عن ازدهار الوشاية الرقمية في عصر الشعبوية


2024-10-03    |   

عن ازدهار الوشاية الرقمية في عصر الشعبوية
رسم عثمان سلمي

في وقت متأخّر من الليل، عندما كانت المدينة مُغطّاة بصمت مخملي، كانت شاشته تتوهج. حياته لم تعد موجودة الآن إلا في الضوء الأزرق الباهت المنعكس من الحاسوب. كان يرتشف من كوب قهوة مكسور، وعيناه تتلألآن جيئَةً وذهاباً، وتتصفح المنشورات، وتفحص التعليقات بدقة متمرسة لشخص كان يفعل هذا لفترة طويلة جدًا. لم تكن التسلية أو طرد الملل هدفه. كان مراده أكثر دقة. فهو يبحث عن طريدةٍ. كانت أصابعه تحوم فوق لوحة المفاتيح، ثم توقف للحظة قبل أن يكتب عبارة البحث التي يستخدمها كل ليلة. كانت عبارة بسيطة، صُمّمت لغربلة الضوضاء واستخراج أصوات المعارضة. وفي غضون ثوانٍ، امتلأت الصفحة بسيل مألوف من الوجوه والكلمات. لقد وقع أحدهم، من الذين اعتقدوا أن بحر الإنترنت الشاسع يمكن أن يحميهم من يد الدولة وزعيمها. حدق في صورة الملف الشخصي، مجرد وجه يبتسم في الشمس، فكَّرَ للحظة أنه غير مؤذيٍ. لكنه تعلم منذ فترة طويلة ألا يثق في تلك الابتسامات المشرقة. فربما تخفي أفكارًا خطيرة. هذا ما حذّرهم منه القائد: “هؤلاء المتمردون الرقميون الهامشيون، كانوا دائماً بذور الخيانة. والخيانة، حتى في الهمس، أو حتى في في مجرد تدوينة أو صورة، سرطان يجب استئصاله”. هكذا يتخيل المرء يوميات واشٍ رقمي في تونس اليوم. ربما لا تكون بمنتهى هذه الدقة، ولكنها تقرب معنى الأذية، الذي تنطوي عليه  الوشاية. فهذا السلوك مؤذٍ للضحية ومؤذٍ للواشي نفسه، ومؤذٍ للمجتمع، الذي يتعفن ويفقد الثقة التي تجمع بين أفراده، عندما تغزوه ثقافة الوشاية. 

قبل أسبوعٍ جَرت ثلاث وقائع أساسية تكشف عن تفشي هذا المرض الاجتماعي في البلاد. بعد ساعاتٍ قليلةٍ من نشر ثلاثة مواطنين صورة على حساباتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، تنتقد أو تسخر من الرئيس، بوصفه مرشحاً للرئاسة وشخصية عامّة، قامت الأجهزة الأمنية باعتقال ثلاثتهم. قيس النصيري في مدينة سبيطلة، ومهاب التومي في مدينة جربة، ومودة الجميعي في مدينة قابس. واللاّفت أن هذه الاعتقالات جرَت بشكل سريع ومتزامن، على الرغم من أنه لم تنتشر على نطاق واسع بحكم أنها منشورات في حسابات شخصية وليست منشورة على صفحات عامة ومفتوحة. مما يوحي بوجود رقابة دقيقة على منشورات الناس في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يُفسّر إما بتوسع وقوة وسائل المراقبة الرقمية، التي تستعملها أجهزة الأمن لرصد آراء ومواقف الناس، وهذا مؤشر حقيقي على سلوك الدولة طريق “الرقمنة” لكن من بوابة السيطرة وليس من باب تعميم الرفاه. أو يُفَسّر بانتشار ظاهرة الوشاية الرقمية، كنظير للوشاية في المجال العام، والتي عادت بقوة بعد إنقلاب 25 جويلية 2021، وشكّلَت أساساً لعمل أجهزة الدولة في السيطرة على المجال والسكان، وقد ظهر ذلك بوضوح في قضية التآمر، التي تقوم أسانيدها القضائية على شهادات وشاة يحملون أسماء رمزية.

ثقافة الوشاية 

الوشاية ليست ظاهرة طارئة، فقد رافقَت الوجود البشري منذ القديم في أشكال مختلفة عبر أزمةٍ مختلفةٍ وثقافاتٍ متنوعةٍ. وهي سلوك غالبًا ما يرتبط بآليات السيطرة وهواجس البقاء، وتمسّ القواعد الاجتماعية وهياكل السلطة والمفاهيم الأخلاقية التي تؤثر على سلوك الأفراد. لكن منذ ظهور الأنظمة الشمولية، خلال القرن العشرين، أصبحت الوشاية عنصرًا أساسيًا في بِنية السلطة. في هذه المجتمعات، غالبًا ما كانت الدولة تُشجّع الوشاية أو تقوم بمأسَسَتها وتنظيمها. وهو ما يحقق لها السيطرة من أعلى إلى أسفل،  تمارس الدولة أو الطبقة الحاكمة السيطرة ليس فقط من خلال القوة العلنية  ولكن من خلال الديناميكيات الاجتماعية للخوف وانعدام الثقة. لكن طبيعة الوشاية وأشكالها تطوّرا بتطور التكنولوجيا، خاصة مع ظهور المراقبة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، مما جعل هذا السلوك أكثر انتشارًا، وفي بعض الحالات أكثر مجهوليةً. كما ظهرت أشكال جديدة من الوشاية، مثل التشهير، وهو نشر معلومات خاصة عن الأفراد والتشهير العام على منصات التواصل الاجتماعي. وكثيراً ما يقوم بهذه الأفعال أفراد يشعرون بالتزام أخلاقي بفضح مرتكبي المخالفات. كما أدى الاستخدام الواسع النطاق لتقنيات المراقبة، مثل كاميرات المراقبة وتطبيقات تحليل الخوازميات، إلى تطبيع فكرة أن الجميع يُراقِبُون بعضهم البعض. ذلك أن ثقافة المراقبة تعمل على تحويل المواطنين العاديين إلى مخبرين، وغالبًا دون قصدٍ واعٍ منهم. ويمكن اعتبار الأفراد الذين يشاركون صورًا أو مقاطع فيديو للآخرين وهم بصدد القيام بأفعالٍ أو التفوه بكلامٍ، منزوع السياق، منخرطين في شكل من أشكال الوشاية الرقمية، حيث أصبحت الحدود بين الحياة الخاصة والعامة غير واضحة على نحو متزايد. 

وفي العالم الرقمي، أصبحَ من السّهل القيام بالوشاية، دون الحاجة إلى مواجهة مباشرة مع الآخرين، وأحيانًا دون تحمّل العواقب. فالواشي لم يعد شخص حقيقي، بقدر ما صارَ حساب على منصة التواصل. ذلك أن هذه المجهولية لدى الناس تحمِيه من التّبعَات الأخلاقية لسلوك الوشاية التي ترتبط بخرق العقود والعلاقات الاجتماعية، لاسيما في مجتمعنا، أين يُنظَر للواشي على أنه خائن، ويسيء استغلال ثقة المجموعة لتحقيق مكاسب شخصية أو خدمة السلطة، ما يؤدي عادةً إلى عَزلِه اجتماعياً. في كتابه “ثقافة الوشاية: كيف يتحول المواطنون إلى عيون وآذان للدولة”، يقدّم الكاتب الأمريكي، جيم ريدن، تحليلاً نقدياً للمراقبة وتآكل الخصوصية في المجتمع الحديث، دَالاً على مسارٍ من دمج آليات الوشاية القديمة مع التطور الرقمي، وكيف تتواطأ الحكومات والشركات وحتى الأفراد في خَلق بيئة من المراقبة شبه المستمرة. تدور أطروحة ريدين حول فكرة أن المواطنين العاديين يتم تحويلهم إلى مُخبرين ووُشاة من قبل الدولة، إلى حد كبير، من خلال الخوف والتلاعب والضغط المجتمعي. متعمقاً  في عواقب العيش في مجتمع تُصبح فيه الحدود بين الخصوصية والأمن والحرية غير واضحة. لكن أحد أكثر الأفكار وضوحاً وخطورةً في أطروحة الكاتب هي التحول الاجتماعي نحو ثقافة الوشاية في العالم. ويُجادل ريدين بأن هذه الممارسة يتم تطبيعها في المجتمعات الحديثة من خلال وسائل مختلفة عمودها الأساسي الفضاء الرقمي.

الشعبوية والوشاية 

في حالتنا التونسية، لا يحتاج الأمر إلى حججٍ كثيرةٍ. حيث تقوم أعداد المعتقلين في السجون بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي وحدها برهاناً على شيوع سياسات المراقبة الرقمية وثقافة الوشاية الرقمية في البلاد، والقائمة على أرضية مرسوم “مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال”، المعروف بالمرسوم 54. لم تحظر الدولة وسائل التواصل الاجتماعي بشكل صريح، ولم تتخذ التدابير الصارمة التي ربما اتخذتها الأنظمة السابقة. لكن من خلال هذا المرسوم لن تحتاج إلى إسكات الناس، فسوف يسكتون من تلقاء أنفسهم، بدفعٍ من هاجس البقاء والخوف. في المقابل ستتكفل أجهزة الرقابة والوشاة الرقميون بمن لم يلتزم بالسكوت. 

في الأنظمة الاستبدادية، تُستخدَم الوشاية كأداة لتأمين السلطة. تَستخدم النخب الحاكمة الوشاية للقضاء على التهديدات المحتملة وممارسة السيطرة الاجتماعية. وغالبًا ما يتم مأسسة الوشاية، ممّا يعني أن الدولة تُشجّع المواطنين بنشاط على مراقبة بعضهم البعض. وهذه المأسسة تعزّز الشعور بأن لا أحد في مأمن وأن الجميع يمكن أن يكونوا تحت المراقبة. ويؤدي ذلك الشك المتزايد إلى تآكل أي معارضة محتملة ويعزز سلطة النظام. وفي بعض السياقات، قد تُستخدم أيضًا كوسيلة لتحقيق الارتقاء الاجتماعي. يمكن مكافأة المواطنين الذين يبلّغون عن الآخرين من خلال الامتيازات المادية أو الفرص المهنية أو الحصول على رضا السلطة. وهي بذلك تُعتبر سلوكًا انتهازيًا يجلب للواشي مكاسب قصيرة الأجل لكنه يؤدي في النهاية إلى زعزعة استقرار الهياكل الاجتماعية. لكن في تونس اليوم، وفي ظل الشعبوية الحاكمة، لم تعد الشحنة السلبية للوشاية من الناحية الأخلاقية سلبيةً تماماً، لقد تم رفعها إلى مرتبة أعلى. وأعيدَ تسميتها بـ”الواجب الوطني”، كتعبيرٍ عن الولاء للزعيم والدولة. فأصبح فعل الإبلاغ عن شخص خدمة للوطن وتضحية ضرورية من أجل المصلحة الوطنية، ضد العملاء والخونة. لقد حَوّلَ النظام، ببراعة، الوشاية إلى عمل وطني. 

فالبراعة الحقيقية في التبليغ كأداة للسلطة لا تكمن في قدرة النظام على معاقبة الناس بل في قدرته على إجبار الناس على معاقبة أنفسهم. حيث لم يعد التبليغ مجرد آلية للسيطرة بل أصبح نسيج السلطة ذاته، منسوجاً في حياة أولئك الذين يخشونه أكثر من غيرهم ولكنهم يمارسونه كل يوم. حيث تلعب طبيعة الشعبوية الصراعية في تقسيم المجتمع بين أقلية من “الفاسدين والعملاء والخونة” وبين “شعب صالح يقوده زعيم وطني”، دوراً أساسياً في تحويل معاني الوشاية من الخيانة إلى العمل الوطني، بوصفها جزءاً من “حرب التحرير الوطنية” التي يخوضها “القائد” ومن ورائه الشعب. وضمن هذه المعادلة قد يُنظر إلى الوشاية على أنها، ليست فقط غير مشينة، بل عمل ضروري، والمتخلف عنها متخلف عن واجبٍ وطني.  

الوشاية بوصفها اضطراباً 

أما خارج هياكل السلطة، فإن الوشاية في ذات الواشي، تعبير عن إضطرابٍ أو حاجة غير مسددة. فالوشاية هي أن تضع مصير شخص آخر بين يديك. وبالتالي فهي تُحقق للواشي إحساساً وهمياً بالوجود الفاعل، وتمنحه شعورًا مؤقتًا بالتفوق أو السيطرة أو النفوذ. فلم يعد تلك الشخصية الضعيفة الجبانة، بل أصبح جزءاً في آلية السيطرة. فالوشاة بمثابة عيون وآذان الدولة، مخولين بإصدار الأحكام على أقرانهم. وفي نظام يخشى فيه الجميع أن تتم مراقبتهم، يجد المراقبون أنفسهم وهم يتمتعون بنوع جديد من السلطة، سلطةَ تولد من الصمت والظلال. ومن الناحية التحليلية النفسية يُمكن ربط هذا السلوك بمشاعر العجز أو عدم الكفاءة. ومن خلال وضع نفسه كشخص لديه قدرة على السيطرة أو أن يكون قريب من السلطة، يتغلّب الواشي مؤقتًا على شعوره بالنقص، ويشبع رغباته اللاواعية في الاعتراف والسيطرة. وبالنسبة لبعض الأشخاص تُعدّ الوشاية وسيلة للحصول على الاعتراف من السلطة. وقد يرتبط ذلك بتجارب الطفولة المبكرة، حيث تكون حاجة الطفل إلى إعتراف الوالدين هي الأهم. فيصبح الوشاية، بهذا المعنى، وسيلة لمواءمة نفسه مع أصحاب السلطة، وإشباع احتياجات عميقة الجذور للإعتراف أو التقدير أو حتى الحب. كما قد يلجأ الأفراد ذوو الميول النرجسية إلى الوشاية كوسيلة لجذب الانتباه إلى أنفسهم أو إثبات أهميتهم. وفي هذا السياق، قد يكون الفعل بمثابة وسيلة لإظهار التفوق أو جذب الانتباه من خلال مواءمة الذات مع قوى قوية، مثل السلطة أو الرئيس. حيث قد يرى الواشي نفسه “بطلاً” أو شخصًا يتمتع بمكانةٍ خاصة، مما يعزز شعوره بالعظمة. 

لكن الوشاية، ومهما كانت طبيعة جذورها النفسية أو الاجتماعية، فهي ذات تكاليف نفسية واجتماعية عاليةً على المجتمع وعلى الواشي نفسه، الذي غالباً ما يُعاني من الشعور بالذنب والتناقض بشأن أفعاله. فمن ناحية، قد يشعر أنه يتصرّف وفقًا للقانون أو لقواعد أخلاقية أعلى؛ ومن ناحية أخرى قد يشعر بالندم الشخصي العميق لخيانة الروابط الاجتماعية. فضلاً عن أنه يضع نفسه خارج المجتمع ويمزّق الروابط الأخلاقية التي تجمع المجموعة. في العديد من الثقافات، ومنها ثقافتنا العربية والإسلامية، يُعتبر الولاء للجماعة من أعلى القيم الأخلاقية، ولذلك يُنظر إلى الوشاية على أنها انتهاك للأخلاق الجماعية، وتؤدي إلى تعطيل الروابط الاجتماعية التي تربط الأفراد من خلال قيمة الثقة في العلاقات، بخاصة في المجموعات المتماسكة، فعندما يقوم شخص ما بالإبلاغ عن الآخرين فإنه يقوض تلك الثقة، مما يخلق بيئة من الشك.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الوصول إلى المعلومات ، مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني