
تصوير: داليا خميسي
احتاج ابني إلى مساعدة في إحدى المواد العلمية تحضيراً للشهادة الثانوية الرسمية. وبناء على إشادات بمناقبيّة إحدى المدرّسات، اتّفقنا أن تتعرّف وابني إلى بعضهما البعض. وقالت لي: “أنا بجي لعنده”. لم أسأل عن عمرها، فقط علمت أنّها معلمة ثانوية ماهرة في اختصاصها.
كانت الكهرباء مقطوعة كالعادة، فاعتذرت منها لاضطرارها لصعود أربعة طوابق. فتحتُ الباب ووقفت على رأس الدرج، أستقبلها. قبل باب البيت بأربع درجات، شاهدت سيّدة ستينية بالكاد تلتقط أنفاسها، متعبة قالت لي: “رح ارتاح شوي وكمّل لعندك”. حين جلسنا نتحدث، وجدت أمامي سيّدة مكسورة، فقدت ابنها العشريني في انفجار المرفأ، معلّمة تحمل شهادة ماجستير بجدارة في أحد الاختصاصات العلمية، تضطرّ في الستّين أن تعطي دروساً خصوصية لأنّ راتبها لم يعد يكفيها لإعالة نفسها في وقت لم يعد لضمانها الصحّي أيّ قيمة أو معنى.
يتزامن ذلك مع عيد المعلّم الذي “كاد أن يكون رسولا”، هذه الرسولة التي جلست أمامي قتلتها السلطة مرتين: عندما تسبب إهمالها بتفجير مرفأ بيروت وقتل فتاها العشريني، وعندما نهبت بلادنا وأفقدت راتبها قيمته الشرائية ودمّرت صمّام الأمان التقاعدي الذي عملت عليه لـ 37 عاماً من عمرها. أمامها خجلتُ من كلّ شيء، لعنتُ كلّ شيء، كفرتُ بكلّ شيء ولم أرغب سوى في ضمّها إلى قلبي والبكاء معها، علّها تفرج عن كلّ تلك الدموع التي كانت تبذل جهداً كبيراً لحبسها وراء عينيها الحزينتين.
لم أشعر قبلاً بهذا الإذلال لنا كمواطنين، لم أشعر بأنّ قلبي سينفجر كما شعرت وأنا أتأمّلها، كانت عزيزة النفس في زمن يسيطر عليه العهر السياسي والفاسدين.
متوفر من خلال: