عن الإبادة الجماعية الاستعمارية لفرنسا في الجزائر


2025-03-11    |   

عن الإبادة الجماعية الاستعمارية لفرنسا في الجزائر
الاحتلال الفرنسي للجزائر. قسنطينة، 13 أكتوبر 1837. مطبوعة حجرية

في هذا المقال يبيّن المؤرّخ الجزائري المرجعي في تاريخ الاستعمار في الجزائر حسني قيطوني كيف يشكّل الاستعمار الفرنسي الاستيطاني للجزائر حالة نموذجية من الإبادة الجماعية الاستعمارية التي استند فيها الجيش والحكومة الفرنسية إلى ثلاث ممارسات مركزية الرازيا، ومصادرة الأراضي، والقوانين العنصرية.

نشكر الكاتب على قبوله ترجمة وإعادة نشر مقاله الذي صدر في جريدة “الوطن” الجزائرية. 

أوكلت القمة الأخيرة للاتحاد الإفريقي مفوضية الاتحاد توثيق جرائم الاستعمار وقياس تأثيراتها ووضع استراتيجية للتعويضات. ودعت القمة إلى “إجراءات قانونية” أمام المحاكم الدولية (مثل المحكمة الجنائية الدولية) وممارسة الضغوط الدبلوماسية اللازمة لتحقيق هذه المطالب. 

وقد كانت تلك القرارات ثمرة تضافر جهود الجزائر وغانا لتكون مسألة التعويضات إحدى ركائز “استرداد الكرامة الإفريقية”، التي تجمع العدالة التاريخية والتنمية المستقبلية. 

سنحاول في هذا المقال، أن نبرهن كيف يمكن اعتبار الجزائر حالة فريدة نظرًا إلى الطبيعة النموذجية للعنف الإبادي الذي ارتكب فيها وخصوصيتها في إنهاء الاستعمار. لذلك يكتسي تحليل تجربتها أهمية حاسمة في توثيق جرائم الاستعمار فيها.  

ولو أنّ الاستعمار أينما حلّ هو مشروع لـ “تفكيك الحضارة” عنصري وغير إنساني وتدميري للمجتمعات القائمة، تسبب لها بإفقار بنيوي وانبتات ثقافي، يبقى أنّ مجموعة من البلدان لديها خصوصيّات مرتبطة بطبيعة الاستعمار الذي خضعت له. 

فخلال الحقبة الأولى من الاستعمار (القرن السادس عشر – القرن الثامن عشر)، وقعت بعض الدول الإفريقية ضحية تجارة الرقيق التي أزهقت حياة 12 مليون شخص، وتسببت بكارثة ديمغرافية وثقافية ورمزية لا تزال آثارها مستمرّة حتى اليوم. وهو ما يطرح تحديدًا مسألة التعويض لضحايا العبودية.      

في الحقبة الثانية من الاستعمار (القرن التاسع عشر)، اتخذ الغزو الاستعماري أنماطًا أخرى تمثّلت بشكل خاص بالنهب والسلب الممنهج للثروات لصالح القوى المستعمرة. غير أنّه في حالات نادرة (الجزائر، جنوب إفريقيا، ناميبيا، كينيا، روديسيا – زيمبابوي اليوم)، اتّسم الاستعمار بـ “الغزو الاستيطاني الإحلالي”، ومن هنا جاء التمايز في الإشكاليات المتعلّقة بمطالب التعويضات في إفريقيا. 

بدأ استعمار الجزائر في اللحظة التي توقّفت القوى الغربية عمليًا عن الاهتمام بإفريقيا (1830)، باستثناء بعض المراكز التجارية الباقية من رواسب القرن السادس عشر، وفتح طريقًا لفرنسا لشنّ غزواتها في إفريقيا خلال القرن التاسع عشر. 

الجزائر: حالة نموذجية للاستعمار

يعتبر غزو فرنسا للجزائر استثنائيًا من كافة النواحي: كانت المرة الأولى في التاريخ الحديث (بدءًا من القرن السادس عشر) التي تقوم فيها قوّة أوروبية باستعمار بلد جار من خلال استيطانه! كانت المرة الأولى التي يستعمر فيها بلد مسيحي بلدًا مسلمًا من خلال استيطانه! كانت المرة الأولى التي تتدخل الدولة كقوّة استعمارية لمصلحة مهاجرين أوروبيين! كانت المرة الأولى – مقارنة بما جرى في أميركا – التي يخفق فيها استعمار استيطاني في تحقيق هدفه الأساسي ألا وهو تهميش السكان الأصليين ديمغرافيًا!  

مجمل هذه الأسباب الأربعة سوف تحدد سيرورة استعمارية تمتاز من جهة بالعنف الإبادي – في استمرار للديناميّات التاريخية بين عامي 1830 و1962 – ومن جهة أخرى بعنصرية تستهدف شعبًا مسلمًا، شكلت ركيزة الإسلاموفوبيا المعاصرة.

إضافة الى ذلك تفسّر هذه الأسباب أيضًا لماذا لم يؤدّ إنهاء الاستعمار إلى وضع حد للصراعات الثقافية والرمزية وحول الذاكرة بين فرنسا والجزائر. وتاريخيًا، ثمّة حالة وحيدة يمكن مقارنتها بالجزائر، ولو أنّها تعتبر شكلًا أكثر حدّة منها، هي حالة فلسطين اليوم.  

مسألة الإبادة الجماعية

ثمة تفسيرات شعبية لمصطلح الإبادة الجماعية بعيدة عن معناه الأكاديمي. وقد صاغ المصطلح رافاييل ليمكين وكان تعريفه الأصلي يشمل حتى تأثيرات الاستعمار (ديرك موزيس). ولكن المعنى الذي اكتسبه في الاتفاقية الدولية الخاصة بالإبادة الجماعية عام 1948، هو نتيجة مفاوضات صعبة نجحت خلالها الدول الإمبريالية في تحجيم نطاقه الزمني ومجال انطباقه. 

من هنا أصبح اليوم مستحيلًا، في إطار المؤسسات الدولية وفي ظلّ موازين القوى العالمية، تطبيق توصيف الإبادة الجماعية على جرائم الاستعمار. إذًا، لماذا استخدام هذا المصطلح طالما ليس لديه مغزى قانوني وعمليّاتي؟

يشار إلى أنّ هذه مسألة لا تأخذ حيّزًا من النقاش في الجزائر على عكس دول أخرى، لأسباب على رأسها المشاكل العويصة التي تثيرها. (أنظر ويليام غالوا، وبنجامين بروير، وريموند إيفانز، وديرك موزيس، ولورنزو فيراسيني، وغيرهم). ولكنّ دراسات كهذه، تشجّع على الخروج من إطار التفكير الأوروبي والإمبريالي، من أجل الاستفادة من المكتسبات النظرية المعاصرة ووضعها في خدمة رؤيا مستقلّة وسيادية في منظور ديكولونيالي. 

الإبادة الجماعية: ممارسة اجتماعية عالمية 

أظهرت أعمال ديرك موزيس، المتخصّص بالإبادة الجماعية، إلى حدّ كبير أنّ المفهوم الأصلي الذي وضعه رافاييل ليمكين يشير بالفعل في مجال انطباقه إلى جرائم الاستعمار. وبالتالي سنعتمد هذا التعريف هنا لتحليل كيف يعتبر استعمار فرنسا للجزائر، إبادة جماعية.

لكن إن كان الإطار المفاهيمي الذي قدّمه ليمكين ينطبق على الحالة الجزائرية، فمن الضروري أن نحدد بشكل ملموس ما الذي يشكّله بالنسبة إلينا نحن الجزائريين “تدمير النموذج الوطني للجماعة البشرية المضطهَدة” الذي يشير إليه ليمكين وما هي الأثار الإبادية لعملية “فرض النموذج الوطني للجماعة المضطهِدة”.

إضافة إلى ذلك، يشدد ليمكين في توصيفه للإبادة الجماعية، على “الحاجات الثقافية” التي تشكّل حياة الجماعة البشرية، التي “تعتبر في الوقت نفسه ضرورية بقدر الحاجات الفسيولوجية الأساسية”. من هذا المنظار، تعدّ الإبادة الجماعية ممارسة اجتماعية عالمية تستهدف القضاء على الظروف التي تسمح بإعادة إنتاج جماعة بشرية.

وهذا يعني أن ليس كل مجزرة هي بالضرورة إبادة جماعية. بل إنّ تجريد شعب من أرضه، وتهجيره، ومحو طابعه الوطني، والقضاء على نخبه، وعلى زعمائه الروحيين، وأماكن عبادته، ومنعه من استخدام لغته، هي عناصر مشكّلة للإبادة الجماعية. فهي تساهم في تدمير الأسس الضرورية للحياة من أجل قطع الطريق على التطوّر الطبيعي والسيادي للجماعة البشرية. فالاستعمار الاستيطاني هو بجوهره إبادي لأنّه يهدف إلى الاستحواذ والسيطرة على فضاء معيّن (الأرض) على أساس عرقي. 

ومن أجل فهم ما يدمّره الاستعمار، لا بدّ من العودة إلى الضحية، فهي وحدها من يمكن أن يحدد ما هو الضروري لحياتها وما الذي إن انتفى وجوده، سيجعل بقاءها على قيد الحياة مستحيلًا. بعبارة أخرى، يعود للضحية وصف الطبيعة الإبادية لأفعال المستعمر.   

الإبادة الجماعية الجزائرية

الاستعمار الاستيطاني للجزائر هو مشروع لإحلال شعب غازٍ مكان السكان الأصليين. ولتنفيذ هذا المشروع، اعتمدت الحكومة الفرنسية سياسة حازمة، مستخدمةً وسائل عسكرية واقتصادية ومؤسّساتية، وأساليب عملياتية وإجراءات مستمرّة لتحقيق الهدف نفسه. واستطاعت تأسيس مستعمرة استيطانية على التراب الجزائري كنتيجة مباشرة لاختفاء ثلث الشعب الجزائري.    

يمكن تسمية هذه الجريمة بـ “الإبادة الجزائرية” وبعبارة أخرى القضاء على جماعة بشرية مرتبطة بأرضها منذ قرون وإحلال مهاجرين قادمين من أوروبا مكانها. وعملية الإخفاء/الإحلال هذه تشكّل قالب أو مصفوفة “الإبادة الجزائرية” وهي ممارسة اجتماعية شاملة تؤثر على جميع جوانب حياة السكان الأصليين. في هذا المقال القصير، نريد أن نثبت أنّ هناك مشروعًا إباديًا فعليًا يرتكز على ثلاث ممارسات اجتماعية ذات طبيعة إبادية اعتمدها الجيش والحكومة الفرنسية في الجزائر: الرازيا (الإغارة)، ومصادرة الأراضي، والقوانين العنصرية.  

1. الرازيا (الغزوة) أو الشكل الطاغي للإبادة: من أجل تحقيق أهداف الاستعمار، تبنّى الجيش الفرنسي عقيدة “الرازيا” كطريقة عملياتية للقتل والإفقار. وقد انتشر هذا المصطلح بشكل كبير إلى درجة أنّه فقد معناه الأصلي. وقد وثّق مؤرّخون استخدامه على نطاق واسع، وتأثيره على المدنيين، من بينهم ويليام غالوا وبنيامين راور وتوماس ريد. 

