتنفيس المخارج، عبر ما يُسمّى بـ”المنفس”، لضمان تدفّق الماء لمن هم في أسفل السواقي، كي لا يستأثر أي طرف بالماء لوحده. كما تضبِط هذه المدونّة أشكال العقوبات والتعويضات في كل ما يخصّ الأضرار التي يُلحِقُها سوء توظيف هذه المنشآت بمُحيطها وبالغراسات وبمنشآت الجيران. إذ يحتوي الكتاب على “قوانين وأعراف تُفصّل نزاعات الناس في كل ما يهم معاملاتهم وشركتهم وقسمتهم بناءً على حقوقهم وواجباتهم، وكذلك تنظم المجالين الريفي والحضري”[8].
وتؤكّد الدراسات على أنّ هذه العمارة، بفَرعيها، تعود إلى عدّة قرون. وتُشير معظمها إلى أنها تعود إلى العهد الروماني[9]. كما تتشابه مع عدّة منشآت مائيّة في مناطق عربيّة أخرى، حيث يشير الباحث علي الثابتي في رسالته للدكتوراه أنّ المنافس (جمع منفس) التي تُشكّل جزءًا من عمارة الجُسور في الجنوب الشّرقي التونسي “تُشبهُ في الأغراض التي لأجلها أنشئت المنشآت الفلاحيّة البيزنطيّة بفلسطين وتحديدا بنابلس”.[10]
عمارة إيكولوجية في مواجهة التصحّر والتغيّر المناخي
يُمكِن القول أنّ هذه العِمارة “أيكولوجيّة” بصفة مطلقة. فهي تعتمد على مواد إنشائية طبيعية بنسبة كاملة. كما تعتمدُ على مواد من نفس المجال الطبيعي والجغرافي (حجارة، جبس، خشب نخيل). ورغم دخول الأسمنت كمادة صناعيّة على عمارة التخزين، حيث أصبح يُعتمدُ عليه بشكلٍ كبير في تغليف المواجل والفساقي وتسقيفها، غير أنّ المهارات التقليديّة في استعمال الجبس والأخشاب ما تزال متوارثة.
كما أنّ هذه العمارة تُساهم بشكل كبير في مقاومة التصحّر التي تثيرهُ التغيرات المناخيّة. وفي تونس بالذّات، تؤكّد تقديرات وزارة البيئة أنّ “الدراسات حول تقييم وضعية التصحر بالبلاد التونسية، تشير إلى أن 74% من الأراضي هي أراضٍ هشّة جرّاء عدة عوامل منها الانجراف المائي والتملّح والرعي الجائر والجفاف”.
في المقابل، تمثّل هذه المنشآت، خاصة الجسور والطوابي، عوامل مساعدة، وشكلا ناجعا في مقاومة التصحّر وعريّة التربة. وهو ما تؤكّده الدراسات الرسمية والحكومية التي تُصدرها وزارة البيئة التونسية، والتي توصي بتوسيع استعمال هذه المنشآت في مناطق أخرى من البلاد، حيث تؤكّد على أن تقنية الجسور أثبتت “نجاعتها في الحفاظ على التربة ومقاومة التعرية، لذلك فهي تستحقُّ أن تطبّقُ في مناطق أخرى ذات المناخ الجاف وشبه الجاف”. وتقدّم الدّولة التّونسيّة تشجيعات للقرويين والفلاحين في جنوب تونس لتشييد هذه المنشآت، في شكل منحٍ ماليّة كتعويض عن نسبة من تكاليف الإنشاء خاصة في المناطق البعيدة والتي تفتقد للتغطيّة بشبكة الحنفيات ومياه الآبار.
وتعيش تونس منذ سنوات على وقع أزمة مياه، ممّا دفع بالسلطات إلى اتّخاذ إجراءات تتعلّق بتوزيع حصص المياه ومنع استعمال المياه الموجّهة للشّرب التي توزّعها الشركة الحكوميّة في عدّة أنشطة من بينها الأنشطة الفلاحيّة وسقي المساحات الخضراء العموميّة. وتكشف تقارير الخبراء عن الوضع المائي الخطير في تونس، التي أشارت بيانات معهد الموارد العالمية لسنة 2023، أنّها من بين خمسة وعشرين دولة تُعاني من الإجهاد المائي. لذلك يُوصي المرصد الوطني للمياه، وهو منظّمة غير حكوميّة ، في تقرير له حول الحلول المقترحة لأزمة المياه في البلاد بـ””تحفيز السكان ماديا وتقنيا من أجل تجميع مياه الأمطار ذاتيا في شكل فسقيات أو مواجل أو غيرها من التجهيزات الفردية”.
وهذه العِمارة قابلة فعلاً، لتعميمها في مختلف المناطق، في تونس وفي الدّول الأخرى. فَعمارة المواجل والفساقي، قابلة للتشييد في كلّ المناطق الريفيّة والحضريّة، من خلال استغلال الأسطح لتجميع المياه. وقد تكون أحد أهم الحلول لمواجهة أزمة العطش التي بدأت تزحف على مختلف مناطق العالم وخاصة العالم العربي، فهي تُساعد على توفير كميات كبيرة من مياه الشّرب ذات الملوحة المنخفضة، وتخزينها لفترات زمنية طويلة ما قد يُساهم في تجاوز سنوات الجفاف وقلّة التساقطات. كما أن عمارة الجُسور والطوابي، قابلة أيضًا لتنزيلها في بيئات مشابهة، ممّا يساهم في مقاومة التصحّر وتعرية التّربة والحفاظ على الغطاء النباتي.
[1] التجاني (عبد الله)، رحلة التجاني، الدار العربية للكتاب، 1981، ص: 205.
[2] المرجع نفسه، ص: 186.
[3] chaibi (Lotfi), Le Sud-Est tunisien quelle transition et quel devenir? (ouvrage collectif sous la direction de Mongi Bourgou) , institut des régions arides, Tunisie, 2018, P279.
[4] الثابتي (علي): عمارة جبل دمّر في العهدين الوسيط والمُعاصر، أطروحة دكتوراه، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، 2016، غير منشورة، ص 764.
[5] التجاني، نفس المصدر، ص: 187.
[6] بن وزدو (الهادي) و ممو (أحمد) و حين (محمّد): قانون المياه والتهيئة المائية بجنوب افريقية في العصر الوسيط، مركز النشر الجامعي، تونس، 1999، ص 18.
[7] حسن، محمد: الجغرافيا التاريخيّة لإفريقيّة، دار الكتاب الجديد، بيروت، 2004، ص: 254.
[8] بن وزدو (الهادي) و ممو (أحمد) و حين (محمّد)، ص 18.
[9] المرجع نفسه ص: 10.
[10] الثابتي (علي)، مرجع مذكور، ص: 776.