لم ينجح الرئيس قيس سعيّد، خلال أكثر من سنة ونصف من الحكم الفردي المطلق، سوى في إقناع شرائح واسعة من الناس بتهافت مشروعه وعجزه الكامل عن مجابهة الأزمة، في مقابل مضيّه قدما في مسار هدم ما تحقّق من مكاسب. بدّد ساكن قرطاج شيئا فشيئا آمال مسانديه، حتّى سقطت حجّة المشروعيّة الشعبيّة تماما في اختبار الانتخابات التشريعيّة، التي لم يصوّت في دورتيها إلاّ عُشر الناخبين. لم تنفع الرسالة الشعبيّة القاطعة في دفعه للتراجع ولو خطوة واحدة إلى الوراء، أو لإعادة النظر في خياراته وفي مشروعه الذي يرى فيه خلاصا ليس لتونس فقط، بل للإنسانيّة جمعاء. ولم يزده تعطّل الاتّفاق مع صندوق النقد الدولي إلاّ هروبا إلى الأمام، في غياب أيّ قدرة لديه على تحسين شروط التفاوض أو إيجاد بدائل جدّية ولا حتّى على إدراك حقيقة الأزمة أصلا. لم يتبقّ لرئيس الأمر الواقع من دعائم سوى ولاء الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة، من جهة، وضعف شعبيّة المعارضات وعجزها على صياغة خارطة طريق موحّدة، من جهة أخرى. ولئن تحرّكت المياه الراكدة في الفترة الأخيرة، وتعدّدت المبادرات واللقاءات بحثا عن مخرج من هذا الوضع يعيد البلاد إلى طريق الديمقراطيّة وينقذها من شبح الانهيار، لا تزال الانقسامات وتضارب السرديّات وضبابيّة الرؤى طاغية. ولعلّ أبرز الأسئلة العمليّة المطروحة أمام الفاعلين السياسيّين والاجتماعيّين ومختلف المبادرات، هو سؤال المخرج الدستوري من هذا النفق المظلم. فإذا كان هنالك شبه إجماع على أنّ ”دستور“ سعيّد لا يمكن أن يؤسس سوى لحكم الفرد، لا يزال سؤال البديل محلّ جدل بين المعارضات السياسيّة والمدنيّة، بين فرضيّة التمسّك بدستور 2014، التي لا تزال تلاقي ممانعة من قسم من النّخب، وجنوح البعض إلى فكرة إدخال تعديلات على النصّ الجديد. جدلٌ يتداخل فيه تقييم ”عشريّة“ الانتقال الديمقراطي مع الموقف السياسي من ”25 جويلية“، فضلا عن هاجس التمايز مع بعض معارضيها بأيّ ثمن، ويختلط فيه سؤال البديل الدائم مع الرهانات العمليّة لمسار الانتقال إليه. لكنّ الجدال لم يتطوّر إلى نقاش، ولم تتبلور أسئلته بشكل واضح، ولم تناقش الحجج كما يلزم.
خارطة البدائل المطروحة
لئن كانت معارضة الانقلاب تعني، مبدئيّا، التمسّك بالشرعيّة الدستوريّة المنقلب عليها، أي بدستور 2014، فإنّ الصورة أكثر تعقيدًا في المشهد السياسي والاجتماعي التونسي. بل أنّ مواقف بعض الأطراف تطوّرت في اتّجاهات مختلفة، حتى لم يعد سهلا التمييز بين الموقف المبدئي والتموقع التكتيكي. ربما يبدو موقف جبهة الخلاص الوطني الأوضح في التمسّك بدستور 2014. إلاّ أنّ خطاب مكوّنها الأبرز، أي حركة النهضة، لم يتّسم فقط بغياب المراجعات والنقد الذاتي، ولكنّه ظلّ يتأرجح بين استعداد لتسويات قد تشمل المسألة الدستوريّة، وتمسّك بشرعيّة برلمان 2019 نفسه. كما خرجت أصواتٌ من داخلها تقترح العودة إلى الشعب عبر انتخابات رئاسيّة مبكّرة، يترشح فيها سعيّد ومعارضوه، لتحسم نتيجتها الخلاف الدستوري. أمّا خماسي الأحزاب الديمقراطية الاجتماعيّة، التي لا تتحرّج في تكييف ما أتاه سعيّد بالانقلاب، فلم يصدر عنه بعد خارطة طريق موحّدة، ولكنّه يدعو بوضوح إلى إلغاء الأمر 117 لسنة 2021 وكلّ ما ترتّب عنه، مما يعني ضمنيّا التمسّك بدستور 2014. يبقى القطب الأخير للمعارضة، وهو الدستوري الحرّ، الذي يفتخر بأنّه ”صنع 25 جويلية“، ويعلن في الوقت ذاته التصدّي لدكتاتورية سعيّد. وقد انتقلتْ زعيمته، المحامية عبير موسي، من التمسّك بدستور 2014 لنزع الشرعيّة عن سعيّد، إلى الاستناد على فصول “دستوره” الجديد كأداة لمقارعته. كما أسّست خارطة الطريق التي تقترحها على سيناريو تنقيح نصّ 2022 بالاستئناس بمشروع الهيئة الاستشاريّة، في إطار حرصها على التمايز على كلّ تقاطع ممكن مع حركة النهضة و”العشرية السوداء“. يبدو أن حزب آفاق تونس، الذي اختار على عكس بقيّة الأحزاب المعارضة، المشاركة في ”استفتاء“ 25 جويلية 2022 والتصويت بـ”لا“، يشاطر هذا التوجّه، حسب تصريحات إعلاميّة لرئيسه، وإن تبقى الأولوية بالنسبة إليه تركيز ”حكومة طوارئ اقتصاديّة“. أمّا ائتلاف صمود، الذي ساهم هو الآخر في تعبيد الطريق أمام قيس سعيّد عبر تحميل دستور 2014 وزر الأزمات السياسيّة ومساندة مساره إلى غاية 30 جوان الماضي، والذي تحوّل إلى صفّ المعارضة منذ تخلي الرئيس على مشروع اللجنة الاستشاريّة، فقد جمع إلى جانبه عددا من الأحزاب اليساريّة والشخصيّات السياسيّة، من أجل ”إيقاف مسار 25 جويلية“ مع ”رفض منظومة 24 جويلية“. جميع هذه القوى تتفق على مطلب إنهاء حكم سعيّد عبر انتخابات رئاسيّة سابقة لأوانها، إلاّ أنّ قسما منها لا يزال يرفض التمسّك بدستور 2014، بحجّة ”عدم العودة إلى منظومة 24 جويلية“.
جميع المعارضات السياسيّة، بقطع النظر عن انقساماتها، تظلّ عاجزة على قلب الطاولة على سعيّد وعلى تحريك الشارع بشكل حاسم. لذلك، يمكن اعتبار الرهان الأهمّ هو ما سينبثق عن مبادرة الرباعي المدني، المكوّن من اتحاد الشغل وهيئة المحامين ورابطة حقوق الإنسان ومنتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعيّة. فلئن كانت ”مبادرة الإنقاذ“ لا تزال في المراحل الأولى لصياغتها ولم تتّضح بعد معالمها، فإنّ التصريحات الإعلاميّة الأولى توحي بأنّ أصحابها وضعوا لأنفسهم سقفا سياسيّا، وهو ”شرعيّة الرئيس“، في مسعى للتمايز عن سرديّة الانقلاب. يبقى أنّ اختلاف التموقع السياسي بين المنظمات الأربعة، والانقسامات الداخلية لدى أهمّها، والصراع المفتوح الذي فتحه سعيّد مع الاتحاد، والتمشي المعتمد المتمثّل في تشكيل لجان من الخبراء لصياغة بدائل سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة يحمل الكثير منهم قناعات ديمقراطيّة راسخة، كلّها عوامل تؤجّل حسم التوجّه.
دستور اللاجمهوريّة، لا يَصلُح ولا يُصلح
إنّ الاعتراف ب ”دستور“ 2022، ولو كان مشروطا بتنقيحه، يعني شرعنة انقلاب سعيّد على قواعد اللعبة التي أوصلته إلى الحكم والتي أدّى اليمين على احترامها. وهو يعني قبولا بنصّ لا يعبّر إلاّ على نزوات وعُقد وفانتازمات صاحبه. لا يتعلّق الأمر فقط بنظام سياسيّ أقلّ ما يمكن أن يقال عنه أنّه رئاسويّ (بمعنى أنّه يمنح كلّ السلطة للرئيس ويجيز له التدخّل في “الوظائف” الأخرى ويحصّنه من أيّة مسؤوليّة) يمكن التفكير في إصلاحه عبر تعديل بعض الفصول. المشكل أعمق من ذلك بكثير. فالنصّ، بدءا من توطئته، هو دستور قيس سعيّد وحده، ولا يجب أن يستمرّ لحظة واحدة من بعده. هو دستور سلطانٍ جرّب السلطة المطلقة بقوّة الاستثناء والعسكر، فقرّر تحويلها وضعا دائما. وهو دستور مدرّس مغمور للقانون الدستوري، قرّر الثأر لنفسه بإعادة كتابة تاريخ البلاد. وهو دستور نبيّ حالم بفكر سياسيّ جديد سيغيّر وجه الإنسانيّة، انكشفت تناقضاته وتهافته في أوّل اختبار واقعي. فلئن قُدّ دستور 1959 على مقاس بورقيبة، وجاء دستور 1861 ممنوحا من الباي، إلاّ أنّ أيّا منهما لم يحمل طابعا شخصيّا كنصّ سعيّد. ”دستور الزمام الأحمر“ إهانة للتاريخ الدستوري للبلاد، ولشعب حلُم ذات ثورة بأن يمارس مواطنته ولا يبقى رعيّة يسوسها سلطان. فهو ساقط شكلا ومضمونا، ولا يغيّر مروره عبر الاستفتاء شيئا. ليس فقط لبطلان ما بني على باطل، أي كلّ ما تأسّس على الانقلاب على الدستور والاستفراد بالسلطة، واستغلال الحالة الاستثنائيّة لنقيض هدفها الأصلي وهو حماية النظام الدستوري. وإنّما أيضا لأنّ عمليّة الإقرار، مهما كانت ديمقراطيّة، لا تغسل عيوب مرحلة الصياغة التي كانت انفراديّة بامتياز، فضلا عن أنّ استفتاء سعيّد لم تتوفّر فيه أصلا أدنى الشروط الديمقراطيّة، بما أنّ جميع تفاصيله خضعت لإرادته وحده. أليس الاستفتاء، كما كان سعيّد نفسه يقول، أداة من أدوات الدكتاتورية المتنكّرة ؟
تنقيح هذا النصّ، وإن اقتضى ذلك تعويض معظم فصوله بمشروع الهيئة الاستشاريّة، لن يعيد له المشروعيّة المفقودة، ولن يغسل عيوبه الأصليّة، ولن يسمح بتأسيس تقاليد ديمقراطيّة، وإنما على العكس، سيكون طعنة إضافيّة في الفكرة الدستوريّة في حدّ ذاتها. فضلا عن أنّ النظام السياسي المقترح في مشروع الصادق بلعيد وأمين محفوظ يحمل هو الآخر، وإن بدرجة أقلّ، خطر الانحراف إلى الرئاسويّة. الأمر ذاته ينطبق على دستور 1959، الذي دعت بعض الأصوات إلى العودة إليه. فالنظام الرئاسي، وإن كان نظريّا نظاما ديمقراطيّا، فإنّه لم ينتج ديمقراطية مستقرّة إلا في المثال الأصلي الأمريكي، وذلك بفضل تضافر عوامل عديدة، كالمنظومة الحزبية الثنائيّة، والنظام الفدرالي، والانتخابات النصفيّة، والتقاليد السياسيّة، وغيرها. هذه النزعة الرئاسويّة، التي تدفع البعض إلى رفض خيار العودة لدستور 2014، والتي ستحكم صياغة أيّ بديل عنه، مبنيّة على تشخيص ظالم وخاطئ للمرحلة السابقة.
