في ساحة مطلبية هجرتها الأحزاب السياسية بالكامل، بما فيها العقائدية منها، قليلة هي الحراكات التي يستشعرها المواطنون على الصعيد الفردي خارج إطار المتابعة التلفزيونية أو الصحافية. أبرز هذه الحراكات في العام 2013كان حراك “هيئة التنسيق النقابية” الذي سعى لإقرار سلسلة الرتب والرواتب، وتمثّل بإضراب مفتوح للمدارس ولبعض إدارات الدولة. أما العام 2014، فقد افتُتح بالمثل مع تنظيم حراك مُطالب بإقفال مطمر الناعمة – عين درافيل للنفايات، الواقع في قضاء عاليه، تخلله اعتصام على الطريق المؤدي للمطمر دام أسبوعاً، ونتج منه تعطيل كامل لعملية معالجة النفايات السارية في بيروت وجبل لبنان، أي حيث يقطن أكثر من نصف سكان البلاد. والتعطيل هذا تلمّسه المواطنون مباشرة، إذ تكدّست خلال الأسبوع نفاياتهم فائضةً عن قدرة المستوعبات الاستيعابية، ومالئة الشوارع والبؤر الرملية ما بين أماكن السكن.
والحراك الذي عنونه منظموه “بحملة إقفال مطمر الناعمة” تَشكّل نتيجة تلاقي مجموعتين تنظيميتين تنتميان لساحات اجتماعية مختلفة. من جهة مجموعة من الجمعيات أو النوادي الاجتماعية المحلّية، المؤلفة من سكان قرى مختلفة مجاورة للمطمر مثل عرمون وبعورته وعبيه وعين درافيل، ومن جهة أخرى من تجمع منظِّم لنحو 60 جمعية تُعنى بالبيئة، هو “الحركة البيئية اللبنانية”. وقد اجتمع الفريقان على العمل سوياً عن طريق الصدفة بعدما كان الفريق المحلّي يقوم بنشاطات توعية في المنطقة على مدى السنوات، ومنها تنظيم الرحلات سيراً على الأقدام في غابات المنطقة التي طغت على هوائها روائح المطمر، وبتنظيم تظاهرات داخل طرق القرى لحثّ أهلها على الفعل.
أما الاعتصام، فقدبدأ في يوم 17كانون الثاني عند الساعة الثانية عشرة ظهراً، حيث افترش المنظمون الطريق المؤدي من أوتوستراد الساحل الجنوبي إلى المطمر الكائن بين التلال في الداخل، ونصبوا خيماً ورفعوا لافتات منددة بالمطمر وبنتائجه على الوضع البيئي، كما هتفوا بأناشيد كُتبت للمناسبة (الأخبار في 18/01/2014) منها “بدنا نسكر المطمر” و”بسنة الستة وتسعين، الزعماء وكل السياسيين، اجتمعوا وفتحوا بالشحار مكب زبالة لسوكلين، اجتمعوا وفتحوا بالشحار مكب زبالة وصمة عار، بدنا نسكر المطمر، سكر المطمر سكر”. وأخرى تقول “يا مواطن طل وشوف قلة شئمة عالمكشوف، محمية بأرض الشوف، مكب زبالة بالشحار”. واستمر الحراك حتى يوم الجمعة في 24كانون الثاني حيث قامت القوى الأمنية بتكسير الخيم ووقف الاعتصام بالقوة في الصباح الباكر، وباعتقال أحد الناشطين، المدعو أجود عياش، بقصد شرذمة المنظمين، إذ أن الناشط الذي طال احتجازه ساعات عدة دون أي سند قانوني كان مشهوداً له بكفاءته التحريضية في العمل التنظيمي. لكن اعتقال عياش لم يمنع عشرات الشباب من زوار الاعتصام السابقين من مزاولته مجدداً تضامناً مع المنظمين الذين أكدوا على وضع رفع الاعتصام في خانة التعليق الطوعي والمؤقت لنشاطهم، بانتظار موعدٍ آخر، وليس تنازلاً أمام التحريك الأمني المساق ضدهم.
والاعتصام جمع ما بين المئتين والثلاثمئة شابٍ وشابة من المنطقة كانوا أساس المزاولين موقعه تضامناً، وهم غير المنظمين الذين يبلغ عددهم عشرين، وفق ثلاثة ناشطين قابلناهم وبعض الصحف. كذلك شهد زيارات أكثر من ألف شخص من سكان المنطقة، ممن أراد النظر عن كثب أو التضامن، وهو رقمٌ قليلٌ إذا ما قورن بعدد سكان المنطقة المجاورة الذين يُعدّون بعشرات الآلاف، بحسب رأي أحد الذين قابلناهم.لكن بغض النظر عن قياس مدى نجاح الحراك، وهو أصلاً لم ينته بالضرورة عند تعليق الاعتصام وكتابة هذه السطور، وقياس نجاحه لا يرتبط بالضرورة بكم الناس الذين جمعهم، فقد أدى قيامه إلى استنفار ردّات فعلٍ عند مجموعة من المعنيين الرسميين والإعلاميين تستحق الوقوف عندها وتجمع الحراك مع غيره من حالات الاعتراض على سير الإدارة، وتلقي الضوء على مستوى من مستويات خطاب وممارسة السلطة المهيمنَين على حقلي السياسة والسلطة في علاقة أعضاء الحقلين مع الجمهور الوطني.
اللغة الإجرائية للقمع
شبيهاً بما حصل خلال حراك هيئة التنسيق النقابية، بل ربما أكثر من هذه الحملة، تسببت حملة إقفال مطمر الناعمة بتعرية الطبقة الحاكمة، وطبعاً، بفضحها مرة إضافية كطبقة وكمجموعة متراصة ومُتحكّمة، وذلك بعكس ما تذهب إليه بعض مجادلات أعضائها في الإعلام. وبينما لم تدن أي جهة الاعتصام علناً بالرغم من تأثيره على معالجة النفايات وتسببه بتكدّسها، جاء الرد على الاعتصام معتمداً ما نسميه “اللغة الإجرائية”، وهي حيلة خطابية وسلوكية تنادي بوجوب استمرار إجراءٍ إداري، مثل طمر النفايات، ولمها (أو “متابعة الدروس في المدارس” في سابقة إضراب الأساتذة)، في وجه أي اعتراض من شأنه توقيف الإجراء، ليصبح بالتالي الاعتراض بمثابة “تعطيل” (أو “تخريب”) ويصبح الأمر الواقع والسياسة العامة الإدارية المُعتمدة بمثابة ضرورة.فإذا طالب المعتصمون بحل مشكلة منطقتهم، أتى الجواب تكراراً بوجوب إخلاء الشوارع من النفايات وليس رفضاً لمطالبهم أو مناقشاً لها ولو على مستوى الشكل. فمطالبهم بالكاد ترقى إلى مستوى المشكلة الناتجة من توقف الإجراء، في منطق اللغة الإجرائية. وإذا ما طالب المعتصمون بمقابلة المسؤولين، أُتي لهم بكل الجهات وانتظمت الاجتماعات واللقاءات التشاوريّة باستثناء الخطوات التقنية/الإدارية المُخوّلة قانوناً وضع الحلّ لمشكلتهم، وكأن انتقادهم لا يمت بصلة إلى منطق السكة الإدارية الشرعية.
واللغة الإجرائية جاءت جواباً على الاعتصام على عدة مستويات من الإدارة و”حقل السلطة”، مؤكدةً موقعها كخطابٍ رئيسي ومنهجي عند الأحزاب السياسية، وذلك بدءًا من القوى الأمنية التي فرضت تغيير موقع الاعتصام في يومه الأول تحججاً بتنظيم السير. والتعاطي هذا مع مطالب الاعتصام، عن طريق تغليبٍ للطابع “النظامي” (وربما الأمني) على حساب “البيئي” سوف يستمر صعوداً مع تكليف وزير الداخلية السابق مروان شربل مهمة التحاور مع المعتصمين. كما جاءت اللغة الإجرائية في تصاريح رؤساء بلديات متفرقة من جبل لبنان وبيروت، التي رصدت آراءهم صحيفتا الأخبار (20-1-2014)، أو النهار مثلاً في اليوم الثاني للاعتصام (عدد 19-1-2014). وفيما جاء بعض هذه التصاريح متعاطفاً (رئيس بلدية الدكوانة تميّز بإدانته لشركة “سوكلين”)، جاء بعضها الآخر واعظاً بوجوب فتح الطريق لأنه ما من حلٍ آخر لإخلاء الشوارع من النفايات عند البلدية، حيث إن الإجراء “السوكليني” هو الأفضل و”البلديات عاجزة عن القيام بدور سوكلين” كما عنونت النهار مقالها.
لكن المعرض الأبرز للغة الإجرائية كان في تنظيم اجتماع للمعتصمين مع رئيس الحكومة المُكلّف تمّام سلام، وهو الذي لم يكن تشكيل حكومته قد تأكد في حينه، ولا توازناتها السياسية، ولا بالتالي قدرتها السياسية على المستوى النظري (جريدة السفير مثلاً استغربت الإجراء في عددها ليوم 21-1-2014). وهو ما يضع معنى هذه الجلسة في مصاف من اللامعنى ومن الفراغ النظري الفائق المرادف لمعنى العدم، إذ يبدو أن الاجتماع كان القصد منه، على وجه التحديد، إعطاء “الوعود” للمعتصمين بينما الجهة الُمكلفة بذلك ليس لها يد أصلاً بما هو سارٍ في تشكّل سلطتها، فكيف بها أن تعطي وعوداً.
جريمة موضوعية
لكنّ للغة الإجرائية واستنفارها في موضوع التصدي للمطالبين بإغلاق مطمر الناعمة أسباباً “موضوعية”، في المنطق الإداري الصرف، تمنع على الجهات الإدارية أو “المسؤولة” الدفاع عن موقفها بلغة تقنية أو عقائدية مثلاً. إذ أن شركة “سوكومي” التي عهدت إليها الدولة في عقد موقّع في كانون الثاني من العام 1998طمر كميّة من النفايات في كسارةٍ قديمة في منطقة الناعمة – عين درافيل (عقد رقم 2315 عنوانه “تصميم وتجهيز وتشغيل مطمر صحي لبيروت الكبرى وبعض المناطق المجاورة لها”) قد خرقت العقد خرقاً فادحاً، وذلك منذ بدء استلامها المهمة، ولم تقُم الجهة المسؤولة في الدولة، أي مجلس الإنماء والإعمار، بتصحيح هذا الخرق ولا بمحاسبة الشركة. واستمر الخرق على فداحته حتى يومنا هذا وبعد انتهاء الاعتصام، وقد تناوبت الحكومات المختلفة بأقطابها السياسية المتنوّعة في تجديد تلزيم العقد للشركة على مرّ السنوات. والمادتان الأساسيتان من العقد اللتان يأخذهما المنظّمون على الشركة الخاصة وعلى “الإدارة” (وهو لقب مجلس الإنماء والإعمار كما جاء في العقد) هما، أولاً، تخطي الشركة لكميات النفايات الواجب طمرها في الناعمة بحسب العقد بمستوى هائل، وثانياً، وأهمه، عمدت الشركة إلى طمر مواد غير منصوص عليها في العقد وهو الذي يحصر الطمر بما يسميه “العوادم”، أي النفايات التي لا تهترئ بسرعة تحت الأرض بحيث تتسرب المواد الناتجة من اهترائها في الطبيعة بشكل يمكن الطبيعة من استيعابها.
أما نتائج خرق الشركة لهذين البندين، فهي دون إمكانية الإحصاء، إن من حيث سلسلة الارتدادات القانونية التي تُرتبها، من واجبات المُشرّع في الملاحقة والادعاء وحساب غرامات والتعويض على البلديات إلخ. أو من حيث النتائج البيئية، من روائح وتفشّي الأمراض وتلويث المياه الجوفية والتربة وإبادة الكائنات النباتية والحيوانية، بينما تغيب الدراسات الطبّية المحصية لمدى تأثير المطمر على الناس القاطنة في القرى المحيطة، وقد باتت المنطقة في السنوات العشر الماضية ضاحيةً من ضواحي العاصمة، وآويةً لفائضها السكاني.
أما ظروف استنفار اللغة الإجرائية وامكانيتها، فهي كما أشرنا في المقدمة تعود لانضباط عند أعضاء الطبقة السياسية المهيمنين كافة حال دون أن يُشهر أحدهم (مثل التيار الوطني الحر مثلاً) بمسؤولية الآخر. وقد يعود ذلك الانضباط إلى عوامل مرحلية عديدة، مثل واقع تأليف الحكومة الذي أعيد تنشيطه منذ كانون الأول الماضي والذي ألزم الجميع المضي بسياسة “حُسن نية”، عدا الكلام الذي أثير في الصحف عن تقارب بين التيار الوطني الحر و”المستقبل” مثلاً إلخ. إلا أن الظروف المرحلية يجب ألا تحيد العين عن واقع تراص مؤسسات الإدارة كافة في هذا الخصوص، أي المؤسسات التقنية تحديداً، مثل ديوان المحاسبة المولج بمراقبة مجلس الإنماء والإعمار، والنيابة العامة، إلخ. والتي غاب تحريكها على مدى سنوات لأسبابٍ قد تعود إلى الهيمنة السياسية على مفاصلها طبعاً، ولكن أيضاً بسبب وضعها استراتيجياً، أي على المدى البعيد، وعلى المستوى المخطط ونكاد نقول “التآمري”، على سكة العمل الموضعي والمعزول والخالي من أي فلسفة عامة ومن أي إطار تنسيق ومتابعة. فتسري سياسة لمعالجة النفايات، أخطبوطية التكاليف على ميزانية الدولة، بحيث تأخذ الجزء الأكبر من أموال البلديات والوزارة الوصية عليها، وهي الداخلة ضمن مجال تخصص وزارة أخرى (وزارة البيئة) ولا من يحرك ساكناً من جسم الوزارتين في مراقبة إجراءاتها.
هو تحديداً هذا التراص القائم بين الحلقات التقنية، والممارسة المستقرة عليه، التي أراد الحراك كسرها، وذلك عبر نبش أعضائه للعقد المُوقّع بين مجلس الإنماء والإعمار وشركة سوكومي واستدلالهم من العقد على موعد انتهاء التلزيم، المُقرر في يوم 17كانون الثاني 2014، وأخذهم هذا الموعد منطلقاً لحملتهم. والحصول على العقد لم يكن بالسهل، إذ يقول لنا اثنان ممن قابلناهم من الناشطين إنهما طلبا نسخة من العقد في ما مضى من النائب أكرم شهيب، رئيس لجنة البيئة النيابية المنبثقة عن اللجان المشتركة، كما من مدير مسؤول في مجلس الإنماء والإعمار. وقد جاء الجواب في الحالتين نافياً إمكانية تسليمهم العقد وذلك لعدم توافره عند الجهة المعنية. كذلك استشعر أحدهم من خلال زيارته وباقي الناشطين للوزير السابق مروان شربل أن الأخير لم يكن قد اطّلع على العقد هو أيضاً، في خامس أيام الحراك، مع أنه المولج بمحاورة المعتصمين، وكان يجهل معنى كلمة “العوادم”، أي جوهر ما يتناوله العقد والناشطون في بياناتهم.
وذوداً في خصوص صفة “التآمر” في تنظيم العمل الإداري، التي ليست مبالغة، وزيادةً على دلائل وواقعة “الحصول الصعب على العقد” أعلاه، فإن العقد نفسه يتضمّن مادة تكاد تكون “تنبّئية”، هي المادة 25. وهي غير المادة المعتادة في العقود التي تعالج “القوة القاهرة” التي تحول دون إمكانيات “المتعهد” القيام بالعمل بموجب العقد، والتي أوجدها العقد أيضاً (المادة 24). فالمادة 25تذكر “الفتن الاجتماعية”، من بين الأمور التي قد تعيق عمل الشركة، وهي ما قد يكون مفهوماً في دولة مثل لبنان (مع أن الصفة “الاجتماعية” قد تحيلنا إلى “صراع الطبقات” مثلاً)، ثم يضيف “التجمعات أو تظاهرات أهلية، أو اعتداءات على مستخدمي “المتعهّد” وآلياته وعلى المواقع …”، وكلها أسباب لإعفاء المتعهّد من أيّة مسؤولية في التوقّف عن عمله، وذلك خلافاً لروحية المادة 24مثلاً التي توجبه “تقديم الإثباتات الضرورية اللازمة لتحديد أسباب الحادث أو القوة القاهرة”، ألا وهي في حال مطمر الناعمة خرق المتعهّد لأساس العقد المعني بطمر العوادم فقط وقيامه بتدمير منطقة بكاملها بمفعولٍ لا يختلف عن ضربها بقنبلة نووية. وكأن أهل العقد كانوا متوقّعين أن أعمالهم سوف تتسبب يوماً ما “بزعل” سكان المنطقة.
تغييب الجريمة
أن لا يقوم مجلس الإنماء والإعمار بملاحقة سوكومي المتعاقدة معه أمر مفهوم ويتماشى مع السياسة الحريرية – السكّرية (نسبةً إلى آل سُكّر) التي أعادت صياغة وتنظيم هذه الإدارة من الدولة على قياس مصالحها الخاصة. وقد كان وما زال قوام هذا القياس خطاباً يُسمّى باللّيبرالي ينادي على طريقة البلاشفة بإعطاء كل السلطات للقطاع الخاص. هذا الخطاب المنهجي، في بحر الإجرائية السائد عند المعلّقين الحزبيين من كل الجهات، هو الذي يميّز الجهات المحسوبة على الحريرية عن غيرها. فإذا برئيس بلدية بيروت بلال حمد، الحزبي الانتماء، في تعليقٍ له لصحيفة النهار (عدد 19-1-2014) وشركة سوكلين في بيانها للصحافة (الوكالة الوطنية للإعلام، النهار في 18-1-2014)، يشتركان في اعتبارهما جهة مسماة “الدولة” مسؤولةً عما حصل من أخطاء أو عما يحصل من تعطيل (ولا يهم المعنيين تشخيص المشكلة بوضوح)، آخذين بكنية “الدولة” مطمراً
مصطلحياً يتعهّد فريقهما به على حسابهم الخاص.
لكن سردية التحليل الآنفة، واستراتيجيات الحريرية كما خطاب إعلام هذا الجناح من الطبقة المهيمنة يجب ألا تضلل القارئ حول كيفية استواء عملية القمع التي جرت في وجه حراك إقفال مطمر الناعمة كما في غير حالات. فمن الناحية الإدارية، وكما رأينا، جاءت الوثيقة الإدارية (أي العقد)، بالرغم من انحيازها، تخالف مصلحة الفريق المُنتفع، مستنفدةً مدة صلاحيتها. أما في الإعلام، فكلام بلال حمد لا شك يتوجه لفئة من الجمهور مهتمة أصلاً بالاطلاع على رأيه، والمبني إقناعها أو تضليلها في الحال هذه على رصيدٍ يُحسب لتيار المستقبل عند هذا الجمهور في أمور أخرى أبعد ما تكون عن مسألة معالجة النفايات. وأغلب الظن أن الخطاب الإعلامي الأكثر فعالية عند الجمهور الأوسع هو الذي يحول دون تطوّر “راديكالية” عند فئاته الأكثر قابلية للنزوع في سلوك عداوة تجرّ إلى الفعل انتخابياً وتعبوياً، ألا وهو خطاب اللغة الإجرائية الذي يعتمده أغلب السياسيين والذي يغيّب عن سردية الواقعة – المشكلة أسبابها وأسماء المسؤولين. هو مثال مروان شربل مثلاً، واللجان النيابية، ولكن أساساً وليد جنبلاط، الذي اضطلع بدورٍ شبه “رسمي” على ما أثبت كلام وزير الداخلية الذي أكد حصول القوى الأمنية على “غطاء سياسي – طائفي” للقيام بوقف الاعتصام (الأخبار في 25-1-2014)، وكلام النائب محمد قباني إلى الإعلام بعد اجتماع اللجنة النيابية التي يترأسها (الأشغال) ولجنة البيئة والذي أكد (شاكراً) وجود “تغطية” من قبل “وليد بك جنبلاط” للحل الذي تقرر، ألا وهو فتح المطمر الذي لا مناص منه وذلك لمدة سنة إضافية (موقع النهار في 23-1-2014).
هنا تبرز بوضوح وظيفة ما يسميه الناشطون الذين قابلناهم “الإقطاع”، ليس بمثابة منتفع مباشرةً من عقد سوكومي ومخالفاتها (مع أن هذا الاحتمال وارد أيضاً)، إذ لا يظهر اسمه في العقد ولا يتحمّل مسؤولية قانونية مباشرة بموجبه، إنما من حيث إنه يأخذ سردية المشكلة في منحى تذويبي، أن الأمور لا يمكن أن تتعطل إلى هذه الدرجة وأن الطرق يجب أن تكنس، وهو منحى يبعد الأضواء والشبهات عن الشركة الخاصة ومجلس الإنماء والإعمار عبر تبديل كل منصة المسرحة إذا جاز القول. فغياب المسؤولية القانونية عن الإقطاع يحول دون أن يتمكن منظمو الحراك من تحميله مسؤولية شخصية في الجريمة، في تدمير المنطقة وبيئتها، عبر إدخاله في ثنائية متماسكة تكرسه “كعدو” داخل جمهوره وفئاته الناخبة، في مجادلة معه لم تكن ضمن مجال تكتيك المعتصمين الذين التزموا الخطاب التقني (العداوة مع الشركة) والإنساني طوال مدة الاعتصام.
أما تغييب المسؤولية عن السردية المتداولة، فيمكن ملاحظته على سبيل المثال في تغطية جريدة النهار لملف مطمر الناعمة على طول مدة استمرار الحراك، وهو ما يمّيز هذه الجريدة عن زميلتيها السفير والأخبار، إذ لا تذكر ولا في أي مناسبة أو مقال من تحرير فريقها أن مطالب الحملة استندت إلى بندَي العقد اللذين خرجت عنهما الشركة. لا بل بالكاد يُذكر الموضوع وذلك نقلاً عن خطابين لناشطين في الحملة عرضاً.
كذلك، في اجتماع نواب اللجنتين النيابيتين للأشغال والبيئة في يوم 23كانون الثاني، بحضور أعضاء اللجنتين، وهم من كتل نيابية متعددة ومتخاصمة في غير مناسبة، كان جل الكلام والتصريحات التي نقلتها النهار يتناول أزمة تجمّع النفايات وضرورة التسريع بالحل وكأنهم أمام أحداث تدور في العام 1994 وعلى وشك مناشدات أحدهم من القطاع الخاص لمعالجة أزمة النفايات، إذ غاب ماضي العقد وتنفيذه من كلامهم المعلن كلياً (موقع النهار في 23-1-2014).
فائض “التربية المدنية”
في يوم فك الاعتصام، قامت جريدة النهار، وهي القريبة من فريق المستقبل في الحكم، باستطلاع للرأي عند قرائها على الانترنت، تسألهم إذا كانوا يؤيّدون “فتح القوى الأمنية طريق مطمر الناعمة بالقوّة؟”. ونشرت نتائجه على موقعها وكانت الأجوبة بغالبية 61,2% تصب لخانة “كلا، يجب تحقيق مطالب الاعتصام” التي يقترحها الموقع، وفي 38,8% لخيار “نعم، النفايات ملأت الشوارع”. يدل الاستطلاع إلى إفلاس الشركة الخاصة سوكومي والجهات المتواطئة معها في عرضهم لحجتهم، أي التهويل من ملء النفايات للشوارع. ويتحتم بالتالي على التحليل التفكّر أكثر في فعالية هذه الحجة، أو هذه الممارسة المنهجية التي نسميها “اللغة الإجرائية”، التي يعتمدها الحكم في ردوده على منتقديه. ما هو مفعولها المرجو (والمُجرَّب) عند فئات المستمعين إذا لم يكن الإقناع؟
صعيدان أساسيان تتكفل اللغة الإجرائية بالإحاطة بهما، ويمكن استخلاصهما من مسلسل حراك “إقفال مطمر الناعمة” وردود الفعل عليه. أولهما ما تقوله اللغة الإجرائية، وهو إعادة تأكيد شرعية السياسة الإدارية السائدة عن طريق التشديد على ضرورتها. هو خطابٌ بطريركي، يقول للناس بلغة مُستعجِلة بقدر استعجال الناس في مطالبهم، إن سوكلين والمدارس يجب أن تستمر في عملها. وهو بذلك خطاب “دولة” بامتياز، يقول بأحقية الدولة في الوصاية على أمور الناس بالمقارنة مع رأي الأفراد، إنما يقول ذلك لمن “يزايد” من الأفراد على الدولة بالحرص على سير إدارتها وليس لمتمرّدين على القانون مثلاً. وهو بذلك، إذ يبدو مجانياً، يقوم منطقه بالتشدّد بخطاب الدولة القائم و”البريء” من السياسة، خطاب كتب التربية المَدَنية، وبالإحالة الى العلاقة القائمة بين الناس والدولة وتسليمهم العادي أمورهم وأحوالهم لها عبر التذكير بهذه العلاقة. وكأنه يقول في الملأ، وهو أصلاً لا يتوجه للمعتصمين بقصد تقليص عزمهم: لماذا فتح الجراح، فالمسألة أكبر من ذلك، وعلى الدولة والأحوال أن تتابع طريقها.
أما الصعيد الثاني، فهو ما تخفيه اللغة الإجرائية: وهو المسؤولية القانونية أو المباشرة والداعية للمساءلة، وتفاصيل الأمور، وكل ما من شأنه أن يجمع في نظرة الناس إلى الأمور بين اسم وكنية، بين أحمد فتفت والشاي، بين المصرف والسرقة، بين “المستقبل” والنفايات، أي أنها تمنع أبلسة الأسماء والجهات. هذه الأبلسة التي تُقلق الكثيرين في الطبقة السياسية وهم الذين لا يتوانى بعضهم من ذوي السلطات الصورية أو الثانوية (قد يكون “تكنوقراتياً” أو موظّفاً سابقاً في القطاع العام تبوّأ منصباً ما في السلطة التنفيذية) عن تحريك القضاء ضد أي مدوّن أو فايسبوكيّ يشتمهم فيما يبدو أنه تماثل أخرق بسياسة ووجاهة الأحزاب المهيمنة وبتذويب الأبلسة الساري في الحقل السياسي. وهو ما يفسّر استمرار تجريم القدح في حق الشخصيات العامة في القانون اللبناني، أي الشتم بصفته أداةً لتصويب الأمور في بحر الإجرائية الذي يسبح فيه الكلام. أداةٌ لا شرعية لها إلا إذا أتت من الناس.
نشر في العدد الرابع عشر من مجلة المفكرة القانونية