وأبعد من كونها مجرّد عملية نهب، تشكّل الرازيا عنصرًا مركزيًا في الحرب الشاملة. فهي عمليًا هجوم خاطف على قبيلة يبدأ بمجزرة جماعية لا تستثني أحدًا، يتبعها نهب ممنهج لموارد القبيلة وإفراغ صوامع القمح، والاستيلاء على المواشي ونهب كل ما يمكن حمله من مصاغ وسجّاد وملابس وأسلحة إلخ.. وتنتهي الرازيا بالاحتفاظ بنساء وأطفال رهائن. الرازيا إذًا هي قتل في الحاضر وفي الوقت نفسه مشروع قتل مستقبلي لأنّها تترافق مع تدمير ممنهج للمحاصيل والأشجار المثمرة وأدوات الإنتاج لمجموعة بشرية. وهذه الأفعال ليست عشوائية ولا تشكّل استثناءً بل هي مدروسة وموجّهة من أجل تحقيق الأهداف الاستراتيجية للاستعمار.     

2. مصادرة الأراضي وتهجير السكان: إنّها ممارسة اجتماعية تهدف إلى تجريد السكان من الأرض الصالحة للزراعة. وقد صادر الاستعمار في مناطق التلّ خمسة ملايين هكتار. ونقل أصحاب هذه الأراضي بالقوّة إلى أراض أخرى وهو ما أحدث قلب إطار حياتهم رأسًا على عقب وجرّدهم من محيطهم المعيشي والتقليدي وموارد المياه والغابات وما إلى ذلك. 

3. القوانين العنصرية: تهدف إلى إخضاع السكان الأصليين لسلطة استثنائية عرفت بـ “قانون الأهالي” من أجل ممارسة القمع ومصادرة الأراضي والتهجير والسجن في حق السكان الأصليين بموجب إجراءات إدارية في جميع المجالات من ضمنها الاقتصادي.  

ضرائب عنصرية (تسمّى الضريبة العربية) لوضع مواردهم في خدمة الاستيطان الاستعماري، قانون للأحوال المدنية لتدمير الروابط الاجتماعية. ترحيل قسري لاكثر من 30 ألف جزائري وهو أمر يطرح مشكلة تتعلق بتعويض الجاليات الجزائرية التي رحّلت إلى كاليدونيا الجديدة وغويانا إلخ..   

هذه الخطط الثلاثة نفّذت بتناغم جدلي في إطار ممارسة اجتماعية إبادية شاملة. فهي مجتمعة تمثّل عنفًا إباديًا، ونهبًا اقتصاديًا وتشريعًا عنصريًا لصالح إحلال الشعب الغازي وإحكام هيمنته. فمن أجل إحلال مستوطن واحد على التراب الجزائري، كان يجب تصفية ثلاثة سكان أصليين وإخضاع الناجين لنظام عنصري. هذه كانت “فوائد” الاستعمار.  

تحوّلت الرازيا، كعنصر مركزي في حرب فرنسا الشاملة في الجزائر، بحسب وتوماس ريد، إلى استراتيجيا عملياتية في الحروب الحديثة نرى اليوم إحدى تجلّياتها الملموسة في غزة. 

وللمزيد من الاقتناع، لا بدّ من العودة إلى شهادات من تلك الفترة لنكتشف ضخامة الفظائع: “كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجرًا، وكان الجنود الذين فتك بهم الجوع، يدخلون المنازل واحدًا واحدًا بشراسة لا يمكن وصفها. وبالكاد كان الفلّاحون البؤساء في وادي تاورقة  قادرين على الدفاع عن منازلهم. يومها وقعت مذبحة هائلة انتهت بإحراق 15 قرية، والتهمت النيران الوادي بأكمله وغصّت البساتين بالجثث، ومن ضمنها كان يمكن أن نحصي، برعب أكثر منه بفخر، نساء وأطفالًا مذبوحين”. 

**

هذه نسخة معرّبة من النص الأصلي المنشور بالفرنسية على موقع جريدة الوطن، تجدونه على الرّابط

تعريب لمياء الساحلي   

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، الجزائر ، فرنسا ، جريمة الإبادة الجماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني