عن المرأة الصغيرة ذاكرة البلاد: وداد حلواني مبروك قانون المفقودين


2018-11-14    |   

عن المرأة الصغيرة ذاكرة البلاد: وداد حلواني مبروك قانون المفقودين

نعم صحيح: لم تكن وداد حلواني وحدها، كما علق البعض على الإحتفال بها خلال اليومين الماضيين، وهي تتوج، بتاريخ 12 تشرين الثاني 2018، مسيرة 36 عاماً من النضال في قضية المفقودين والمختفين قسراً خلال الحرب اللبنانية. وهي تسمع صوت رئيس مجلس النواب نبيه بري يقول “صُدق” على اقتراح قانون ذوي المفقودين والمختفين قسراً في مجلس النواب، انهمرت غزيرة دموع تلك السيدة الضئيلة القامة التي أقامت البلاد ولم تقعدها على مدى 36 عاماً من الثبات في تكريس حق ذوي المفقودين ب “معرفة مصير أحبائهم”. وهي تبكي علا تصفيق كل من حولها من أصدقاء ومناصرين وداعمين أرادوا الوقوف بجانبها في هذه اللحظة التاريخية، تصفيق انتقل إلى قاعة النواب حيث وقف هؤلاء وصفقوا بدورهم لتلك الهامة التي شرفت مجلسهم بحضورها.

دموع وداد لم يرها يوماً كل من رافقوها في مسيرتها، منذ لحظة إختفاء عدنان حلواني في ظهيرة 24 أيلول 1982، من قبل. هذه الدموع انهمرت أخيرا لتعلن نهاية مرحلة من نضال المفقودين وتاليا بداية مرحلة جديدة.

لا بد أنها ذكرت في تلك اللحظات تلك الظهيرة. كانت تعدّ طبق كبة نية لزوجها وولديها زياد وغسان. قُرع باب المنزل، فتحه ابنها زياد ليجد رجليْن إدعيا أنهما من “الدولة”. عاد زياد ليكمل برنامجه التلفزيوني مع أخيه في غرفتهما، فيما لحقت وداد بيديها المغمستين بالبرغل بالمسلحيّن على درج المبنى تسأل عما يحدث. في رأسها عاد صوت عدنان يقول لها: “ما تخافي، خمس دقايق وبرجع”. وعد لم يتحقق. الغريب أن الرجل الذي أحبها ودللها وجعل منها “امرأة سعيدة مغناج لا تحمل هم حتى شراء علبة سجائرها” لم يخذل أي وعد لها من قبل. تقول “كان يحمل معظم مسؤولياتنا، لم أكن المرأة التي صرتها من بعده”.

اليوم، وتحديداً في 27 تشرين الثاني 2018، أي بعد 13 يوماً، يمكن لوداد حلواني أن تحيي مع رفاق دربها في لجنة أهالي المفقودين ذكرى 36 سنة من عمر اللجنة وضميرها مرتاح. سيكون على رأس الطاولة إنجاز القانون الذي يكرس حق ذوي المفقودين بمعرفة مصائر أحبائهم، ومعه الهيئة الوطنية للمفقودين. القانون الذي جاء بمثابة تصحيح ولو متأخر ولو مجتزأ لعفو عام استفاد منه جميع أمراء الحرب من دون أن يطلب منهم تقديم أي شيء لضحاياهم، ولا حتى معلومة، جوابا عن سؤال: أين هم. الجواب الوحيد كان: ماتوا. جواب عام على مطلب كل مفقود، أيا تكن المجموعة التي خطفته، من دون تفاصيل.. والأهم من دون أي إثبات.

لجنة أهالي المفقودين التي ولدت من رحم تلك الصولات والجولات التي شرعت بها وداد بعد اختفاء عدنان. من مخفر إلى آخر ومن مسؤول إلى الثاني، جاءتها الأجوبة “في متلك كتير”. قالت تلك السيدة التي تفاجأ الرئيس أمين الجميل في الثمانينات بحجمها الصغير، وهي تقف أمامه في القصر الجمهوري بثياب مشحبرة من دخان الإطارات المشتعلة بعدما أقفلت وأمهات وأخوات المفقودين معابر خطوط التماس بين “بيروت الشرقية وبيروت الغربية”. قال لها، وبعدما توسط لدى دار الفتوى عندها “هلأ إنت وداد يلي مسكرة البلد”؟

يومها اصطحبها أمين عام دار الفتوى إلى القصر الجمهوري لمقابلة رئيس البلاد الذي أبلغته السلطات أن دخان الإطارات المشتعلة على المعابر تقف وراءه امرأة بالكاد يتجاوز طولها المتر وخمسين سنتمتر.

في بحثها عن الكثر “يلي متلها”، تركت وداد مدرستها في برج أبو حيدر وتوجهت إلى إذاعة المرابطين لتوجه نداء “لمن لديهم مفقود في الحرب” ليلاقوها أمام جامع عبد الناصر على كورنيش المزرعة في ظهيرة 27 تشرين الثاني 1982. وهي تسرع بعد انتهاء دوامها في التعليم نحو موعد اللقاء. ظنت المرأة الثلاثينية أنها ستجد أربعة إلى خمسة أشخاص فقط بانتظارها. من رأس الزاروب المؤدي إلى الجامع، شاهدت وداد جموعا لا يقل عديدها عن مائتي شخص معظمهم من النساء والأطفال. بحثت المرأة الصغيرة عن حجر على جانب الطريق تعتليه ليراها الجميع وخطبت بالحاضرين، داعية إلى مسيرة نحو القصر الحكومي في الصنائع آنذاك.

يومها كانت الدولة قد أعلنت حال الطوارئ ومنع التظاهر. وحينها ضربت وداد ونساء اللجنة التي شكلتها للتو بقرار منع التجول عرض الحائط ليصطدمن بالدرك. انتهت جولة الكرّ والفرّ مع القوى الأمنية بقبول رئيس الحكومة شفيق الوزان لقاءهن. مقابلة خرجن منها خائبات بعدما قال لهن “العين بصيرة والإيد قصيرة”. ويومها تفرعت وداد إلى عشرات ال “ودادات”، ولم تعد تبحث عن عدنان واحد، صار كل المفقودين عدنان الأب والزوج والأخ والأخت والإبن/ة.

في اليوم التالي، خرجت الصفحة الأولى في صحف بيروت بصورة نساء لبنان في مواجهة القوى الأمنية. كانت المرة الأولى التي تخرج بها النساء ليس دفاعا عن حقوقهن البديهية والتقليدية في سلة حقوق المرأة، بل خرجن يطالبن بوقف الحرب وإعادة فلذات أكبادهن إليهن، والأهم بحقّ العائلات في معرفة مصائر المفقودين.

على مدى 36 عاماً، بقيت وداد خارج النمط التقليدي لنضال اللجان والجمعيات. لم تملك هي واللجنة مكتبا ينطلقن منه. كانت هي المكتب وتحت إبطها تتجول بكومة من الملفات والأوراق والصور. أما قلبها الكبير فكان وما زال مثقلاً بحكايا وقصص رفاق درب البحث المضني الذي كان يبدو غير مجدٍ. رفاق غادر معظمهم، فيما لم يبدل من بقي منهم تبديلا.

صالت وداد حلواني وجالت في المحافل المحلية والدولية. لم تترك باباً ينسجم مع قضيتها وأهدافها إلا وطرقته. نوّعت مع مجموعة من اللجنة وأصدقائها وداعميها في أساليب النضال وأعطت دروساً في فعالية بعضها. لجأت إلى القضاء الإداري لترغم الدولة على تسليمها ملف التحقيقات في اللجنة التي شكلت لكشف مصير المفقودين. ملف فارغ يشبه قلوب وضمائر سلطة لم تمدّ يدها إلى الناس المقهورين طوال عقود من الإنتظار. جلّ ما خرجوا به كان حلاً يريحهم ولا يريح ذوي المفقودين: وضعوا آلية قانونية تمكن الأهالي من توفية المفقودين ليقفلوا الملف. ليرتاحوا. لكنهم لم يدركوا أن حقا وراءه مُطالب لن يضيع، فكيف إذا كانت وداد ومن معها؟

اليوم، وقد وصلت إلى مبتغاها: قانون يضع آلية لكشف مصائر المفقودين والمختفين قسراً، هل ترتاح وداد حلواني؟

تقول عيناها اللامعتان في ذلك الوجه الجميل العتيق أن المعركة الفعلية قد بدأت الآن. انتزعت لجنة أهالي المفقودين القانون من براثن أمراء الحرب، وآن أوان وضع خطة واضحة ودقيقة لتنفيذه وتطبيقه مهما كان الثمن. لكي لا يبقى كمعظم القوانين في الأدراج.

قدرك وداد أن تبقي مقاتلة إلى مائة عام من عمر نتمناه طويلاً. ليس حبا بطيفك الخفيف الظل بيننا، بل لأننا نحتاج لمن يعطينا دروسا إضافية في النضال وعدم الإستسلام، والتأكيد أن الهزيمة ليست قدراً، وأن الحق حق مهما طال الزمن.

وداد حلواني كل الحب والفخر بحضورك في هذه البلاد، البلاد التي أحييت ذاكرتها ولم تتركِها تضمحل.

  • نشر هذا المقال في العدد | 57 |  تشرين الثاني 2018، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

القمع ليس حيث تنظر: نظام المقامات

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، عدالة انتقالية



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني