تخطّى لبنان عتبة الـ 14 ألفًا و500 جريح، وعلى أرضه أزهقت إسرائيل أرواح 3445 شهيدًا، وفق حصيلة وزارة الصحة ليوم أمس الجمعة 15 تشرين الثاني. وإمعانًا في الإجرام، أخرجت الغارات الإسرائيلية، 8 مستشفيات عن الخدمة بشكل كامل في أنحاء البلاد وفق ما أعلنه وزير الصحّة فراس الأبيض في 4 تشرين الثاني، بينها خمس مستشفيات في الجنوب هي مستشفى صلاح غندور وبنت جبيل الحكومي وميس الجبل ومرجعيون وبليدا.
وعطّل العدوان جزئيًا 7 مستشفيات في أنحاء البلاد من بينها مستشفيات الضاحية الجنوبية كلّها، كما ألحق أضرارًا جسيمة بمستشفيات البقاع الذي تهجّر الكثير من أهله قسرًا، وذلك وفق تقرير “الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع الصحّي في لبنان” الأخير والصادر عن وزارة الصحة العامّة، والذي يوثّق فترة ما بين 8 تشرين الأوّل 2023 و24 تشرين الأوّل 2024.
وبلغ عدد استهدافات المستشفيات منذ بدء العدوان 220 استهدافًا، والجمعيات الإسعافية 218 اعتداءً، بينما بلغ عدد المستشفيات التي طالها العدوان بشكل أو بآخر 40 مستشفى، و90 مركزًا طبّيًا وإسعافيًّا. وبلغ عدد شهداء القطاع الصحّي 208 شهداء وجرحاه 311، فيما بلغ عدد آليات النقل الطبية المستهدفة 244، بحسب رصد مركز عمليات طوارئ الصحة العامة التابعة لوزارة الصحة العامة، منذ بدء العدوان الاسرائيلي وحتى تاريخ 14 تشرين الثاني 2024. ولحقت مؤخرًا أضرار جسيمة بمستشفى تبنين وبعلبك الحكوميين، ومحيط مستشفى حيرام في منطقة صور.
كلّ ذلك دفع منظمة الصحة العالمية للإعلان بأنّ “النظام الصحّي في لبنان يكافح للتكيّف” حيث تشهد المستشفيات اكتظاظًا شديدًا نتيجة تدفّق المصابين، مشدّدة على ضرورة توقّف العنف في المنطقة لمنع المزيد من الخسائر والمعاناة. وقالت رئيسة الفريق التقني في المنظمة د. إليسار راضي، إنّ “القطاع الصحّي في لبنان تحت ضغط كبير جدًا”، مشيرة إلى أنّ الضمانة لعدم استهداف المستشفيات “تكمن في العمل على نظام الأمم المتحدة ككل، فهي المطالبة بتحييد المدنيين ومراكز الرعاية الصحية الأوليّة والمستشفيات والعاملين الصحيين خلال الحروب”.
والقطاع الصحّي في لبنان “مأزوم أساسًا”، كما وصّفه رئيس لجنة الصحة النيابية النائب بلال عبدالله لـ “المفكّرة”. مأزوم منذ ما قبل العدوان، بسبب وطأة تفجير المرفأ وجائحة كورونا والأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالبلاد، وما نتج عنها من نزف للكوادر الطبية والتمريضية وسط هجرة واسعة لجزء منها.
ومع تسجيل ظهور أوّل حالة كوليرا والعديد من الإصابات بالأمراض الجلدية، حذّرت د. راضي من خطر تفشّي الأوبئة التي من شأنها أن تزيد العبء على النظام الصحّي، وأعربت عن مخاوف منظمة الصحة العالمية إزاء قدرة هذا النظام على مواصلة الاستجابة ماديًا وتأمين الخدمات بالجودة المطلوبة.
تسعى “المفكّرة” في هذا التحقيق إلى تفنيد أسباب هذه المخاوف، من خلال الوقوف عند الأعباء التي يتحمّلها القطاع الصحّي اليوم نتيجة الاستهدافات الإسرائيلية للقطاع وارتفاع حصيلة الشهداء والجرحى، والسبل التي يعتمدها لمواجهتها في ظلّ خطة الطوارئ الصحّية.
إسرائيل تنتهك حق الإنسان في العلاج والحياة
“بلّشت المستشفيات بالجنوب تخرج عن الخدمة من 23 أيلول، الحكومي أول يوم، ميس الجبل بعد 3 أيام بعدما قصفوا فريق الدفاع المدني حدها، ونحنا في 4 تشرين الأول إجانا إنذار بالإخلاء بعد أربع ساعات، بس بعد ساعتين ضربوا المستشفى بـ 3 قذائف وانصاب الطاقم الطبي (3 أطباء و7 ممرضين)، في حدا بعدو بالمستشفى”، يروي الدكتور محمد سليمان مدير مستشفى صلاح غندور لـ “المفكّرة”.
“أخلينا لحظة الاستهداف لأنّه كان بإيدينا جرحى، وطلبنا مساعدة الجيش والصليب الأحمر بس ما قدروا يوصلوا.. طلعنا بسيارتنا وأخلَينا الجرحى معنا باتجاه تبنين، وحوّلنا المرضى على مستشفيات صيدا وصور”، يوثّق د. محمد لحظات الإخلاء التي أقفلت فيها أبواب المستشفى، وما زالت موصدة حتى الساعة.
وعن مستشفيات الجنوب الأبعد نسبيًا عن خطوط النار التي ما عادت تعرف حدودًا، يوضح سليمان: “حتى بصيدا وصور.. المستشفيات شبه خالية، فيها كادر عم يقوم بواجبه بس كلّو تحت التهديد، ما عاد في حصانة لحدا حتى بصور، قصفوا قرب مستشفى حيرام وجبل عامل وبالحوش حد اللبناني الإيطالي..”.
ويوجز سليمان رسالة إسرائيل من قصف القطاع الصحي بكل كوادره بـ “الخطة الممنهجة للضغط على الناس الصامدة بمناطقها، خلافًا لكلّ المعايير والمواثيق الدولية التي تتغنّى فيها الدول.. وحرمانهم من الحق في العلاج والحياة”. “يعطونا الآن ضمانات بعدم التعرّض منرجع نخدم بالوضع الحالي والأقسام المتبقية”، بختم سليمان حديثه لـ “المفكرة”.
وبالتالي وفي ظلّ قلق بالغ من تكرار سيناريو غزة، يكافح القطاع الصحي لاستيعاب العنف غير المسبوق وفظاعة المجازر، والكارثة الأكبر تكمن في الاستهداف المباشر الذي تتعرّض له المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية وفرق الإسعاف والذي تحوّل إلى استهداف ممنهج للبنى التحتية الطبية.
آخر المستشفيات في الجنوب التي تعرّضت لاستهداف غير مباشر، مستشفى تبنين وهو الوحيد الذي لم يقفل كلّيًا في مناطق النار الجنوبية. حصل الاستهداف يوم 7 تشرين الثاني 2024، وهو التعدّي الثامن على المستشفى الذي قدّم العلاج لـ 1458 جريحًا منذ بدء العدوان وحتى لحظة استهدافه. دمّر الاعتداء الواجهة الشمالية للمستشفى بأكملها وعطّله جزئيًا حيث أخرج أقسام العلاج الكيميائي وقسم الأطفال وغسيل الكلى وجزءًا من قسم الاستشفاء، عن الخدمة، وفق مصادر مطلعة على إدارة المستشفى، وذلك بسبب التدمير الجزئي والأضرار الجسيمة التي خلّفها الحريق الذي سببته الغارة ودمار الجدران والأسقف الاصطناعية والتمديدات الصحية والكهربائية والمحتويات. كما طال الاعتداء سيارتي إسعاف وسيارة خاصة تابعة للمستشفى، وسجّلت 8 حالات اختناق.
وألحق العدو الضرر بمستشفيات عديدة في البقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، مثل مستشفى الساحل، بهمن، الزهراء، الرسول الأعظم، وسانت تريز – بسبب القصف المباشر لها أو لمحيطها.
“ضربة واحدة من إسرائيل تطيح بكل المخزون”
“ما بدي قول الوضع على حافّة الانهيار ولكن نتخوّف من الأعظم”، بهذه الكلمات يرسم الدكتور جهاد سعادة واقع الحال، من موقعه مديرًا لمستشفى رفيق الحريري الحكومي الذي طاله العدو بجرائم حربه، إلّا أنّه يستمرّ بالخدمة، وبخاصّة بعد افتتاح قسم خاص بمعالجة جرحى الحرب بدعم من منظمة الصحة العالمية.