تشخيص الأزمة، أو أزمة التشخيص
لئن كانت عيوب دستور سعيّد لا تحتاج أيّ جهد لإبرازها، فإنّها تصبح أقبح في مرآة دستور 2014. هذا الأخير لم يصغ فقط داخل مجلس تأسيسي انبثق عن أوّل انتخابات ديمقراطيّة، حرّة وشفافة تعرفها البلاد، أشهرا قليلة بعد ثورة ضدّ الاستبداد. وإنّما كان عصارة مخاض مجتمعي عسير، شاركت فيه القوى الحيّة للبلاد، بل ساهم الشارع في حسم بعض خياراته. فهو أبعد ما يكون على أن يكون ”دستور النهضة“، صاحبة الأغلبية النسبيّة داخل المجلس، التي اضطرّت إلى التنازل في جلّ الموادّ الخلافيّة. وهو بالأخصّ، بريئ تماما من تهمة ”دستور فيلتمان“، التي روّجتها أصوات رجعيّة وتبناها جزء من اليساريّين والقوميّين. دستور 27 جانفي 2014 كان تعبيرًا على صراع مجتمعي مضن، ليس فقط بمكتسباته العديدة في مجال الحقوق والحريات وضماناتها المؤسساتيّة، بل حتى في تناقضاته. يكفي أن نتقصّى مسار تطوّر الموادّ المتّصلة بالهوّية وعلاقة الدين بالدولة، لندرك أهمّية التوافق الحاصل وقيمة المكتسبات المفتكّة، وأبرزها مدنيّة الدولة التي تنكّر لها تماما سعيّد في دستوره، ليفرض تصوّره الشخصي الرجعي.
لكنّ الخطاب المشيطن لدستور 2014 لا يكتفي بتشويه نَسبه، وإنما يحمّل نظامه السياسي مسؤوليّة حالة التأزّم والشلل طيلة سنوات تطبيقه. ولئن كانت فترة استفراد سعيّد بالسلطة كفيلة لوحدها بدحض هذه الحجّة، إذ لم يؤدّ تركيز السلطة سوى لتعميق العجز والفشل أكثر من أيّ وقت مضى، فإنّ ذلك لا يمنع من العودة إلى الممارسة الدستوريّة للفترة الماضية لتشخيص عللها. فلئن ساهمت الخماسيّة الأولى بشكل كبير في هشاشة البنيان الدستوري، عبر تعطيل تركيز المؤسسات وعلى رأسها المحكمة الدستوريّة، فإنّ النظام السياسي لم يعرف أزمة دستوريّة. فقد قَبِل الحبيب الصّيد، على الأقلّ في الفترة الأولى، بدور ثانوي بالمقارنة مع رئيس الجمهوريّة الراحل الباجي قائد السبسي، ثم اكتفى هذا الأخير، عندما فقد الأغلبية داخل البرلمان، بصلاحياته الدستورية في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجيّة والمبادرة التشريعيّة. أمّا فشل حكومتي الصيد والشاهد، فلا يعود لافتقار صلاحيّات أو لغياب أغلبية نيابيّة، وإنّما لبؤس المنظومة السياسيّة وتقاعس الأحزاب الحاكمة عن ممارسة دورها.
تغيّر المشهد جذريّا بعد انتخابات 2019، وتتالت الأزمات الدستوريّة وتفاقمت حتى اعتقد الكثيرون أنّ الدستور سقط تحت ثقل تناقضاته. هنا أيضا، لم تكن جذور الأزمة في النصّ، وإنما في ممارسة الفاعلين السياسيّين. فقد كنّا أمام رئيس جمهورية يريد أن يحكم من دون أن ينافس في الانتخابات التشريعيّة، مقابل زعيم حزب يسعى للمسك بكلّ خيوط السلطة انطلاقا من رئاسة البرلمان. فهل يمكن لأيّ دستور أن ينظّم هذا العبث ؟ كما بات واضحا اليوم أنّ الرئيس استثمر في تأزيم الأوضاع، عبر تفادي الآليات الدستوريّة، واللجوء إلى تأويلات خطيرة كقيادته للقوى المسلحة الأمنيّة ورفض أداء الوزراء اليمين الدستوريّة وصولا إلى تجميد البرلمان بدبابة عسكريّة وتغيير الدستور عبر الحالة الاستثنائيّة، لفرض مشروعه الشخصي. ربّما كانت صلاحيّة حلّ البرلمان، لو لم تكن مشروطة في الدستور بانخراطه في العمليّة عبر عدم منح الثقة للحكومة، تمثّل مخرجا من الأزمة. ولكنّه مخرج مؤقت، طالما أصرّ الرئيس على خيار عدم دعم قوى سياسيّة في الانتخابات التشريعيّة السابقة لأوانها، وطالما كانت نيّته، ليس إيجاد حلّ ولا حتّى ممارسة السلطة في حدود صلاحياته، وإنما تفجير البناء الدستوري ليتسنى له تمرير مشروعه.
فالتشخيص الذي يحمّل دستور 2014 مسؤوليّة العجز ليس فقط خاطئا بل ظالما، وهو يعبّر قبل كلّ شيء عن عجز النّخب على إدراك الطبيعة السياسيّة للأزمات وعن نزعة القوننة المهيمنة. لا ينفي ذلك أنّ صياغة فصول باب السلطة التنفيذيّة، وأبرزها الفصل 89، ضعيفة وتطرح العديد من الإشكاليّات. ولكن، كما قلناها مرارا وتكرارا، صياغة سيئة لا تعني خيارات سيّئة. ولا شيء يمنع من الاتفاق على تعديلات دستوريّة تحسّن الصياغة وتراجع إن لزم بعض الخيارات، ومنها ما يتعلّق بصلاحيّة حلّ البرلمان، بشرط أن تمرّ التعديلات عبر الشروط والاجراءات الديمقراطيّة والدستوريّة. إذ لا يوجد نصّ مثاليّ، وإنّما تبقى كلّ النصوص، بما فيها الدستوريّة، قابلة للتطوير والتحسين حسب ما يظهر من نقائص وعلل.
لنجعل من « السابقة » عبرة
إنّ أهمّية التشبّث بدستور الثورة لا تنبع فقط من المقارنة بينه وبين دستور سعيّد، في الشكل والمضمون، أو من حتّى من موقف قانوني صرف ينتصر للشرعيّة الدستوريّة. فإذا كان الهدف هو التأسيس لديمقراطيّة مستقرّة، فإنّ الطريق الأضمن والأسلم هو استرجاع دستور 2014، وذلك لسببين. السبب الأوّل منبعه القراءة السياسيّة التي تعي جيّدا بأنّ موازين القوى الحاليّة، والمزاج العامّ الموجود، يصعب أن تؤدّي إلى توافق دستوري بديل تتوفّر فيه الضمانات الديمقراطيّة التي سمحت الثورة وغليان الشارع واستنفار المجتمع المدني بفرضها قبل عشر سنوات. بل أنّ سعيّد، بانقلابه على الدستور وسدّه للمنافذ الديمقراطيّة وإقحامه القوات المسلّحة في الصراع وإعادته تشكيل قواعد اللعبة وفق إرادته المنفردة، من جهة، وعجزه ليس فقط على مواجهة التحدّيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة العاجلة، بل حتّى على تأسيس منظومة استبداديّة تملك عناصر الاستدامة، من جهة أخرى، وضع البلادَ أمام سيناريوهات خطيرة، لا نعلم فيها هويّة القوى الساعية أو المستعدّة للانقضاض على السلطة ولا طموحاتها ولا حدودها. توحيد المطلب الديمقراطي في اتجاه التشبث بدستور 2014 هو إذًا أضمن حصن أمام المطامع والانحرافات الممكنة.
أمّا العامل الثاني، والذي لا يقلّ أهمّية، فيتمثّل في ضرورة أن لا يتحوّل 25 جويلية 2021 إلى سابقة يمكن الاستلهام منها وتكرارها، كلّما جاء رئيس لم يرض بقواعد اللعبة الموجودة. فإذا أردنا التأسيس لتقاليد ديمقراطيّة، يصبح من الضروري أن نعيد إلى قواعد اللعبة قداستها. أيّ تسوية من داخل منظومة قيس سعيّد، فضلا عن محدوديّة فرص نجاحها، لن تلبّي هذا الشرط. فالمطلوب هو غلق القوس، لا محاولة ثنيه. استرجاع دستور 2014 سيكون درسا وعبرة لكلّ من يحاول الانقلاب على الدستور الذي أقسم على احترامه، ولمن يفكّر في إقحام القوات المسلّحة في الصراع السياسي. يبقى أنّ تحويل قوس 25 جويلية من سابقة إلى عبرة، لا يقتصر على المستقبل، وإنّما يفترض أيضا إدراك الفاعلين السياسيّين، خصوصا من كانوا سابقا في الحكم، للأخطاء بل الخطايا التي ارتكبوها، ومن أبرزها عدم تحصين الديمقراطيّة بمؤسسات تدافع عنها، والحفاظ على تشريعات بالية وسالبة للحريّة، أضحت اليوم أداة لملاحقة المعارضين وترهيبهم.
استعادة الدستور، تجديد المؤسسات
إنّ استرجاع دستور 2014 لا يعني عودة للحظة 24 جويلية، ولا انتصارًا للأغلبيّة الحاكمة وقتها. فكلّ الفاعلين يعون جيّدا عدم واقعيّة سيناريو عودة برلمان 2019 إلى سائر عمله، في ظلّ حالة الحنق الشعبي المتواصل إزاءه، من دون الحديث عن فزّاعة تولّي رئيسه راشد الغنوشي لرئاسة الجمهوريّة بالنيابة. إذ ينبغي التمييز بين شرعيّة الدستور، وشرعيّة المؤسسات المنبثقة عنه. لا يمنع التخلي عن الثانية التمسّك بالأولى، ولا يمكن التحجّج باستحالة الثانية لرفض الأولى.
إنّ مناقشة هذه الحجّة ليس مجرّد تفصيل. فهي تكاد تكون العائق الأبرز الذي يحول دون اقتناع الكثيرين بضرورة العودة إلى الدستور. فأصبح إشكال تطبيق الفصول الدستوريّة على المرحلة الانتقاليّة، حجّة لرفض العودة إلى الدستور. والمفارقة، هي أنّ من أيّد خلع أبواب الدستور بقوّة السلاح، ورمى كلّ معارضيه بالشكلانيّة، أصبح يتمسّك بالشكلانيّة الدستوريّة ذاتها لرفض العودة إليه. ببساطة، أيّ سيناريو يضمن العودة لدستور 2014 سيكون دستوريّا، بمجرّد تحقيقه لهذا الهدف. فالقاعدة الذهبيّة في التأويل، هي أنّ تتبع منطوق الفصول لا يجب أن يؤدّي إلى نتيجة عبثيّة، كالتناقض المنطقي أو خرق مبادئ دولة القانون. طالما توفّر التوافق السياسي حول الرجوع إلى دستور 2014، لن يكون صعبا إيجاد إخراج قانوني لذلك، بغضّ النظر عن مدى مطابقة شروط مرحلة الانتقال لمنطوق الفصول الدستوريّة. لا ينفي ذلك ضرورة البحث على إعادة التملّك الشعبي للدستور، وذلك ليس فقط عبر النقاش العامّ، ولكن أيضا عبر الإقرار بالأمراض الموجودة داخل الجسد الديمقراطي وبحاجة المنظومة السياسيّة لإصلاحات عميقة، ولكن من دون توهّم علاج كلّ الأمراض بمجرّد تنقيح نصوص وإصدار أخرى.
إنّ استرجاع دستور ديمقراطي مغدور لن يكون بدعة تونسيّة. إذ نجدُ دولا عديدة مرّت بتجربة ديمقراطيّة أو ليبراليّة سياسيّة، تلتها فترة انتكاسة نحو الحكم الفردي، أخذت هذا النهج[1]. فقد فرضت حركة تركيا الفتاة، في 1908، استرجاع دستور الدولة العثمانيّة الذي علّقه السلطان عبد الحميد الثاني في 1878 (تزامنا مع تعليقه البرلمان) بعد أقلّ من سنتين من إقراره. كما اضطرّ الملك فؤاد الأوّل في مصر سنة 1935 إلى إعادة إحياء دستور 1923، بعد خمسة سنوات من قيامه هو نفسه بإلغائه وتعويضه بدستور شكّل حينها انتكاسة ديمقراطيّة للبلاد. أمّا في الهند، فقد سقطت معظم التعديلات الدستوريّة الواسعة التي أدخلتها أنديرا غاندي خلال سنتين من حالة الاستثناء (1975-1977)، حين افتكّت سلطة التشريع عبر أوامر وفتحت قوسا دكتاتوريّا تميّز بالتضييق على الحريات وملاحقة المعارضة وانتهاك استقلاليّة القضاء، وذلك عبر تصويت البرلمان الجديد لتعديلات مناقضة، وفي مرحلة ثانية إلغاء المحكمة العليا لعدد منها. وبغضّ النظر عن اختلاف السياقات وتنوّع الوسائل والآليات المعتمدة لاسترجاع الدستور، فإنّ الملاحظ حسب الفقه، هو أنّه بقدر ما تكون فترة الانتكاسة قصيرة، بقدر ما تكون استعادة الدستور ممكنة[2]. في فيجي، مثلا، حيث وضعت سلسلة انقلابات سنة 2000 حدّا لدستور 1997 الديمقراطي الذي عزّز بشكل كبير حقوق السكان الأصليين في المشاركة السياسيّة، لم يؤدّ استرجاع الدستور بعد ذلك بسنة إلى عودة البرلمان الذي علّقه الانقلاب، وإنّما ترافق ذلك مع انتخابات جديدة وتجديد للمؤسسات. وقد لعب القضاء هناك دورا حاسما لإسقاط محاولات تغيير الدستور خارج الشروط الديمقراطيّة، بالاعتماد على تأويل توسّعي لنظريتي الضرورة و «الشرعيّة الثوريّة»، ولضمان العودة إلى الدستور[3]. لن نجد تلخيصا أفضل وعبرة أوضح، من حيثيّة أحد القرارات القضائيّة للمحكمة العليا في فيجي: « إنّ عدم قابليّة الدستور للكسر جزء من قوّته. لا يمكن لأيّ رجل أن يمزّق الدستور. ليست له أيّ سلطة ليقوم بذلك. الدستور يبقى نافذا حتى يتمّ تعديله عبر (البرلمان المنتخب)… في حالة طوارئ قصوى، يمكن أن تعلّق أحكام الدستور، ولكن فقط حين يؤدي هذا التعليق في النهاية إلى الحفاظ على الدستور وضمان عودته »[4].
[1] Rosalind Dixon and David Landau, Healing Liberal Democracies: The Role of Restorative Constitutionalism, Ethics & International Affairs , Volume 36 , Issue 4 , Winter 2022 , pp. 427 – 435
DOI: https://doi.org/10.1017/S089267942200048X
[2] Venkat Iyer, Restoration constitutionalism in the South Pacific, Washington international law journal, Volume 15, N°1, 2006, pp. 39-72.
[3] Ibid.
[4] « The Constitution’s very indestructibility is part of its strength. It is not possible for any man to tear up the Constitution. He has no authority to do so. The Constitution remains in place until amended by Parliament, a body of elected members who collectively represent all of the voters and inhabitants of Fiji. During a period of dire emergency it may endure suspension, if such a suspension will ultimately see the Constitution supported, and ensure its re-emergence. Such a situation occurred in Fiji following the events of 19 May 2000 ».
Jokapeci Koroi & Ors. v. Commissioner of Inland Revenue & Anr., Action No. HBC179/2001L.