المؤرخ الإسرائيلي
شلومو ساند وفي الخلفية تظهر المدينة الكنعانيّة قديماً- القدس /أورشليم- المصدر ويكيميديا
ليست كل “عودة إلى صهيون” إنجازًا ذا أهمية دينية: نوع واحد من العودة يمكن وصفه بكلمات النبي: “عندما رجعتم نجستم أرضي وجعلتم ميراثي رجسًا”
– البروفيسور الإسرائيلي يشعياهو ليبوفيتش، مستشهداً بسفر (إرميا 2: 7) من العهد القديم.
وراء كل دولة، سرديّة قوميّة تؤسس لولاء وحدة مجتمعيّة للأرض، وتتأسس الوحدة المجتمعية اليوم على اللغة والتاريخ المشترك، لكنها في الحالات الأكثر تطرّفاً تقوم على استعلاء عرقي (رابطة الدم) أو إثنيّ (رابطة الثقافة) أو ديني (وصم الأماكن بهويّة وإعلاء شأنها، وإعلاء شأن أنساب دينيّة). من جهة أخرى، تتصدّر مقاربتان نزاعات الشعوب على الأراضي فإما حق الشعوب في تقرير مصيرها المقرّ به دوليّاً، أو الحقّ التاريخيّ في أرض ما وهو نسبي. وتكمن مشكلة التغاضي عن تقرير المصير في حتميّة العنف. واليوم، بعد انطواء عصر القوميات وسرديّاتها، بقيت الصهيونية كأكثر نماذج عنف السرديّة التاريخيّة تطرفاً. وهي التي استأثرت بتعريف اليهود في إيمانهم، إذ أقنعتهم أنهم مشروع قومي بدأ مع قصّة الخلق. ويوضح المؤرّخ الإسرائيلي شلومو ساند أنّ الصهيونيّة واحدة من حركات قوميّة عدّة انتشرت في القرن التاسع عشر، إنما تمايزت في تحويل اليهوديّة من معتقد إيماني إلى قوميّة، حيث أن كل “يهودي” هو إسرائيلي حتّى لو كان لا يؤمن باليهوديّة! أمّا تقبّل “اليهودية كقوميّة” اليوم في أوساط علمانيّة معاصرة فهو ما يستغربه شلومو ساند. وهي فكرة مستغربة عندنا أيضاً، حين نجد إعلاميين وباحثين عربا يرددونها.
تجمع المقالة في جزئها الأوّل هذا ما يدحض السرديّة، مستنداً على نحو واسع إلى شلومو ساند في تفسيره لتوظيف الدين في اختراع وحدة إثنيّة بهوديّة (راجع مقال ثلاثيّة شلومو ساند). ثمّ يطرح بديهيات العلوم الجينيّة والاجتماعيّة، بشأن وحدة “العرق”. كما يستشهد بالباحثة إيزابيلا سيغالوفيش مفسّرةً توظيف ميثولوجيا “الغوليم” (الغول) وضحايا “الهولوكوست”، لصناعة “سوبرمان” يهودي على النمط النازي. كما يبيّن الفرق بين السرديات الأحاديّة للتاريخ وقراءته التعددية العلميّة، ليطرح ما توصّل إليه العلم من دحض لما سمّي بالأركيولوجيا الدائريّة، التي تنطلق من النص الديني لقراءة الآثار وتنتهي به. أمّا الجزء الثاني فخصصناه لعرض انعكاسات السرديّة ومآلاتها على الصعيد القانوني وأرض الواقع. نشير فيه بدايةً إلى ملاحظة شلومو كيف أنّ تبني فكرتي العلمنة ومواجهة “معادة-اليهوديّة” في الوقت ذاته، هي التي أسفرت عن ظهور مفكرين يهود غيروا العالم مثل ماركس وفرويد وآينشتاين. كما نتحدّث عن كيفيّة تبرير العنصريّة في الداخل الإسرائيلي. ونشير إلى بعض انعكاسات السرديّة في التشريعات والقوانين، كما نتحدّث عن مآلات السرديّة اليوم في الداخل الإسرائيلي كما يوضحها المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي، مشيراً إلى صعود للصهيونية الدينيّة على حساب الصهيونيّة العلمانية والصهيونيّة اليساريّة المأزومتين.
في بناء وحدة إثنيّة دينيّة.. أو كيف صدّرت أوروبا حروبها الدينيّة إلى شرقها الأدنى
كان مشروع “التراتسفير” الديني لليهود بريطاني المنشأ، كما يوضح ساند، إذ أنّ الخلاص في السرديّة المسيحيّة لا يتحقق إلا بعودة اليهود إلى “موطنهم”. وقد استجاب له الصهاينة عابثين في موعد الخلاص، وأرادوا تشكيل هويّة مشتركة ليهود من ثقافات واسعة التنوّع، فاستدعُوا أشباحاً “محتملين” من الماضي لكي يتشاركوا ويهود اليوم وحدة “العرق” و”الإثنية”، وقدموا التلمود على أنّه وثيقة أو “حجّة” لملكيّة أراضي الفلسطينيين. واختاروا اسماً عنصرياً الدولة الناشئة (“قاهر الرب” إسرا- ئيل[1]) وهي كنية النبي يعقوب الذي تعتبره السرديّة جدّ السلالة. طبعاً، لم يقتنع الفلسطينيون بالرواية، فلا مكان لهم فيها أو لأجدادهم –جدلاً-، ولم يتم إشراكهم بأي نقاش قبل انتزاع أرضهم. والتي أصبحت “موعودة ليهود اليوم”، بل أصبحت الأرض جزءاً من هويّة الموعودين بها، أمّا صاحب الوعد هذه المرّة، فكان آرثر بلفور لا “رب الجنود” الذي كان وعد أحفاد يعقوب بأرض غير مزروعة يعيشون فيها.
واعتاد حاخامات اليهود قبل الصهيونيّة أن ينتظروا قرار “رب الجنود” للعودة، لا قراراً بريطانياً، والمعلوم أن قدوم “الماشيَّح” المخلّص في اليهوديّة يرتبط في حلول يوم الحساب أو يوم “هدَّين” (هو في اليهودية يعد جزءاً من التاريخ لا نهايته، ويأتي قبل حلول يوم القيامة). هذا ما يشير إليه شلومو ساند متحدثاً إلى جمهور بريطاني في إحدى الندوات، معتبراً أن السبب ذاته الذي جعل (أغلب) اليهود يرفضون الإيمان بالمسيح جعلهم يرفضون الصهيونيّة، إذ أنّ قلّة قليلة تقبلوا الفكرة الصهيونيّة بداية الأمر. وهو ما يوضحه ساند في كتابه، بأنّ اليهوديّة عارضت بشدّة فكرة أنّ المخلّص “هو ابن الله”، وعارضت جعل الإنسان قوّةً فاعلة في التاريخ، إذ “كان يُنظر إلى الله القدير على أنه البديل الكامل للإنسان، الذي لم يكن من المفترض أن يشارك في الأحداث أو يكملها قبل الفداء” (ساند 2013 ص67). علماًُ أن عدداً كبيراً من الحاخامات “الأورثوذوكس” لا زالوا على عقيدتهم هذه، ويعدّ دايفد فلدمان من أبرز هؤلاء. وكان له حديث مؤخراً شدّد فيه على رفض المجازر بحق الفلسطينيين، لكنه أكّد أن رفضه الصهيونيّة لا يقتصر على ارتكابها أعمال عنف لا إنسانيّة، إنما لمخالفتها العقيدة ولأنها بربطها اليهوديّة بالدولة، جعلت الديانة مهددة وجودياً، لأنّ بقاء الدولة ليس حتمياً.
وبالعودة لندوته أمام جمهور بريطاني، يستطرد ساند أنّ “فكرة الصهيونيّة لم تبدأ من اليهوديّة، إنما آباءكم هم الذين اخترعوا الصهيونيّة، أنتم البريطانيون!”. ويردف أن الفكرة بدأت في القرن السابع عشر خلال الثورة البيوريتانية في بريطانيا (puritan revolution)، “كانوا يفكّرون في إرسال اليهود إلى فلسطين، لأنّ الخلاص يبدأ بعد ذهاب اليهود إلى فلسطين وفق معتقدهم الديني، ومن القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، بدأت الأمور تتبلور هنا في لندن، وفي أواسط هذا القرن لم يكن هرتزل أباً للصهيونية، إنما اللورد شافستبوري (Shaftesbury)”، والأخير صاحب شعار “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”.
لكن، يعبّر ساند عن قناعته بأن الصهيونية لم تنجح في خلق أمة يهودية عالمية، بل بالأحرى أمة إسرائيلية “فقط” (ساند 2013 ص14). فيبدأ بالإشارة إلى أن بلفور كان “معاديا للسامية” وكارهاً لليهود وحين كان رئيساً للوزراء كان مسؤولاً عن وضع قانون يمنع اليهود الفارين من المذابح الروسية من اللجوء إلى بريطانيا عام 1905. (ساند 2013 ص13) ثم يقول أنّه عام 1917 كان الهدف السياسي من وعد بلفور الضغط على فرنسا بسبب التنافس على النفوذ الاستعماري (ساند 2013 ص103)، وكانت فلسطين تضم حينها 700 ألف نسمة من غير اليهود و60 ألف يهودي فقط بالمقارنة مع 250 ألف يهودي في بريطانيا (ساند 2013 ص101). فبين عامي 1897 (عقد أوّل مجلس صهيوني) و1917 لم يهاجر سوى 30 ألفاً، وال30 ألفاً الآخرين كانوا معادين للصهيونيّة (ساند 2013 ص102). لكن يقول أن نقطة الانطلاق لحشد اليهود في فلسطين كانت عام 1924، حين وضع قانون مماثل للقانون البريطاني، يعرف بقانون جونسون-ريد، وهو يمنع اليهود من الهجرة إلى الولايات المتحدة (ساند 2013 ص101).
ومثلما كان الصهاينة في حاجة للدعم البريطاني الأميركي فتغاضوا عن كراهية اليهود، كان لا بدّ لهم من سرديّة دينيّة لبناء قوميتهم فتغاضوا عن علمانيّتهم، بخاصّة مع غياب وحدة اللغة والتاريخ بين اليهود. وتحوّل التلمود بياناً سياسياً لتأسيس القوميّة بحيث لم يعدْ بالإمكان تفريق الخطاب القومي عن الديني. ويقول ساند في كتابه “اختراع الشعب اليهودي” ما تعريبه: “أصبح الكتاب المقدس علامة عرقية، تشير إلى أصل مشترك لأناس من خلفيات وثقافات علمانية مختلفة للغاية، لكنهم ما زالوا مكروهين بسبب دينهم” (ساند 2009، ص 127). ويتابع “لقد أصبح مطبوعًا في وعيهم بالماضي. إن حضن الكتاب المقدس الترحيبي، على الرغم من (أو ربما بسبب) طابعه الإعجازي والأسطوري، يمكن أن يوفر إحساسًا طويلًا، يكاد يكون أبديًا، بالانتماء – وهو شيء لا يستطيع الحاضر السريع الحركة والمشحون أن يمنحهم إياه.” كما يشرح أن الكتاب المقدس بات يقرأه التلامذة على أنّه كتاب علمانيً ليتعلموا عن أسلافهم القدامى، و”يسيرون لاحقًا بفخر كجنود يخوضون حروب الاستعمار والاستقلال”.
و اليوم مثلاُ، نجد الداعية اليهودي موتيل باليستون (Messianic Jewish Mottel Baleston) كأحد نماذج الحاخامات الذين يرددون السرديّة الرسميّة الدولة والسائدة لدى الشريحة الأكبر من الأشكناز. يتحدّث عن تشكّل “الإثنية اليهودية” المعاصرة ويرجعها إلى صعود برج بابل وهجرة اليهود، وهي “طريقة رتّب الله من خلالها الأمور”. واليهوديّة كما يشرح هي الديانة التي أوجدها الحاخامات بعد هدم معبد سليمان و”قد تداخلت كل وصايا (أو العهود) اليهودية مع اليهودية الحديثة””. ويتابع أن “كل هذه الوصايا تجتمع على فكرة أنه كان لدينا معبد في أورشليم، حيث كنا نجلب الأضاحي، وكان المكان الوحيد المخصص للعبادة”، ويردف أن “كل ذلك انهار عام 70 م بعد هدم معبد سليمان” (أي هدمه للمرة الثالثة على يد الرومان). ويتابع أنّه “بعد انهيار المعبد ب20 عام، عقد الحاخامات مجلس شورى وقرروا إعادة اختراع (reinvent) وإعادة ترميم اليهوديّة، واليهوديّة التي أنشؤوها هي اليهودية الحاخاميّة الحديثة”. هنا أصبحت اليهودية جوّالة (portable)، – والأهم في ما يشير إليه- أنّ “السلطة في اليهوديّة الحديثة لم تعد سلطة التوراة إنما سلطة الحاخامات في تأويلاتهم للتوراة”.
بمعنى آخر، بدأت اليهوديّة القديمة مع إعطاء الله للنبي موسى مجوعة قوانين (أي التوراة)، وتشير السرديّة الصهيونيّة إلى أنّ أحفاد النبي يعقوب -سواء اتبعوا أو لم يتبعوا التوراة- استقروا جغرافياً واستقرّت شعائرهم وطقوسهم مع بناء معبد سليمان نحو 10 قرون ق.م أي قبل أن تصبح اليهوديّة جوّالة عام 90 م، وقبل أن تصبح تفاسير التوراة (التلمود) بمتناول حاخامات اليهود لهذه الغاية. والألف ومئة عام الفاصلة، هي التي يعتد بها الصهاينة كدليل على الحق التاريخي. لكن طوال 1900 عام، لم يؤوّل الحاخامات التلمود كما تم تأويله في الحقبة الصهيونية كما نفهم من شلومو ساند، ف”التلمود حظر على نحو واضح الترحال الجماعي إلى فلسطين”. أكثر من ذلك، هو يشرح بديهيّة أنّ الديانات القديمة لم تعرف مفهوم “الوطن الأم” لأن القوميّة مفهوم حديث. ويردف أن مصطلح “الوطن” (the notion of homeland) نقع عليه فقط عند اليونان القديمة وأثناء صعود الجمهورية الرومانية، لكن بمعنى أرض الآباء Patria. وهو ليس المفهوم المعاصر في بعده السياسي، ولا يعبّر عن مفهوم قديم في فلسطين أو أراضي كنعان أو في التقليد اليهودي. بالتالي “الأرض الموعودة” لم تكن وطناً، و”سبب عدم هجرة اليهود إلى فلسطين منذ ألفي عام واضح، وهو أنّ علاقتهم بهذه الأرض هي علاقة ميتافيزيقية”، كما أن التوراة لم تأتِ على ذكر لإسرائيل” كأرض ميعاد، كما يوضح ساند في إحدى ندواته. أمّا لدى مراجعة نصوص التلمود ستجد أنّ الأراضي التي منحتها الأمم المتحدة للحركة الصهيونية عام 1947 هي ليست نفسها الأراضي التي سكنها العبرانيون بنو إسرائيل وفق التلمود.
في العرق والتحليل الجيني: بديهيات السرديّة فاسدة علميّاُ
هذا في ما يخص الإثنيّة، أما بخصوص “العرق” فحقيقة المسألة، ليس أنه لا يوجد “عرق يهودي”، بل أنه لا يوجد “عرق” بالمطلق. إذ يميّز علماء اليوم بين العرق المحدد ذاتيا كالعرق اليهودي أو السلافي، وبين النسب الجيني. وقد وجدوا أن الاختلافات الجينيّة داخل جماعة عرقية ما (محددة ذاتياً)، أشدّ منها ما بين جماعة وأخرى. أمّا ما يشار إليه من دراسات جينيّة ذات وظيفة مساعدة لفهم التاريخ (مثلاً لفهم حركة هجرات شعوب قديمة) فلا تعنيها هويّة شعوب اليوم إلّا كحقل معطيات، أمّا موضوعها فالشعوب التاريخية. فيما يوضح كثير من المؤرخين ومنهم شلومو ساند أن أغلب متحدري العبرانيين- بني يعقوب (جدلاً)، اعتنقوا في فترة ما الديانتين المسيحية والإسلاميّة، وأحفادهم (جدلاً) يعيشون فعلياً في فلسطين، وكانوا ضحايا المجازر والتهجير عام 1948 وضحايا الإبادة اليوم. وموجز ما يقوله ساند في مقابلات عدّة، هو أن كل منا اليوم هو عبارة عن خليط جيني[2]، وهذا ما يعرفه أي طالب مبتدئ في العلوم الاجتماعية.
لكن يبقى أنّ “فكرة الوراثة ساعدت في تبرير المطالبة بفلسطين، (“مملكة”) يهودا القديمة التي توقف الصهاينة عن النظر إليها كمركز مقدس يأتي منه الخلاص”، كما يوضح ساند. ثم يقول أن “الأسطورة التاريخية تطلبت إيديولوجية “علمية” مناسبة – لأنه إذا لم يكن اليهود في العصر الحديث أحفادًا مباشرين للمنفيين الأوائل، فكيف سيضفون الشرعية على استيطانهم في الأرض المقدسة؟” في حين أن “الوعد الإلهي” لم يكن كافياً للعلمانيين. و”إذا لم يكن من الممكن العثور على العدالة في الميتافيزيقا الدينية، فلا بد من العثور عليها، ولو جزئيا، في علم الأحياء”. لذا تقبّل الصهاينة عنصريّة مثقفي أوروبا. ونقل ساند عن ناثان بيرنباوم الذي صاغ مصطلح الصهيونية، قوله أنّه “لا يمكنك تفسير التمييز العقلي والعاطفي الخاص بشعب ما إلا عن طريق الدراسات الطبيعية”، وأردف الأخير أن الاختلافات بين الأجناس “هو الذي يفسر لماذا ابتكر الألماني أغنية النيبيلونجن واليهودي الكتاب المقدس”. وانتهى إلى أن “لا اللغة ولا الثقافة، بل علم الأحياء فقط، يمكن أن يكون مسؤولاً عن صعود الأمم”. (ص257)
واليوم نجد الداعية اليهودي الآنف ذكره، يدّعي أنّ الأشكناز حافظوا على نقائهم “الإثني” في عدم التزاوج من خارج المجموعة، ويلهو بالألفاظ مدعياً أنّه لا يستخدم تعبير “عرق” لأنه “لا يوجد سوى العرق البشري”، وينعت الداعية مخالفيه بالعنصريين “مُعادي السامية،” ويقول أنهم يهدفون إلى “نزع الشرعنة عن وعد الرب عندما قال أنه سيحفظ الشعب اليهودي”. بما معناه أنّ الله عمل على الحفاظ على جينات اليهود. ويعود للقول أنّه “لا يمكنك أن تصبح يهودياً فإما تولد يهودياً أو لا تولد يهودياً”. مؤكّداً وجود جينات مشتركة بين يهود العالم.
اليوم، كثرت الدراسات التي تبيّن هشاشّة مجمل هذه الادعاءات. على سبيل المثال لا الحصر، أصدرت قناة شهيرة على “يوتيوب” قبل شهرين، فيديو عن الأثر الجيني لدى يهود الأشكناز وآخر مؤخراً عن الشعوب الإسرائيلية القديمة. وتعتمد دراساتهم على داتا منوّعة، وتتميّز في إعلانها المنهجيّة المعتمدة ومصادر العينات، كما تبدو حياديّة لأنّها تنشر دورياً نتائج دراسات، والجانب السياسي ليس موضوعها. ويسأل “الفيديو” الثاني، “أي من الشعوب المعاصرة الأكثر تشابهاً مع الشعوب الإسرائيلية القديمة؟” وأوّل نتيجة معروضة هي عن أصل هذه الشعوب، وهي تؤكّد أنه لا حقل جيني واحد يحصرها، والنسبة الأكبر من حقول الجينات هي كنعانيّة وأموريّة وأقل منها مزيج لجينات يونانية مع شعوب أخرى مردّها إلى شعوب الفيلست القادمة من البحر. والنتيجة الثانية حول الجماعات الأقرب جينياً إليهم اليوم، وتبيّن أنهم اليهود السامريون، وأنّ هؤلاء طبقوا إلى حدّ بعيد فكرة عدم التزاوج من الخارج، (علماً أن ديانتهم تعتمد بشكل أساسي على التوراة بدلاً من تفاسيره أي التلمود). وللمفارقة ترفض الصهيونيّة تصنيفهم كيهود، ويعاملونهم معاملة الفلسطينيين.
أمّا الفلسطينيين، فكانوا يسجلون باستمرار -وبعينات من مناطق منوّعة- نسبة من حقل الجينات السامريّة تتراوح بين 60% و80%. ما يؤكّد أنهم يحملون بنسبة طاغية الحقل الجيني لسكّان المنطقة في العصر البرونزي وتحديداً قبل 3000 عام. ويحملون بالمعدّل 70% من الإرث الجيني لبني يعقوب (إذا ما سلّمنا بالسرديّة الدينيّة)، فيما يسجّل المزراحي ويهود شمال أفريقيا ويهود السفاردي نسبة أقلّ (أكبرها لدى العراقيين، 40%). أمّا نتائج يهود الأشكناز كما يعرضها الفيديو الثاني فأكثر إثارةً، إذ بعد تحديدها العصر البرونزي مرجعاً، تعرض معدلاً عاماً يفيد أنّ نسبة الجينات الأكبر للأشكناز هي من شعوب جنوب أوروبا، وأقلّ منها من شمالها، ويفوق مجموعهما 50% من الجينات لدى الفرد كمعدّل عام، ثمّ 20% من جينات ميزوبوتاميا (بلاد ما بين النهرين)، و19% من “الشرق الأدنى”[3]، مع اختلافات كبيرة بين فرد وآخر من الأشكناز. عملياً، نستنتج أمرين، الأوّل، تماشياً مع السرديّة الدينيّة، هو أنّ الله لم يحقق وعده في حفظ بني يعقوب وشتت جيناتهم بين الأوروبيين (باستثناء السامريين). ثانياً، تماشياً مع وصف العالم ريتشارد دوكنز للكائنات الحيّة كآلات تستخدمها الجينات مؤقتاً للتناسخ والبقاء، أصبح الصراع من منظور بيولوجي بين تحالف جينات أغلبها أوروبي، ضد جينات بلاد الشام وبني يعقوب. ويحاول الأوّل إبادة الثاني مقلصاً الحقل اليعقوبي، ما يدعو للتأمّل في ما تعنيه ممارسات الإسرائيليين من إعاقتهم زواج الفلسطينيين وتحديد نسلهم، وما كشف عن ممارساتهم الساديّة من حقن يهوديات إثيوبية بـ”عقاقير العُقم“.
في الميثولوجيا: من “الغول” المحايد أخلاقياً إلى “غول” الإبادة
الباحثة في تأريخ الفن اللاسلطوي إيزابيلا سيغالوفيش (Isabella Segalovich)، هي يهوديّة شابة، تشرح في فيديو على “يوتيوب” كيف أدى تنميط الأوروبيين لليهود بأنهم ضعفاء، كما ذاكرة معاناتهم مع الأوروبيين، لنصيبهم الكبير من ضحايا الحرب العالميّة الثانية أو “الهولوكوست” (يشار إلى أن ضحايا أخرى لعنصريّة الاستعمار، تمتدّ أكثر زمنياً ولا تقلّ عنفاً، لا تأخذ الحيز ذاته من الاهتمام، أبرزها مجازر فرنسا بحقّ الجزائر). وتشير سيغالوفيتش إلى التغيّرات الطارئة على ثقافة وإرث اليهود الميثولوجي في عصر القوميات ومع استغلال الصهيونيّة لهذا الإرث صناعة “السوبرمان” اليهودي. فتتحدّث عن مدى تجذّر ميثولوجيا “الغول” (Golem) و”السوبرمان” في الثقافات اليهوديّة المعاصرة. وهي مجموعة قصص تطوّرت منذ القرن السادس.
والغول هو مخلوق صنعه حاخام من الطين ودبّ فيه الحياة. وأصبح محارباً ونوع من “عملاق لطيف”. ويعود جذر المصطلح وفق سيغالوفيش للنبي آدم في حكاية الخلق (Genesis) والذي سمّي “غوليم” وترجمتها “الغير ذو شكل”، أو جسد بلا روح. كما يتحدّث التلمود كيف كان حاخام جائعاً في الصحراء، فصنع “غوليم” عبر ترداده بعض التعويذات، ثمّ تغذّى عليه. كما نجد أثر هذه الميثولوجيا اليوم في الكثير من الحكايات والبرامج الترفيهية للأطفال. مثل كلمة “أبرا كا دابرا” (جذرها آرامي) وهي مذكورة في حكاية الخلق وتعني “أنا أخلق حين أتكلّم”. وتشير كل هذه القصص إلى قدرة الكلام في التأثير بالواقع. أمّا القصّة المعاصرة ل”الغوليم” فمغايرة، وتعود صياغتها لأواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وتقول أنّ “الغول” ولد من تروما ألم قديم جداً وعميق جداً، وأصبح هو المدافع عن اليهود.
وتشير إلى قصّة حاخام حقيقي في تشيكيا يدعى لاو، صنع “غوليم” لحماية اليهود من اضطهاد المسيحيين. وأصبح الغوليم فعّالاً في حماية اليهود، وفق السرديّة. وكان ذلك في القرن الثامن عشر، فترة التركيز على نقل قصص أفراد يهود أشدّاء، من رياضيين على أنواعهم، إلى المافيا اليهوديّة في الولايات المتحدة، وانتشار قصص “سوبرمان” الخياليّة الشهيرة، وتذكر عددا من أشخاص واقعيين وظفتهم الصهيونيّة في سرديّتها. مع الوقت تحوّل “الغوليم” من كائن محايد أخلاقياً، إلى بطل يتغذّى على الأرواح الشريرة، أشبه بأسطورة Hubris (بمعنى أنه زاد تعجرفاً وأصبح خطراً). بحيث أنّ هذه الشخصيّة لم تعرّض كثيرين إلى الأذى فحسب، بل عرضّت حتى صانعيها للأذى. بمعنى آخر فقد اليهود إحساسهم بهويتهم، وفق الباحثة التي ترى أنه لا يمكن فهم مجازر الإبادة التي تتعرّض لها غزّة اليوم، من دون فهم التروما المتجذّرة في الثقافة اليهوديّة.
وتوضح عملياً كيف جرى ذلك، إذ ادّعت الصهيونية أنه جرى العمل على إلغاء إحدى اللغات للأشكناز (اليديش) في فلسطين. وكرد فعل سعت إلى إعادة بناء الفرد اليهودي على أسس جديدة تستبدل ثقافة “اليديش” الضعيفة، بحيث يكون اليهودي عالي الثقافة ومتعلّقا بأرضه ويمتّع ببنية جسديّة سليمة وقويّة. وقامت أيديولوجيا اليهودي المتحدّث بالعبريّة الجديدة، كنقيض لليهودي المغترب الضعيف والمثير للشفقة والذي كان يتحدّث “اليديش”. ثمّ تقول أنّه على إثر “الهولوكوست”، توعّد العديد من المجموعات اليهوديّة المسلّحة بالانتقام من النازية، وقام بعضهم بعمليات بطولية من قبيل تحرير أسرى وإلحاق خسائر بالنازيين. وكان بين المقاومين مجموعة NaKam (أي الإنتقام) وكان هدفها قتل 6 مليون ألماني، وساقوا خطتين، الخطة “أ” وهي تسميم مياه الشرب، والخطة “ب” التي رسوا عليها هي قتل أكبر عدد ممكن من الألمان بعمليات مسلّحة. رغم عدم تطبيق الخطة “أ”، فقد كان مغرية، لإنها لا تميّز بين الألمان تماماً كما لم تميّز المحرّقة بين اليهود، وجرى تبريرها باستحضار النص الديني حول “العماليق” خصم بني إسرائيل، والتي دعا النص إلى إبادتهم تماماً لإحياء كرامة بني إسرائيل. لكن ما حصل أنّ الحرب انتهت، من دون أن يحقق الضحايا انتقاماً كافياً فأرادوا مجالاً لتفريغ انتقامهم وغضبهم. وكثير من هؤلاء صدقوا الدعاية الصهيونيّة وهاجروا من بلادهم إلى فلسطين، ووصلوا منهكين من الحرب، مع شعور انتقام لم يبرد. فيما تشير إلى أنّ عددا كبيرا من أعضاء الموساد هم من مجموعة NaKam، وآخرون من ال NaKam قادوا القوات المسلحة الصهيونيّة خلال أحداث النكبة. وطبعاً، إذا ما عدنا إلى طبيعة المجازر المرتكبة ضد القرى الفلسطينية، من تسميم آبار بعض القرى، إلى مجازر الحرق في الأفران، والقتل الجماعي بالرصاص لأشخاص عزّل، متسائلين من أين أتت مخيّلة العنف هذه، سندرك من خلال السياق الآنف ذكره من أين أتت.
في الأركيولوجيّا: انتزاع هويّة المكان بالنص المقدس والمجرفة
لا يمكن للسرديّة العلميّة بأي شكل أن تدحض أيا من سرديات الديانات التوحيديّة الإسلاميّة والمسيحيّة واليهوديّة حول الأرض وتاريخيتها وهويّتها، لكنها تحدّ بلا شك من بعض التفسيرات المتطرّفة، لنصوص يغلب فيها الطابع المجازي للوعظ والإرشاد على السرد التفصيلي الدقيق. وتجدر الإشارة بخصوص تسييس التاريخ، إلى أنّه ليس حكراً على الصهيونيّة، فالعلوم لم تكن منفصلة عن بعضها أصلاً قبل تقسيم العمل في الحقبة الرأسماليّة. أمّا في القرن التاسع عشر، عصر القوميّات، فتبنّت الصهيونية الفكر السائد في أوروبا من توظيف لشتّى المعارف الدينيّة والميثولوجيّة لأهدافها القوميّة. أمّا اليوم، يقول الباحث العراقي خزعل الماجدي “أصبحنا لا نعرف التاريخ على حقيقته إلّا بوجود وثيقة تدل عليه، وهذا لا يعني بأننا نصدق كل ما ما يأتي بالوثيقة”، ويضيف أنه “منذ انتهاء القرن التاسع عشر انقلب التاريخ انقلاباً كاملاً واتجه بقوّة نحو المختبر العلمي ولم يعد فناً أو أدباً أو رواية”.
وفي التسعينيات ظهر تيار جديد في الأركيولوجيا على الأراضي الفلسطينيّة. حين رفضت مدرسة جديدة من جامعة تل أبيب، بقيادة إسرائيل فنكلشتاين وزئيف هرتسوغ ونداف نعمان، “المنطق الدائري لعلم الآثار التقليدي وقدمت نهجًا أكثر نضجًا وانتقادًا”. كان نقد هؤلاء للتقليد الذي أرساه الأركيولوجيون المسيحيون منذ انتهاء القرن التاسع عشر، أنهم كانوا يحملون الكتاب المقدّس بيد والمجرفة باليد الأخرى. قكان هدفهم تأكيد النص الديني بالاكتشافات الأثرية. وغالباً ما كانت تستخدم الأركيولوجيا لأغراض أخرى، كالاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، ثمّ ضمّها للمستوطنات. أمّا أبرز ما يشار إليه بالنسبة للتيار الجديد، فالصدمة التي أحدثتها اكتشافات فنكلشتاين، حول أنّ الهجرة اليهوديّة من مصر القديمة إلى “أرض الميعاد” لم تحدث ولا توجد دلائل عليها، مشيراً إلى جفاف حلّ بالمنطقة أدى إلى نزوح شامل للسكان من الهضاب ليصبحوا رعاة متنقلين وعادوا عند استقرار المناخ، ولم يكن هناك خُروج جماعي من مصر، ولا غزو وفتح عنيف لكنعان. بل يشير إلى أنّ أغلب التواريخ في النصوص الدينيّة حول وجود الشعوب القديمة في أماكن معيّنة، لا تتفق مع ما تثبته الوثائق والأدلة والأركيولوجية. وعليه، أنكر وجود ملكية موحدة في أيام الملكين داود وسليمان. كما شكّك بوجود أي صلة لليهود بمدينة القدس المحتلة.
ويبدأ فنكلشتاين إحدى محاضرته بالقول “هذه المحاضرة تقارب الصورة الرسميّة لإسرائيل التوراة (biblical israel) كما هي عليها، وهو أمر أسهل لكن أكثر تعقيداً”. أسهل، لأنّ الجميع يتفق على أن الوصف التوراتي لحقبة الألفيّة الثانية قبل المسيح، لا يتعاطى مع أحداث حقيقيّة. أعقد، لأنّ أكثر الأدلّة سلبيّة الطابع، فيصعب عرضها. “كما أننا نتعاطى مع مصدرين مختلفين، يفهمها الدارسون كتمثيل لمصادر منوّعة من المؤلفين”. مثلاً، قصّة النفي (Exodus) وإنشاء الباترياركيّة مذكورة في التوراة، أمّا قصّة الغزو فمذكورة في كتاب جاشوا –في التناخ، الجزء الأوّل من التلمود- (أو سفر يشوع في العهد القديم في المسيحيّة). ويتابع أن “المصادر في التوراة التي منها أكثر الاقتباسات التاريخية، هي حكاية الخلق (genesis)، وكان يجري تقليديّاً إعادتها إلى تاريخ عشرة قرون ق.م لكن كان واضحاً من تثنية الكتابة Deuteronomistic writing أنها كتبت في وقت لاحق”. هذه التثنية أو التحريفات، كان لها وظيفة أيديولوجيّة كرد فعل على الحكم الملكي كما يقترح. ثم يفسر نتائج الأبحاث للتحقق من تاريخيّة الباترياركيّة، ويذكر أن أغلب قصصها تتشابه وقصص من ميزوبوتيميا (بلاد ما بين النهرين). ويمكن في هذا الصدد مراجعة كتب ومحاضرات خزعل الماجدي أو آخرين لحظوا التشابهات الهائلة بين المرويّات الدينيّة اليهوديّة وبين قصص ملوك السومريين وحكمائهم، والتي كشف علم الأركيولوجيا العديد من آثارها ووثائقها الأصليّة.
ونفهم حقيقة هذا الأمر أكثر، من خلال ندوة للباحث خزعل الماجدي، خصصها لهذا الموضوع، يشرح فيه عن ثلاثة تيارات تعمل في الأركيولوجيا الفلسطينية: الأوّل هو الذي يطبّق منهج علم الآثار الحديث كما هو، بحيث أنه إذا ما أردنا أن نعرف عمر جرّة مثلاً، نطبّق أدوات المعرفة الحديثة ونعرف التاريخ بصورة علميّة، وتجمع المعطيات من الحقل ويجري تحليلها بشكل موضوعي، وأعطى مجموعة أمثلة عن هؤلاء، ومنهم أفي شلايم وإيلان بابي. أمّا التيار الثاني فهو الذي أسسه الأركيولوجي وليام أولبرايت، ولديه تمويل كبير وهامش واسع من الحركة، وهو يعتمد على نحو واسع على النص الديني، وهو الذي كلمّا تم العثور على أثر ما يبحث في كيفيّة ربطه بالنص الديني. أمّا التيار الثالث فهو على حد تعبير الماجدي “التيار التوفيقي، أو التنفيقي (يقصد المنافق)، وهم علماء حقيقيون، ينسقّون بنعومة بين الآثار الحقيقية والرواية التوراتية”، ومن هؤلاء فنكلشتاين. ويشرح الماجدي أن الأخير بدأ حياة علمية ممتازة، وقدّم أبحاثاً مهمة جداً، لكنه بدأ يتنازل كلما تقدّم به الزمن، “حتّى وصل به الأمر لأن يقول أن ابراهيم تاجر معروف في بلاد كنعان”، وأنّ داود وسليمان شخصيتان تاريخيّتان حقيقيتان. وأشار إلى النقد الشديد الذي وجهه له العالم الأركيولوجي الشهير توماس تومسون في هذا الصدد. وللإيضاح أكثر يبدأ في محاضرته بتفنيد قصص الكتاب المقدّس، الواحدة تلو الأخرى حتى القرن الثامن ق.م، مشيراً إلى أنّ الأركيولوجيين لم يجدوا أثراً لأيّ منها. واستشهد بفنكلشتاين الذي يشير إلى أن مدينة مجيدو كان بناها الكنعانيون -نسج الصهاينة الكثير من السرديات حولها-، ويوضح كيف أنّ أسماء المدن بما فيها أورشليم، هي كنعانية وأمورية، كما يفنّد رواية أنّ هناك مملكة ضخمة أقامها الملكان داوود وسليمان، فيقول “هل يعقل أنه لم يجد العلماء أثرا واحدا عليها ولو حتى قطعة من جرّة”، ويشير إلى أنه لا ذكر لهما في كلّ حوليات الأشوريين الذين حاربوا ودخلوا البلاد في تلك الفترة، ولا ذكر لهما على الإطلاق عند المصريين. أمّا حول مملكتي السامرة وأورشليم فأكّد أنهما كانتا مدينتين كنعانينيتين تعبدان آلهة متعددة. وحين دمر الآشوريون السامرة عام 721 ق.م لم تكن اليهوديّة نشأت بعد كما يُزعم، حتّى أن الباحثين لم يجدوا أي أثر للّغة العبرية في تلك الفترة.
ويعود ليوضح أن اليهوديّة ظهرت في العصر الهلينستي (323 ق.م إلى 24 ق.م)، حين أراد بطليموس أن “يهلين” (Helenization) شعوب المنطقة، فقاومته شتى المدن وكذلك فعل سكّان يهودا (المدينة الكنعانية)، فأراد أن يعرف حول ديانة هؤلاء، ولم يكن وجود للتوراة بعد، وطالبهم بطليموس بترجمة كل مدوناتهم حول دياناتهم، “فوجدوا لأوّل مرة أنفسهم يكتبون نصاً واحداً متسلسلاً”. لكنهم بالغوا أمام بطليموس في نصوصهم المعروضة ليعلوا من شأن ديانتهم. أي أن بطليموس هو من جمع التوراة لأوّل مرّة باللغة اليونانيّة. وبدأت القصّة هنا، بتأسيس الدولة المكابية وبناء معبد يدعى معبد الإله شالم، وهذه الواقعة التاريخيّة لا يشير إليها النص الديني كما يقول الماجدي، وكانوا يُسمون حتى هذه اللحظة أهل “تورا” (أي التوراة)، أمّا كلمة يهودي فأطلقت عليهم في القرن الأوّل الميلادي من قبل بولس، كشعب لا كديانة.
[1] وفقاً للباحث العراقي خزعل الماجدي فإنّ إيل هو الإسم الكنعاني للإله، وزوجته هي الإلهة إسرا أو عشيرة، ويدّل الإسم على كلا الإلهين
[2] رغم أنّ ما يوجزه هو بديهيّات العلم، تجهد الدعاية الصهونيّة لتقول أنها استثناءاً للقاعدة. أما ما تقوله قاعدة توريث الجينات، فهو أنّ الجد لا يورث حفيده سوى 1/4 من الجينات، ويورث الجد السابع 1/100 فقط. أمّا جد مئة جيل (يوازون نحو 3000 سنة) فيورث 1 تقسيم 2*2 مئة مرة (صفر نظراً لمحدوديّة الجينات) في حال افتراض التزاوج من بين حقول جينيّة غير متجانسة. أمّا داخل حقل جيني واحد وبلا أي زواج خارجيّ فتستمر الجينات ذاتها بالفعل. لكن حتى لو تمايزت جماعة في أن حقلها الجيني بعد حقبة ما من التاريخ لم تدخله أنماط جينات جديدة، فلا يعني ذلك عدم مشاركة البشريّة لهم الكثير من الأنماط الجينيّة، إنما فقط يصبح التشابه فيما بينهم أكثر منه مع من هم خارج المجموعة. ويبقى أنّ الهويّة البيولوجيّة ليست الهويّة الوحيدة أو المهيمنة التي يعبر فيها الاشخاص عن أنفسهم.
[3] ونسبة قليلة من شمال أفريقيا وأقلّ منها من الترك (بالتالي شعوب الخازار)