يشرح سعادة لـ “المفكّرة” الضغط الهائل بسبب خروج بعض المستشفيات عن الخدمة، وكارثة النزوح الجماعي: “بسبب الاكتظاظ والظروف غير المؤهّلة كلّو عم ينصاب بأمراض بشكل غريب، وكلو عم يصبّ لعنا، سواء جرحى أو مرضى، وما في غيرنا، كوننا المستشفى الحكومي الفعّال الوحيد في بيروت”.
ويؤكّد د. سعادة: “كمستشفى وبلد عنا مخزون، ولكن كل شي إلو حدود، خاصّة أنّ المستشفيات مأزومة وهي نموذج عن الدولة ومؤسساتها”.
وعن كفاية المخزون يحسم سعادة: “في مخزون، ولم يتمّ المساس به حتى الساعة، وهو يكفي لـ 500 جريح في حال الحصار، بمعدّل 50 جريح يوميًا لمدة عشرة أيام”، مكرّرًا أنّ: “المخزون كافٍ خارج حالات الحصار، أما إن حصل، فضربة واحدة من إسرائيل قد تطيح به”.
وبدورها الدكتورة نادين هلال، مستشارة وزير الصحة تؤكّد: “المخزون بالبلد اليوم يكفي من 4 إلى 6 أشهر” ولكن بدورها تحذّر: “ما يحدث خطير جدًا، ويجب السعي دوليًا لوقف هذا الاعتداء”، وتنبّه: “مضغوطين، ما بقى فينا يقلّ العدد.. إذا طال العدوان وخفّ الدعم رح نكون بأزمة”.
إسرائيل ترهق كاهل المستشفيات المأزومة
“شو النفع إذا في مستلزمات طبية وما قادرين نشتريها؟ أو نشتغل فيها؟ القصة لا تقتصر على المخزون، القصة في قدرة الطواقم على مواجهة التحدّيات والأعباء النفسية والمالية، وزاد الطين بلّة استهداف المستشفيات وقصة النزوح”، يوضح الدكتور سليمان هارون، نقيب المستشفيات الخاصة لـ “المفكّرة”، خطورة نفاد مقوّمات صمود القطاع الصحي، ويناشد وقف إطلاق النار: “ضروري بأقرب وقت، لنقدر ناخذ نفس!”.
ويعرب هارون عن قلقه لـ “المفكّرة”: “شفنا شو صار بغزّة، ما خلّوا فيها مستشفى شغّال.. إذا استمرّ الوضع هيك، نحنا ما فينا نهدّي أشهر طويلة.. أسابيع قليلة وليس أكثر”.
وعن معاناة المستشفيات وطواقمها يشدد هارون: “العبء كتير كبير علينا باستقبال أعداد الجرحى. نوعية الإصابات، معظمها خطرة وتتطلّب متابعة وعمليات جراحية وعناية فائقة، ما يشكّل ضغوطًا مالية على المستشفيات المأزومة والتي هي بحاجة لسيولة”.
ويؤكد هارون: “ما فينا نستمرّ لفترة طويلة! في مستحقّات للمستشفيات مش عم تندفع، ولا أتكلّم فقط عن الوزارة بل سائر الجهات الضامنة، وبالرغم من الجهود الحثيثة والمستمرة لوزير الصحة لحل أزمتنا المالية”.
ولا تنتهي الأعباء عند هذا الحدّ: “في موظّفين ببعض المستشفيات نزحوا مع أهلن من مناطق الخطر، ما يشكّل عبئًا إضافيًا على يلّي عم يقدروا يوصلوا من الموظفين”، يوصّف هارون الوضع: “في ناس عم تشتغل 24 ساعة متواصلة.. ما عم نقدر نغطّي النقص”.
وبدوره د. جهاد سعادة يفنّد تحديات المستشفيات المتعثرة: “الأول أنّ معظم العالم ما معها مصاري، ويلي معو ما بدو يصرف… والثاني مع المورّدين، كلّن بدّن cash عند التسليم”.
وعن تغطية المرضى يوضح هارون: “باستثناء الجرحى النازحين متلن متل كل الناس، وفق معايير وزارة الصحة في جزء من الفاتورة بدو هو يتحمّلها، من هو دون الـ 64 سنة سيتكفّل بـ 35% من الفاتورة ومن هو فوق 64 سيتكفّل 25 % من الفاتورة. ولكن في كتير ناس نازحة أو مقيمة ما معها تدفع هيدا الفارق”.
إلّا أنّ د. سعادة يشير إلى أنّه: “باستثناء الجرحى والولادات وغسيل الكلى التي تتكفّل بها الوزارة، فإنّ تغطية المرضى غير مكتملة، رغم الدعم الكبير من الهيئات لتغطية فارق الوزارة، لكن المعايير لا تشمل كل الحالات.” ويتأسّف سعادة بالقول: “بالآخر إذا كعينا بدّو يضطرّ المريض يدفع أقلّه حق الـ prothese”.
وعن أثر هجرة الطواقم ونزوحها، يشرح سعادة: “منذ الأزمة الاقتصادية التمريض بمعظمه نزح باتجاه القطاع الخاص أو هاجر الى خارج البلاد. ولكن ما كان عنا مشكل حتى بظل العدوان… ولكن من شهر لليوم وأمام وطأة النزوح الجماعي، صار عنا نقص حاد بالموظّفين، عم يخافوا ع حالهم وعائلاتهم.. نحاول السيطرة عبر تبديل الجداول واعتماد مبدأ العمل الإضافي overtime”.
وفي هذا المجال، تنقل عبير الكردي، نقيبة الممرضين والممرضات في حديثها لـ “المفكّرة” معاناة الطاقم التمريضي وحرص النقابة على دعم المستشفيات بالكوادر التي ما زالت متضامنة، مقاومة تكافح بجدارة وكفاءة. وتدين الكردي الاستهداف الإسرائيلي للطواقم الطبية: “خسرنا 4 شهداء وسجّلنا عدد من الجرحى، ورصدنا تشرّد 1200 ممرض وممرضة خارج مؤسساتهم وبيوتهم، باتوا بلا عمل لحظة نزحوا كسواهم إلى مراكز أكثر أمآن”.
وجرّاء القصف والغارات، تشير الكردي إلى الضغوطات الكبيرة الجسدية والنفسية التي يتعرّض لها الطاقم التمريضي، خصوصًا في الأماكن الأكثر خطورة، حيث تشكّل المستشفيات فيها نسبة 37% من مستشفيات البلد بين خاص وحكومي. وتقول الكردي: “تحت الضرب، العبء عليهم مزدوج، كانوا حريصين على تأمين نجاتهم وسلامة مرضاهم ونقلهم”.
وعن مواجهة كارثة النزوح القسري للطاقم التمريضي، تلفت الكردي لنجاح المبادرة التي أطلقتها النقابة عبر خلق منصة لرصد نزوح الطاقم، حيث يتم التواصل معهم، ليشغلوا فرص عمل في المناطق الأكثر أمانًا، والتي هي بحاجة ماسّة لدعم كوادرها وتعزيز استجابتها.
استهداف العاملين في الرعاية الصحّية دفع بالنائب بلال عبدالله، بصفته رئيسًا للجنة الصحّة النيابة إلى توجيه كتاب مفتوح إلى الجهات الدولية والأممية، شكّل صرخة بوجه الانتهاكات المستمرّة والمتمادية للقانون الدولي ومبادئ الإنسانية. ويناشد عبر “المفكرة”: “تحرّك المجتمع الدولي والمنظمات الصحية العالمية والحقوقية والأممية لحماية القطاع الصحي المستباح”. ويشدد على: “ضرورة حماية الطواقم ودفع أتعابها والتسريع بدفع مستحقاتها والمستشفيات كأولوية. وضرورة تأمين الاعتمادات المطلوبة وتدعيم المخزون الطبي الدوائي الموجود ولكن المعرّض للنفاذ”.
تقييم خطة الطوارئ الصحّية على ضوء الاستجابة
“رغم الاستهدافات، أثبت القطاع جدارته ووطنيته والتزامه برسالته وناسه”، بحسب النائب بلال عبدالله. ويوضح عبدالله: “وُضعت خطط جديّة منها خطة احتياطية إن ضُرب المطار والمرفأ، وللأمانة أثبتت الجهود نجاحها بنسبة كبيرة ولا زال التنفيذ مستمرًّا، منذ الضربات الأولى على مستشفى بهمن، مرورًا بالضربة الأكبر للقطاع الصحي والاستشفائي يوم تفجير أجهزة النداء (pagers)، التي كانت بمثابة امتحان كبير لقطاعنا الطبي الاستشفائي”. ويعلّق: “ما عجبو للعدو صمود هذا القطاع فتعمّد ضربه! وما عدنا نتفاجأ بجرائمه، فلم ننس مجازر مستشفى المعمداني والإندونيسي بغزة”.
ويتمنّى عبدالله التنسيق بين وزارة الصحة، ولجنة الصحة النيابية، ونقابة المستشفيات والأطباء والتمريض ونقابة مستوردي الأدوية والصناعة الدوائية الوطنية. ويعلن لـ “المفكّرة”: “بالحدّ الأدنى الأمن الصحّي والدوائي في لبنان ما زال مؤمّنًا، ولولا خطة الطوارئ الصحية لما كان لدينا هذا المخزون اليوم”.
عبارة: “الحمدلله رغم الأعباء بعدنا صامدين”، أوجزت الدكتورة نادين هلال، مستشارة وزير الصحة الوضع لـ “المفكرة” بعد دخول العدوان الإسرائيلي على لبنان عامه الثاني.
وتوضح راضي أنّ “بعض المستشفيات عند خطّ المواجهة تضرّرت بشكل كبير، وبعضها شهد نزوح العاملين فيها، ولكن حتى الساعة تمكّنت باقي مستشفيات لبنان، من استيعاب الحالات والعمليات الجراحية المطلوبة”. ولم يمنعها تنويهها بالتقنيات والقدرات الطبية العالية التي يملكها لبنان، من الإعراب عن قلقها من خطورة تفشي الأوبئة.
وعن تنفيذ خطة الطوارئ الصحية، تحسم الدكتورة نادين هلال: “صمودنا هو نتيجة التحضيرات الكبيرة التي بدأت منذ سنة، إن على صعيد رفع جهوزية المستشفيات وإن على صعيد التدريبات للموارد البشرية أو بدعم وتوزيع المواد والمستلزمات الطبية..”، وتشدّد: “لولا الخطة ما كنا اليوم بهذه الجهوزية”.
وإزاء الاتهامات بفراغ كلام الخطط وافتقاره للتنفيذ، تستعرض هلال أمام الرأي العام بعض النتائج المحققة، على سبيل المثال لا الحصر، وتقول: “لدينا 317 مركز رعاية صحية أولية، ووضع 239 من أصل 260 فريقًا وعيادة نقالة لخدمة مراكز الإيواء”. وتضيف: “وزّعت الوزارة أكثر من مليوني علبة دواء للحالات المزمنة والحادة، وبحدود 78 ألف علبة حليب للأطفال”.
أما في موضوع الاستشفاء فتشرح هلال: “قدرنا نساعد الناس ونخلّص أرواح، تحقيقًا لأهداف الخطة، والخدمات بالمراكز بعدها مستمرّة وعم تتكثّف، التقرير التراكمي بتاريخ 14 تشرين الثاني يوضح أنّ أكثر من 134 ألف نازح تلقوا معاينات وأكثر من 96 ألفًا حصلوا على الأدوية”.
وتتابع هلال: “حتى بالمستشفيات نجحنا نكون حد الناس، ليس فقط الجرحى بل النازحين، وتم تأمين محلات لأكثر من 2000 مريض لمتابعة غسيل الكلى والعلاج الكيميائي، وتكفّلنا بتغطية الولادات”.
وتكشف هلال لـ “المفكّرة” أنّه تمّ رصد اعتماد بحدود 11 مليون دولار لوزارة الصحة لدعم الاستجابة، وأنّ الوزارة وللمرة الأولى ستطلق في غضون شهر مشروع تغطية طوارئ النازحين وأمواله مرصودة من دعم الحكومة والشركاء. وتؤكد على إعداد برامج متعدّدة مموّلة من الشركاء لتغطية فارق الوزارة، في الحالات الحادة والولادة والعناية المركّزة والأطفال: “حتى فارق الـ 20% بات عبئًا على النازح”.
وعن رفد القطاع الصحّي والاستشفائي بالسيولة، كان المدير العام للصندوق الوطني للضمان الإجتماعي محمد كركي، قد تعهّد بسداد كافّة مستحقّات المستشفيات وجميع العاملين في القطاع كي تبقى على أتمّ الجهوزيّة لاستقبال ومعالجة المرضى والجرحى. وبالفعل أعطى كركي توجيهاته يوم 13 تشرين الثاني، إلى الدوائر المالية المختصّة لتحويل مبلغ 164 مليار ليرة للمستشفيات والأطباء.
النائب عبد الرحمن البزري، عضو لجنة الصحة النيابيّة يؤكد بدوره لـ “المفكرة” أنّ العدوان الإسرائيلي قد أرهق القطاع الصحّي “المضغوط أساسًا”، ولكن لم يمنعه من الاستعداد للطوارئ الصحية، إلّا أنّ “الدعم محدود نسبيًا، ولم يكن سخيًّا من المجتمع الدولي بخاصّة للمؤسسات الصحية”، بحسب البزري. ويؤكّد: “نجاح الخطة الصحّية إلى حد ما” فمعظم الأحداث المتوقّعة وُضعت سيناريوهات لها وتم التدرّب عليها بمناورات وجولات ميدانية للتأكّد من الجهوزية، بحسب البزري.
ويعود البزري الى التحدّي الأوّل الصاعق الذي واجهه القطاع الصحي بنجاح مع جريمة تفجير أجهزة النداء واللاسلكي، التي كانت غير مسبوقة، وكيف تمّ استيعاب الموجة الأولى رغم هول الأعداد التي لامست 3000 جريح.
ويضيف البزري: “التحدّي الأكبر كان مع توسّع العدوان، وهو ما تتطلّب تدخلات جراحية سريعة وخطرة، وجهوزية وقدرة على التصنيف السريع للأولوية الصحية، وقد استوعب القطاع أيضًا هذه الموجة بنجاح”. عند هذا المفصل يتوقّف البزري معلّقًا: “هنا، بدأت تظهر ملامح الحاجة الى إعادة ملء ما فُقد من مواد طبية وضرورة التنسيق مع المانحين الدوليين، من أشقاء عرب ومؤسسات دولية”.
وعن التحدّي الثالث المتمثّل بتأمين الرعاية الصحية لمراكز الإيواء، يشهد البزري للنجاح بسبب تعدد الشركاء، ويقول: “حتى الساعة لم نشهد فوضى صحية مثلما شهدنا فوضى إيوائية، ولا فوضى في تأمين احتياجات النزوح والإغاثة”.
ويذيّل البزري تقييمه بنقطة سوداء: “للأسف عنّا فشل كتير كبير بالصحة النفسية، وذوو الاحتياجات الخاصة مش عم يكونوا دائمًا مأمّنين بالحد الأدنى المقبول”.
في هذا السياق، توضح د. إليسار راضي أنّ منظمة الصحة العالمية أسهمت في بناء القدرات عبر تدريبات مكثّفة في وزارة الصحة والمستشفيات، حول كيفية إدارة الكوارث والتعامل مع مجموعة كبيرة من الجرحى. كما ساعدت المنظمة الوزارة في إنشاء مركز التنسيق للكوارث، الذي يتم عبره التنسيق لتوزيع الجرحى على المستشفيات.
وتوضح أنّ التدريب “غطّى أكثر من 5000 عامل صحي بـ 118 مستشفى بكل لبنان، وتم تعزيز مخزونها بالأدوات والمستلزمات الطبية لحالات الطوارئ وحالات التروما والكسور وجروح الحروب..”.
وفي محاولة للتقصّي عن أسباب الفشل على صعيد الصحّة النفسية وفق تعبير البزري، تواصلت “المفكّرة” مع الدكتور ربيع شمّاعي، رئيس البرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة العامة، الذي استنكر هذا التقييم. وانطلق من كون البرنامج حصل عام 2023 على جائزة UN Award للأمراض غير المنقولة والصحة النفسية، على تطبيق “خطوة خطوة” السرّي والمجاني الذي ما زال يقدم مساعدة ذاتية للتعامل مع القلق والاكتئاب.
وبحسب التقرير السادس الذي يغطي فترة ما بين 4 و10 تشرين الثاني 2024، أنه قد بلغ عدد المستفيدين من تطبيق “خطوة خطوة” 208 مستفيدين و3569 منذ نيسان 2021، ومن الخط الوطني الساخن (1564) للدعم النفسي والوقاية من الانتحار، 1321 مستفيدًا منذ بداية العدوان وحتى إصدار التقرير، أما خدمة البودكاست self help التي تقدّم تمارين عملية للتعامل مع الضغط النفسي ومصادر التوتر اليومية، فقد بلغ العدد الإجمالي للمستخدمين منذ بدء العدوان 3931.
يؤكد شمّاعي أنّ: “العمل مستمرّ على تعزيز وتوسيع خدمات الصحة النفسية من خلال مراكز الرعاية الأولية لدعم مراكز الإيواء، حيث يتم رصد الحالات التي تحتاج لتدخّلات طارئة، وتوصيل الخدمة والأدوية”. كما يعلن شمّاعي أنّ: “البرنامج وبدعم من منظمة الصحة العالمية، يغطّي فارق الاستشفاء للصحة النفسية بدير الصليب، وسيدة زغرتا للنازحين والمستشفيات طويلة الأمد مثل مستشفى دار العجزة”.
ويناشد شماعي الجمعيات التي تقدّم دعمًا نفسيًا بضرورة التنسيق مع وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية.
موجة أمراض سارية ومعدية تهدد لبنان
بالتوازي يبرز خطر محدق آخر يتمثّل في تفشّي الأمراض السارية والمعدية، بسبب الاكتظاظ والظروف غير اللائقة وغير المؤهلة للسكن، المتمثلة في فقدان المياه الضرورية وانقطاع الكهرباء والمنافع الصحية والقدرة على النظافة الشخصية، بخاصّة في أوائل أيام النزوح.
وسجّلت وزارة الصحة العديد من الأمراض الجلدية والانتقالية وحالات التسمّم الغذائي والإسهالات بسبب المطابخ الجماعية وتحضير الأكل ونقله وتوزيعه، وتوثّق: “رصدنا مؤخرًا حالات قمل في حوالي 96 مركز إيواء وحالات جرب في 66، ولكن الأمر نسبيًا تحت السيطرة ويتم التعامل معه بدقّة”.
وتعلّق د. هلال: “كنّا على استعداد، وتوقعنا كثافة الأمراض الجلدية، فبدأنا حملة لقاحات بالمدارس ووزّعنا بحدود مليون حبة لعلاج الجرّب وأدوية للقمل”.
ولدى السؤال عن خطر تفشي الكوليرا مع الإعلان عن أوّل حالة في عكار، تؤكد د. هلال أنّه “تمّ احتواء الحالة الوحيدة المكتشفة.. وهو مؤشر إيجابي”. فيما تحذّر د. راضي من أنّ نسبة خطر تفشي الأمراض: “مرتفعة أكيد ولبنان مهدّد بالكوليرا”. وتضيف: “نحن أساسًا نشهد أمراضًا كالصفَيرة والتيفوئيد وسواها، وهي متفشّية ولكن حرصنا ألّا تتحوّل إلى وباء”.
وبمناسبة إطلاق وزارة الصحة في 14 تشرين الثاني، الحملة الوطنية للتلقيح ضدّ الأمراض المعدية، أوضحت راضي أن من شأن هذه الحملة:” حماية الأطفال بالدرجة الأولى وكذلك رفع معدل لبنان للتغطية باللقاحات بعد تراجعه في الآونة الأخيرة”.
مع اطمئنانه إلى حملة اللقاحات التي تطلقها الوزارة، يحذّر النائب عبد الرحمن البزري: “لا يزال الدعم تحت الحد الأدنى المطلوب، خاصّة بالتدخّلات الوقائية وسواها”، ويوصي: “بدنا نخلّي عينينا سهرانة، لا مجال لأي تراخي أو تلكؤ.. وإلا النتائج كارثية”.
ماذا عن مرضى السرطان؟
“الله يستر مرضى السرطان شو بدو يصير فيهن..”، قلق يعرب عنه هاني نصار، رئيس جمعية بربارة نصار لدعم مرضى السرطان لدى سؤاله عن أوضاع مرضى السرطان في ظلّ العدوان، رغم إعلان الوزارة عن ضمانها مجانية العلاج الكيميائي.
ويروي نصار لـ “المفكّرة” أنّه مع توسّع العدوان: “نزح 2000 مريض سرطان، ما شكّل ضغطًا كبيرًا جدًا على وزارة الصحة بداية، وحصل تأخير في بعض الملفات ولكن اليوم الأمور مستقرّة بالموضوع”. وبالنسبة لمجّانية العلاج، يلفت نصّار لكونها غير متعلّقة بالحرب، وأنه يتم توزيع الأدوية اليوم على أساسها بعد أن ألغي الدعم ونظّمت الوزارة مناقصة تشتري بموجبها الأدوية وتقدّمها مجانًا للمرضى. ويوضح نصّار: “مرضى الوزارة، ومرضى الجهات الضامنة كلها، باستثناء الجيش، له نظامه الخاص، إلّا إن تأخّر بتأمين بعض الأدوية، فيكون لمريض الجيش الحق بالتقدّم بطلب على الوزارة”.
أما الصرخة التي كان قد سبق وأطلقها نصار أيام السلم، ما زالت نفسها في ظل الحرب: “المشكل بالأدوية التي تقدّمها وزارة الصحة، والتي لا تغطّي كل علاجات مرضى السرطان”، ويشرح التحدّي الدائم: “الوزارة تتصرّف ع أساس الأموال المرصودة غير الكافية، كما أنّها تتشدد بالـ guidelines المعتمدة لمنح الأدوية والحالات التي تغطيها”.
ويذكر نصّار على سبيل المثال لا الحصر: “دواء سرطان المبيض حقّو 6000 دولار بالشهر (بمعدّل علبتين) وهو خارج المناقصة وما إلو بديل.. يلي قادر يدفع 6000 دولار كل شهر بيجيبو ويلي ما قادرين يدفعوا هذه المبالغ عم يموتوا”. وعن سرطان الرئة يوضح نصّار: “أمّنت الوزارة بديل يعود لـ 15 سنة، ليس بالجودة ولا الفعالية المطلوبة”.
وعن الأدوية التي هي دون الـ 200 دولار، يلفت نصّار: “عنا مشكل مع الأدوية التي تمنحها وزارة الصحة بالمناقصة لمرضى الضمان بالعلاج الكيميائي، والتي يبدأ بها كل مريض سرطان بشكل عام. أغلبية المرضى يلي عالضمان عم يدفعوا حق علاجاتهم بالوقت الحاضر وقد تصل للـ 1000 دولار حسب الكمية وأصناف الأدوية. فالوزارة تقدّمها مجانًا لمرضى الوزارة وفقط في المستشفيات الحكومية، وأي مريض عم يتعالج خارج مستشفيات الحكومة، عم يدفعها كلها من جيبتو”. ويناشد نصّار بقية الجهات الضامنة: “لازم تحرّك حالها، من 3 سنين عم نصرّخ للضمان وما في شي. والتحديات لا تنتهي: الوزارة ممكن تدفع مساهمة بعلاج الأشعة، أما بالصور والتحاليل ما بتعمل شي من قديم وجاي”.
وبالنسبة لعلاج الأشعة يوضح نصّار أنّه قد يصل إلى 8000 دولار، وبمعدل عادي 4000 دولار يدفع الضمان الاجتماعي منها 1000 دولار. أما وزارة الصحة: “بتعملها مجانًا بمستشفى طرابلس الحكومي، مستشفى عين وزين، وكانت بمستشفى النبطية يلي هلق العالم بتخاف تطلع، أما بمستشفى بيروت الحكومي المكنة واقفة، ومستشفى جبل لبنان رفضت بالأوّل تنعمل عندها على وزارة الصحة، لأن ما بتوفي معها بعدين مشي الحال بس مع فارق 2500 دولار بيدفعها المريض من جيبتو. فرغم تغطية الوزارة، بس لنتخيّل معاناة المريض عالطريق إذا عايش ببيروت أو ضبية، وطلب له 25 أو 30 جلسة 5 أيام بالأسبوع؟”، يسأل نصّار في حديثه لـ “المفكّرة”.