صورة متداولة لموقع منزل آل داغر المدمّر في بنت جبيل
“عاشوا معًا ومضوا معًا”، عبارة قالها كثر ممّن عايشوا الأشقاء الثلاثة، عامر وفوزية وتغريد داغر، الذين ولدوا معًا سكنوا معًا وعملوا معًا وعاشوا معًا حتى ليل الإثنين في 15 تموز الماضي، حين دمّرت منزلهم غارة إسرائيلية في حي العويني في مدينة بنت جبيل. سرقت إسرائيل حياتهم، تاركة حزنًا عميقًا في قلوب كلّ من عرفهم وأحبّهم، فيما نجا شقيقهم الرابع غازي وعائلته، بعد أن دمّرت الغارة جزءًا من منزله المجاور لمنزل أشقائه.
كلّ من عرف عامر وفوزية وتغريد، من قاطني بنت جبيل ونازحيها ومغتربيها ومعهم سكان القرى المجاورة، يتحدّث عن إحساسه بدفء الألفة لدى زيارتهم في دكّان عامر ومكتبة تغريد وفوزية، عند ساحة السرايا وسط سوق بنت جبيل. ويتحدث تحديدًا عن ابتسامة الأشقاء التي لا تفارق وجوههم، لِما يخزّنون من المحبّة والكرم والعطاء والكفاح والكد والتعب، من أجل حياة كريمة. وكل من سألناهم عن الأشقاء الثلاثة يستذكر والدهم الراحل جميل داغر الذي أعطى لساحة السراي وسوق بنت جبيل نكهة خاصّة، من خلال شهرته في صناعة الحلويات، واجتذاب كلّ القاصدين والعابرين إلى ذلك دكانه الصغير المتصدّر قلب السوق التجاري.
يستمر مسلسل النزف في بنت جبيل، كما في باقي قرى الجنوب، حيث سقط في البلدة منذ بداية العدوان الإسرائيلي 18 شهيدًا وشهيدة.
14 شهيدًا و4 شهيدات
استهدف بنت جبيل كما باقي القرى المجاورة لها ولو ليس بالكثافة نفسها، وصمد فيها جزء كبير من أهلها وجزء من الذين نزحوا ومن بينهم الأشقاء الثلاثة عادوا إليها بعد حين لأنّهم لم يتحمّلوا البعد عنها وشقاء النزوح.
واستهدف الطيران الحربي الإسرائيلي منازل سكنية مأهولة فيها منذ بداية الحرب وكثّف غاراته في الآونة الأخيرة. وبلغ عدد الشهداء من أبناء البلدة منذ الثامن من تشرين الأول وحتى كتابة هذا المقال 14 شهيدًا و4 شهيدات من ضمنهن تغريد وفوزية داغر، والشهيدة شروق حمّود التي استشهدت مع زوجها إبراهيم بزّي وشقيقه علي في غارة إسرائيلية في 27 كانون الأول 2023. ومن بين الشهيدات أيضًا سمر السيّد شامي التي استشهدت في غارة إسرائيلية استهدفت سيارة عنصر حماية في “حزب الله” عند أطراف بلدة كفرا، في 21 كانون الثاني 2024، وصودف مرورها من هناك متوجّهة إلى بنت جببل للمشاركة في تشييع سيّدة من أهلها.
الجذور عروبية والأسماء تيمّنًا بجمال عبد الناصر وقائد جيشه
بالنسبة إلى الصحافي عدنان بيضون، ابن مدينة بنت جبيل والمهاجر منها إلى ديترويت الأميركية منذ العام 1987، “لا يستقيم الحديث عن شهداء الغدر الصهيوني الحاقد عامر وفوزية وتغريد دون التوقف أولًا عند والدهم الراحل جميل داغر”. ويروي بيضون في اتصال مع “المفكرة القانونية” علاقته بأبي فايز، ويصفه بأنّه “صاحب سيرة عروبية قومية، جذورها في فلسطين التي عمل فيها في مطلع شبابه، وصولًا إلى حقبة الخمسينيات والستينيات التي شهدت المدّ الناصري وكان أبو فايز من المتحمّسين لها ومن مواكبي أحداثها بكل الاهتمام”. ويشير إلى أنّ نجليه الشهيد عامر وأخيه ناصر قد سمّيا بهذين الاسمين تيمّنًا بالرئيس جمال عبد الناصر وقائد جيشه عبد الحكيم عامر. ويضيف: “أعرف أبا فايز وأعرف ام فايز حق المعرفة، منذ أن كنت طفلًا. كان منزل والدي بالقرب من دكانه. أبو فايز داغر عاش في فلسطين قبل الـ 1948. كان شابًا رياضيًا وملاكمًا في حيفا. وكنا نقول عنه بلغتنا الشعبية “قبضاي”، ولكن بآدميّة، لم نسمع منه كلمة أو تصرّفًا يعيب عليه. كان يحترم الصغير والكبير وأولاده ساروا على خطاه وعلى النهج نفسه، من خلال علاقتهم مع الناس والجيران، ومن خلال تعاملهم التجاري، فهم أمناء وغير جشعين”.
ويتابع بيضون: “كنت يافعًا، أشاهد حماسة أبي فايز عندما يلقي عبد الناصر خطابه وتحديدًا في العام 1967 كنت أجلس بجانبه، وأبو فايز يتحمّس ويحلّل ويناقش الخطاب. وعندما عملت مدرّسًا في مدرسة بنت جبيل، كنت أقصده لشراء جريدتَي السفير والنهار بشكل يومي. كان يطلب مني الجلوس معه والاستماع إلى رأيي ويستأنس به كوني قارئًا نهمًا للصحف”.
وفي رثائه للأشقاء الثلاثة، يروي بيضون أنّه بعد رحيل أبي فايز تولّى ابنه غازي مسؤولية إدارة الدكان بمساعدة شقيقتيه الشهيدتين تغريد وفوزية وشقيقيه الشهيد عامر وناصر التوأمين (على ما أتذكر)، قبل أن يفتتح محلًا آخر لبيع المواد الغذائية في حي البركة ويترك دكان السوق لأخوته وأخواته الذين عاشوا سويًا في البيت والدكان” ويتابع “حافظ الشهيد عامر وأخوه ناصر وشقيقتاه الشهيدتان تغريد وفوزية ومن خلفهم الأخ الأكبر غازي على إرث الوالد الراحل بحسن التواصل مع الناس والأمانة والصدق في التعامل حتى امتلكوا رصيدًا غنيًا من المحبة والاحترام وظلّ دكان أبي فايز مكانًا للألفة والتواصل بين العابرين والمقيمين ومثله محل نجله غازي”.
ذاكرة جيلين
محمد بزي وهو أحد أقرباء عائلة داغر المنكوبة، يقول في اتصال مع “المفكرة” إنّ أفراد عائلة داغر يمثلون الذاكرة الشعبية للجيل القديم والجيل الجديد، الجميع يستذكر صمودهم في البلدة، لم يتركوها حتى في ظل الاحتلال. في كثير من الأحيان كانت دكّانهم، المكان الوحيد للقاءاتنا وأحاديثنا العامّة عن وضع البلد وأحوالنا. هم يتواجدون في الدكان كل يوم، نقصدهم باستمرار لشراء حاجاتنا ولقضاء وقتنا، في وسط البلدة”. ويضيف أنّ الشهداء الثلاثة ومعهم شقيقهم غازي لا يفترقون أبدًا، عاشوا في البلدة في زمن الاحتلال ولم يتخلّوا عنها في عدوان تموز. منذ فترة غير بعيدة، تركوا البلدة، ونزحوا إلى عند شقيقهم ناصر الذي يقيم في الشويفات في ضواحي بيروت لمدة عشرين يومًا، غير أنّهم لم يتحمّلوا البعد عن بنت جبيل فعادوا سويًا ليستشهدوا سويًا”.
ويردّ بزي على أنّ استهداف العدو لعائلة داغر جاء بحجّة أنّ الشهيد عامر منتسب لحزب الله كون الحزب نعاه، بأنّ “معظم أهالي البلدة هم عاطفيًا يؤيّدون المقاومة ضدّ الاحتلال، كما معظم أهالي القرى الحدودية خصوصًا وكلّ الجنوب عمومًا. وعامر هو جزء من نسيج هذه البيئة”.
بنت جبيل وقتل الأشقاء
ما يزيد الوضع إيلاميًا في استهدافات بنت جبيل وتحديدًا استهداف آل داغر وقبلهم آل بزي في 27 كانون الأوّل 2023 أي الشقيقين علي وإبراهيم بزي وزوجة إبراهيم شروق حمّود، هو أنّ المستهدفين هم عائلتان وأشقاء.
وهنا تبرز قصة محفورة في ذاكرة أهالي بنت جبيل، هي قصة الشقيقين حسن وأحمد قاسم حميد اللذين حوصرا في بنت جبيل خلال عدوان 2006 ولم يعرف أحد أيّة أخبار عنهما، وعند إعلان الهدنة لمدة اثنتين وسبعين ساعة، خرج الجميع من هناك من دون أن يعلموا أي شيء عنهما. ولاحقًا عُرف أنّ حسن وأحمد بقيا سويًا في بنت جبيل يواجهان الاحتلال إلى أن استهدفتهما صواريخ طائرات حربية معادية في أيلول 2006.
وقتل الأشقاء والشقيقات في العدوان الحالي ليست الأكثر دموية في تاريخ المجازر الإسرائيلية، إذ أنّ مسيرة العدوان الإسرائيلي على لبنان وجنوبه حافلة بالمجازر منذ العام 1948 وحتى يومنا هذا والأمثلة على ذلك كثيرة، بدءًا بمجزرة حولا وصلحا في العام 1948 وحانين وبنت جبيل في العام 1976 والخيام وكونين وراشيا الفخار والعباسية والصرفند. واجتياح العام 1982 ومجزرة جنتا في 1983 وبعلبك وجبشيت في 1984، ومعركة والزرارية في 1985 والنبطية الفوقا في 1995 وصولًا إلى عدوان نيسان 1996 ومجزرة المنصوري وسحمر وقانا وغيرها الكثير إلى عدوان تموز 2006.
بنت جبيل مسقط رأس أوّل شهيد لبناني في فلسطين
في العام 1947 سقط أوّل شهيد لبنانيّ على أرض فلسطين، هو قاسم أبو طعّام وهو من بنت جبيل انتقل مع والديه وزوجته من بنت جبيل للعمل في حيفا كمعظم أهالي جبل عامل. وحين بدأت المعارك في فلسطين ضد العصابات الصهيونية أرسل عائلته إلى بنت جبيل ليشارك في القتال ويستشهد في في كانون الأول سنة 1947. حينها كتبت جريدة “الديار” اللبنانيّة: “ذكرنا حادث الشهيد اللبنانيّ الأوّل في فلسطين المرحوم قاسم محمّد حسين أبو طعام، من بنت جبيل، الذي اشترك مع فريق من شباب العرب بالقتال ضدّ عصابة من اليهود المسلّحين، وبعد أن أبلى بلاءً حسنًا قُتل برصاص صهيونيّ”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.