صورة لهادي نشرها شقيقه المراسل في الميادين حسين السيّد
أغلق هادي اللابتوب عند الثانية والنصف فجر السبت 21 أيلول، أنهى للتوّ إعداد مادّة ستنشر في اليوم التالي على حسابات قناة الميادين على مواقع التواصل، حين يكون هو خارج الدوام في طريقه لرؤية عائلته في صريفا. كان هادي منهكًا ولكنّه لم ينم على الفور، وضّب شنطة ملابسه وبعض الأغراض التي اشتراها لأهله، وراجع رسائل على واتساب لم يجد الوقت سابقًا لقراءتها، اعتذر ممّن تأخّر في الرّد عليهم لانشغاله في العمل، كتب ردودًا سريعة، ثمّ نام. غدًا سيذهب جنوبًا إلى صريفا حيث هجّرت إسرائيل عائلته من عيترون. هذا اليوم الأكثر انتظارًا لديه، ولا يطلب عطلة سوى من أجله. كان سعيدًا لأنّ أهله لم يعارضوا هذه المرّة ذهابه خوفًا عليه، كما فعلوا في مرّات سابقة. وكانت صريفا “آمنة” نوعًا ما بحسابات أهل الجنوب في تلك الفترة.
قضى هادي السبت والأحد مع عائلته كما أراد، كانت عطلة هادئة نسبيًا تشبه هدوء شخصيّته يقطعها بين الحين والآخر تحليق للطيران الحربي وغارات بعيدة نسبيًا.
يوم الإثنين 23 أيلول، انقلب الهدوء النسبي عصفًا، غارات على كلّ الجنوب وإنذارات تريد إسرائيل أن توحي عبرها للعالم أنّها حريصة على المدنيين. فنزح الجنوب كلّه، ومعه حمل هادي وأهله أغراضًا وضّبوها على عجل واستقلّوا سيّارتهم، والوجهة كما كلّ المهجّرين قسرًا في ذلك اليوم: بقعة آمنة بعيدًا عن هذا الجنون.
ولكن إسرائيل كانت ترفع الإنذار بيد وتقصف المدنيين باليد الأخرى. فطلبت من أهل الجنوب المغادرة، وقصفت طريق نزوحهم تمامًا كما تفعل في غزة.
كان هادي وعائلته قد غادروا صريفا ووصلوا إلى برج رحّال وكان أمامهم بضعة كيلومترات ليصلوا إلى الطريق الساحلي باتّجاه صيدا، كيلومترات كانت ستستغرق ساعات بسبب الزحمة التي خنقت طرقات الجنوب باتجاه صيدا وبيروت. بعث هادي برسالة إلى أصدقائه في مجموعة على واتساب يقول فيها: “الضرب كتير قوي، عاملين مجزرة، ضربوا ولمّا تجمّعوا الناس محلّ الضربة رجعوا ضربوا”. كانت تلك آخر رسالة تصدر من هاتفه. بعدها فُقد الاتصال به.
كان هادي عندها قد أصيب في غارة إسرائيلية استهدفت منزلًا محاذيًا للطريق أثناء مرور قوافل المهجّرين وأصابت السيارات المارّة ببطء من هناك وسط الزحمة. لم يكن صعبًا على الإسرائيلي أن يرى سيارات النازحين، أو أن يتوقّع مرورها، هو الذي أنذرهم قبل قليل بضرورة المغادرة.
أصيب هادي بشظية اخترقت السيارة واستقرّت في رأسه ونُقل إلى إحدى المستشفيات في صيدا حيث أجريت له عملية لوقف النزيف. تحسّن هادي قليلًا لكنّه لم يفتح عينيه. وبقيتا مغمضتين إلى الأبد.
يكتب صديق هادي، مهدي زلزلي، في رسالة وجّهها إليه بعد أيام من استشهاده: “في برج رحّال، كانت زحمة السير لا تزال على حالها، حتى استغرق عبورنا البلدة ثلاث ساعات بدلًا من ثلاث دقائق، وحين دوى انفجار قربنا قال لي الرجل الجالس بجانبي إنه يشمّ دخان الغارة، فقلت له إنها ليست قريبة إلى هذا الحد، ولم يمرّ عليها سوى ثوانٍ، قبل أن أنتبه إلى بيت مدمّر بمحاذاة الطريق، على مسافة مترين فقط من سيارتنا المتوقفة في الزحام. فكرت بصوتٍ عالٍ: ماذا يمكن أن يكون قد أصاب الناس في السيارات المصطفّة وسط هذا الطريق المكتظّ لحظة حصول الغارة؟ المنزل قريبٌ من الطريق إلى حدٍّ يستحيل معه عدم ارتقاء شهداء من العابرين، وأكملت معبّرًا عن أسفي لأنّنا مع المئات من الشهداء في هذا اليوم لن نتمكّن من معرفة حكاية كلّ منهم ولا اسمه ولا موضع استشهاده كما جرت العادة في الحالات السابقة حين كان لدى الإعلام الوقت الكافي بين شهيدَين كي يقوم بواجبه في إبقائهم بشرًا لا أرقامًا”.
ويتابع مهدي أنّه حين عرف بإصابة هادي في الطريق إلى بيروت فكّر أنّه إن كان قد غادر صريفا ومعروب سالمًا، وتأخّر عن الغارة التي طالت آثارها الطريق في دير قانون “فلم يبقَ إذًا إلّا ذلك المنزل المدمّر الذي سألت نفسي عن ضحاياه في برج رحال!”.
في جميع الحالات سواء استهدفت الغارة المنزل المحاذي للطريق أو سيارات النازحين، فهي قتلت هادي وهو في طريق التهجير القسري الذي فرضته عليه وعلى عائلته، إلى أمانٍ نعيد تعريفه في كلّ يوم ومع كل غارة جديدة، في ظلّ هذه الحرب الإسرائيلية التي لا تعرف هدفًا واضحًا سوى المدنيين رغم كلّ البيانات التي تدّعي غير ذلك.
“أثر لا يزول”
“في التغطية اليوم، نشعر بالفراغ الذي تركه هادي، نشعر بأثره ينقصنا، لأنّنا عرفنا جيّدًا دوره في السابق. واليوم نعيش النقص المعنوي والروحي والمادي الذي تركه”، هكذا لخّص محمد طه مسؤول فريق السوشيال ميديا في “الميادين”، أثر هادي في القسم وفي زملائه. “أثر عميق ولكنه رقيق”، يضيف ويتوقّف قليلًا كأنّه يبحث عن الكلمة المناسبة ويقول “نسمة، إي هادي عنجد متل النسمة كان”.
درس هادي سيّد حسن، وهو من مواليد 2002، اختصاص “إذاعة وتلفزيون” في الجامعة اللبنانية الدولية LIU، تخرّج قبل عامين، ودخل فريق السوشيال ميديا في “الميادين” قبل عام كمحرر لمنصّات التواصل.
“غالبًا حين يرحل شخص ما، نركّز في رثائه على خصاله الجيّدة ونتغاضى عن أي سلبيّات. ولكن في حالة هادي لا تحتاجين إلى التغاضي عن أي شيء”، يقول محمد. ويضيف: “كان شخصًا لا يظهر عليه التعب ولكنّنا كنّا نعرف من ضغط العمل الذي نقوم به وطبيعته، أنّه لا بدّ منهكًا. لكنّه كان يواصل وبمستوى لا يتأثّر أبدًا. كان متفانيًا إلى أبعد الحدود”.
لم يكن هادي في مهمّة صحافية وقت إصابته، ولكن حسب معرفة زملائه له، كان بالتأكيد لا يصدّق الوصول إلى منطقة آمنة، ليعرض على الفريق المساعدة في العمل رغم كونه في عطلة حتى الثلاثاء (24 أيلول)، نظرًا إلى كثافة الأخبار نتيجة توسّع الغارات على لبنان وحركة التهجير التي شهدها الجنوب ومناطق أخرى.
لم يصل هادي إلى الأمان المنشود لأنّ إسرائيل كانت قد اتخذت القرار بقتل الأمان في كل مكان في لبنان، في القرى الجنوبية وفي البقاع وعلى طريق النزوح ولاحقًا في مناطق النزوح.
يقول محمد إنّ هادي رغم مرور عام فقط على بدء عمله الأوّل بعد تخرّجه، أثبت جدارة وتميّزًا، وصار أساسيًّا في القسم ويمكن الاتّكال عليه. “كان شغوفًا بالمعرفة، ومثابرًا، وكنّا نلمس تطوّره يومًا بعد يوم. وكنت أفكّر دائمًا أنّ هادي سيصل إلى مراكز متقدّمة وسيلمع اسمه”.
ولمع اسم هادي فعلًا، ولكن في عنوان عريض على صفحات الإعلام اللبناني مسبوقًا بكلمة تمنّاها قبل عام بالتمام حين كتب منشورًا على صفحته: “كم منّا أراد وتمنّى يومًا أن يكون شهيدًا، علّها تكون حُسن خاتمتنا بالشهادة (…) ولو بعد حين سننال ما نتمنّى”. والمنشور مؤرّخ في 27 تشرين الثاني 2023، أي بعد سبعة أيام فقط من استشهاد مراسلة الميادين فرح عمر والمصوّر ربيع معماري ومعاونهما حسين عقيل في غارة عدوانية على تلّة في طيرحرفا وهم في كامل عتادهم الصحافي: خوذ وسترات عليها كلمة صحافة، كاميرا مشهرة في وجه العدو الذي كان يراقبهم ويعرف جيّدًا أنّهم صحافيون.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.