ليل الثلاثاء 25 شباط 2020، قطع فيديو انتشر على صفحات الإعلام الاجتماعي أخبار الأزمات ووباء الكورونا والسجالات الطاحنة في البلد. تسمّر المستخدمون أمام مشهد يقطّع القلب لسيّدة متّشحة بالسواد تنتحب قبالة قبرٍ متوارٍ وراء سياج. لا نفهم في البداية لماذا السيّدة من الجانب الآخر للسياج، ولماذا نحسّ في نحيبها حرقة مضافة إلى فاجعة الموت بحدّ ذاتها.
لا تلبث التفاصيل أن تتكشّف شيئاً فشيئاً: السيّدة هي أمّ مفجوعة تنتحب على قبر ابنتها التي حُرمت منها بقوّة نفوذ الطليق الذي منعها حتى من المشاركة في دفنها وزيارة قبرها. الأم هي لينا جابر، وإبنتها هي مايا إسماعيل التي قتلت في 25 كانون الأول 2019 ولم تتجاوز الـ15 من عمرها بطلق ناري في ظروف لم تتكشّف ملابساتها بعد. وليل الثلاثاء كانت المرّة الأولى التي تتجرأ لينا على الاقتراب من السياج الذي يقع وراءه قبر ابنتها في حديقة منزل الوالد، طليق لينا الذي لم يكتفِ بانتزاع الإبنة وشقيقها الأكبر محمد من الأم بعد طلاقهما في 24 أيار 2017 بل منعها من رؤيتهما وصولاً إلى طردها من مأتم مايا ومنعها من زيارة القبر.
بين سندان الحسرة ومطرقة نفوذ الطليق
وسط صمت الأم التي ترفض الحديث إلى وسائل الإعلام وصمت الأب علي إسماعيل أيضاً وعدم ردّه على اتصالاتنا ولا حتى على الرسائل التي بعثناها إليه عبر تطبيق "واتساب"، نستند في هذا التحقيق إلى مصادر ثالثة بينها شقيقة الأم زينة جابر وأقارب للضحيّة تحدّثوا إلى "المفكرة" مع التحفّظ على ذكر أسمائهم خوفاً من الوالد الذي يتمتّع بحسبهم بنفوذ كبير جداً. كما تحدثنا إلى مختار السماعية بلدة الأب، حسين الراعي.
يجمع جميع من تحدثت إليهم "المفكرة" على أنّه يوم مقتل مايا مُنعت لينا وأقاربها من بلدتها قانا الجنوبية من المشاركة في المأتم وحُرمت أيضاً من زيارة قبر الإبنة الذي اختار الوالد أن يكون ضمن أملاكه الخاصة في السماعية.
وتقول شقيقة لينا، زينة جابر التي التقطت الفيديو، لـ"المفكرة" إنّهما لم تتجرّآ سابقاً على الاقتراب من القبر خوفاً من الطليق "النافذ" إلّا أن الأم بعد مرور شهرين على الحادثة لم تعد تحتمل وقالت لأختها إنها تريد الذهاب "واللي بدّه يصير يصير".
تتابع زينة أنّها حين توجّهت وأختها لزيارة قبر مايا "كان هناك بوابة مغلقة بجنازير وأقفال منعتهما من الدخول، لذلك وقفنا قبالة السياج، ومع انتشار الفيديو قام طليقها (علي إسماعيل) بفتح البوابة، وكأنه يقول بأن السياج لم يكن مغلقاً، وأن ما تقوم به لينا هو مشهد من أجل استعطاف الرأي العام".
وتشدد الشقيقة على أنّها التقطت الفيديو ونشرته لتوثّق العذاب والألم الذي تمر بهما شقيقتها وتحسّباً لأي اعتداء قد تتعرّض له. وتقول إنّها كانت تطلب من شقيقتها خفض صوتها كي لا يتعرّض لهما أحدٌ بالأذى، وطلبت منها المغادرة فوراً عندما شاهدت أحد سكان المنزل يقف قبالة الشباك: "خفنا وهربنا". وتؤكّد أنّ لينا لم تعلم بشأن الفيديو إلّا بعد نشره.
وما لبث أن انتشر الفيديو كالنار في الهشيم على جميع وسائل التواصل والإعلام الإجتماعي، محوّلاً القصّة إلى قضية رأي عام خصوصاً أنّ ظروف مقتل الطفلة غير واضحة حتى الآن.
غموض يحيط بمقتل الإبنة
تعددت الروايات المتناقلة حول ظروف مقتل إبنة الـ15 ربيعاً في كانون الأول الماضي، بين فرضية انتحار يستبعدها الأقارب على اعتبار أنّ "مايا طفلة واعية ومفعمة بالحياة"، وروايات على ألسنة أشخاص من المنطقة يشيرون إلى خلافات مالية بين الوالد والقتَلة استهدفوا الإبنة انتقاماً ورواية متداولة بين سكّان المنطقة بأنّ الطلقة التي أردت الإبنة خرجت عن طريق الخطأ من مسدس الأب. وتتوافق هذه الرواية الأخيرة مع ما نشرته "النهار" في اليوم التالي لمقتل مايا في 26 كانون الأول 2019، نقلاً عن مصدر في قوى الأمن الداخلي لجهة إنّ الطلقة خرجت "من مسدس والدها من طريق الخطأ، وفق ما أظهره التحقيق".
وتقول مصادر متابعة للتحقيقات لـ"المفكرة" إن الاتجاه في التحقيق يميل إلى الفرضية الأخيرة وبأنّ "الأب ترك مسدّسه ملقّماً في المنزل وحين أمسكته الإبنة خرجت الطلقة وأردتها"، لافتة إلى أنّ الأدلّة الجنائية حضرت إلى مكان الجريمة وأجرت المقتضى وأنّ التحقيق لم يختم بعد.
تقول زينة شقيقة لينا إنّه بعد الحادثة أخذت المستشفى والدرك إذن الأم لدفن الإبنة أثناء وجودها في المستشفى وأنّ الطليق وعدها بأن يدفنها في مقبرة الضيعة. ولكنّ الأخير لم ينّفذ شيئاً من وعوده، ويوم المأتم حضرت لينا مع أهلها وأقاربها من قريتها قانا ولكنّ الأب وعائلته طردوهم ومُنعت الأم من حضور الدفن. ولاحقاً علمت أنّه تمّ دفن الإبنة في حديقة منزل والدها ووضع سياجاً حوله.
تنفي زينة ما نقله البعض عنها بأن الأم تنازلت عن ولديها للأب كما تشير بعض الروايات، ويؤكّد أقارب الضحية أنّ الأخير منع الأم من رؤية الولدين وأنّ الإبنة كانت تتنقّل دائماً برفقة أشخاص يعملون مع والدها، مرجّحين أن يكون للأمر علاقة بمنعها من رؤية والدتها والبقاء معها.
وتحرص زينة على الإشارة إلى أنّ بعض وسائل الإعلام نشرت على لسانها الكثير من الكلام المضلّل وأنّ ذلك فاقم مشكلة الأم وزاد تهديد الأب لها ولعائلتها وطرح الكثير من علامات الاستفهام حول الأم. وطلبت التعامل بمسؤولية مع القضية، لأنّ الأم وعائلتها هم من يتلقّون التهديدات، مؤكدة على خوفها من نفوذ الوالد الذي لديه علاقات مع كبار الضباط والسياسيين.
بدوره يقول مختار بلدة السماعية حسين الراعي في اتصال مع "المفكرة" إنه يتعاطف مع الأم، "لأن ما تم نشره يبكي الحجر" على حد تعبيره، نافياً ما تم تناقله على صفحات التواصل الاجتماعي عن منع أهالي بلدة قانا (مسقط رأس الأم) من المشاركة في مأتم الإبنة، إلا أنه لم ينفِ فرضية الإشكال الشخصي بين العائلتين وأنه تم طردهم من منزل الأب حصراً وليس من البلدة.
ويضيف الراعي أنّ الوالد وعائلته لديهم "عقلية خاصة" لذلك لم يكن بإمكان المختار أو البلدية التدخّل في مكان دفن الإبنة ولو كان دفنها في أملاك خاصة منافياً للقانون، على حد قوله.
ويقول المختار إنّه لا يمكنه التدخّل في هذا الأمر بالذات ولا حتى في قضية نزع السياج بدون مؤازرة أمنية، لأن "الوالد لديه نفوذ قوي ومعروف بسلوكه".
عن أمّ لا حول لها ولا قوّة
تعيد المحامية فاديا حمزة، وصاحبة صفحة "ثورة امرأة شيعية" على فيسبوك، في حديث مع "المفكرة" قضية لينا إلى "سطوة وقوّة أب نافذ لم تستطع الأم مجابهته فضلاً عن مسلّمات عرفية تنم عن ثقافة شعبوية ذكورية تفرض نفسها وهي سبب معاناة الأم". ولكنّها تضيف أنّ "عدم إلمام الأم بالقوانين وبحقوقها، زاد الطين بلّة، فالإبنة قتلت وهي في الـ15 من عمرها أي أنها تجاوزت سن الحضانة منذ زمن بعيد، إذ أنّ سن الحضانة للفتاة لدى الطائفة الشيعية ينتهي ببلوغها سن التكليف الشرعي أي 9 سنوات وأقلّ. وبمجرّد بلوغ الفتاة هذا السن أي 9 سنوات وفقاً لأحكام الفقه الجعفري تخيّر بين السكن مع الأم أو الأب". علماً أنّ سن التخيير ليس ثابتاً دائماً ويختلف من قاضٍ إلى آخر ويحتكم فيه البعض إلى مستوى وعي الطفل ونضوجه ومدى أهليته للاختيار.
وتحرص حمزة على التأكيد بأنّ "كلامها هذا ليس دفاعاً عن المحكمة الجعفرية ولا عن قراراتها التي تحرُم الأم من حضانة أولادها، إنما من أجل توضيح الحقائق أمام الرأي العام، كي لا نخلط بين القضايا الاجتماعية الظالمة والقضايا الحقوقية الشرعية".
وتشير المحامية حمزة إلى أنه "من الضروري توعية النساء على حقوقهن، وفي مثل قضية الأم لينا، السبب في حرمانها من ابنتها، بل جهل الأم بحقوقها وعدم قدرتها المادية على المتابعة في المحاكم". علماً أنّ تأثير نفوذ الأب وسطوته واضح على خيارات الأم في اللجوء إلى القضاء العدلي أو القضاء الجعفري.
وتوضح حمزة أنّ الهدف من إنشاء صفحة "ثورة إمرأة شيعية" هو تسليط الضوء على معاناة المرأة الشيعية في المحاكم الشرعية الجعفرية في لبنان في ظل الفتاوى المعمول بها والأحكام الاستنسابية التي تفتقد للعدالة.
أما فيما يتعلق بدفن مايا في الأملاك الخاصة للأب، وهذا الأمر يجرّم قانوناً، تقول حمزة إنها على تواصل مع وكيل المجلس الشيعي المحامي ضياء الدين زيبارة، من أجل العمل على حل القضية وتمكين الأم من زيارة قبر ابنتها والإقتراب منه وإزالة الحواجز والأسلاك لتتمكن من زيارتها متى شاءت.
وتتابع أنه "تم تكليف مفتي مدينة صور الشيخ حسن عبدلله لمتابعة القضية، حيث أنّ هناك أصولاً شرعية وقانونية لا بد من إتباعها للسماح بالدفن في أماكن غير المقابر العمومية حيث تجيز الأحكام نقل الجثة إلى مقبرة عمومية بناء على طلب الأهل".
وفي اتصال مع "المفكرة" يقول مفتي صور الشيخ حسن عبدالله، إنّ "للأم حق رؤية قبر ابنتها متى شاءت حتى لو كانت في أملاك خاص ولا يحق لأحد منعها وهذا حكم شرعي لا مساس به"، موضحاً أنّه "يمكنها أن تأتي إلى المحكمة الجعفرية والحصول على أمر شرعي بزيارة القبر وممنوع أن يتعرّض لها أحد".
وعن دفن الإبنة في ملك خاص، قال إنّه "لا شيء في الشرع أبداً يمنع الدفن في أملاك خاصة"[1]، ولكن بخصوص نقل الرفات إلى مقبرة عامة، قال إنّ "الأمر ليس من اختصاص المحكمة الجعفرية بل النيابة العامة"، علماً أنّه "شرعاً لا يجوز نقل الجثة إلّا لسبب وجيه من دون هتك للميّت".
ورداً على سؤال عن تجاوز الإبنة سن التخيير لدى حصول الطلاق، أكّد المفتي ذلك وقال إنّها لم تقدّم أي طلب لدى المحكمة بذلك، ولكنه قال إنّه ليس لديه تفاصيل عن الأسباب التي منعت الأم من رؤية ابنتها بعد الطلاق.
وأضاف "بالشرع، حين تبلغ الإبنة عمر التسع سنوات، لدى الأم أو الأب الحق الشرعي أخذ الولد بالتخيير أي أن يختار أن يعيش لدى والدته أو والده".
[1] ثمة أصول مدنية يقتضي احترامها في حال الرغبة بدفن جثة في أملاك خاصة، وهي أصول لم يتم مراعاتها في هذه الحالة.