2022 عام “المجتمع المدني” في مصر: عن أيّ مجتمع مدني نتحدّث؟


2022-01-22    |   

2022 عام “المجتمع المدني” في مصر: عن أيّ مجتمع مدني نتحدّث؟

أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي أنّ عام 2022 هو عام المجتمع المدني في ظلّ إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التي أكّدت على أهمية شراكة الدولة مع المجتمع المدني في أكثر من موضع. يصطدم هذا الخطاب مع واقع يتزايد فيه التضييق على المنظمات الحقوقية من خلال قانون تنظيم عمل المؤسسات الأهلية والمجتمع المدني لعام 2019، واستمرار ملاحقة العاملين في مجال حقوق الإنسان، كما تفصّل تقارير عدة.

يحتل موضوع المجتمع المدني في مصر مكاناً محورياً في التحليلات السياسية والأكاديمية. فقبل ثورة 25 يناير 2011، كان السؤال الأساسي يُطرَح حول علاقة المجتمع المدني بالديمقراطية وما إذا كان دعم منظمات المجتمع المدني التنموية وتحديداً الحقوقية سيكون قاطرة التحوّل الديموقراطي في مصر. أما منذ 2013، فتُركِّز معظم تحليلات المجتمع المدني في مصر على زاوية تقييد الحق في التنظيم والتمويل. تهدف هذه المقالة إلى التفكير في المجتمع المدني في مصر اليوم من زاوية جديدة وتتساءل: في ظل التضييق الشديد على المنظمات الحقوقية؛ مَن/ما هو المجتمع المدني الذي يتحدث عنه الرئيس وتذكره الاستراتيجية؟ أيّ مجتمع مدني تتصوره الدولة في مصر اليوم؟

إنّ مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم المختلَف عليها في أدبيات العلوم السياسية، بخاصّة في ما يتعلق بفاعليه ووظائفه. وإذا كانت أقدم التعريفات الكلاسيكية للمفهوم تتحدث عن المجتمع المدني والسياسة كشيء مُوَحَّد (أرسطو) فإنّ التعريفات الحديثة تتناول المجتمع المدني كهذه المساحة المتمايزة عن الدولة. ما بين Alexis de Tocqueville الذي عرَّف المجتمع المدني بمجموعة المنظمات الأهلية أو الجمعيات التي يكوّنها المواطنون، وهيغل الذي اقترح تقسيماً ثلاثياً يميز بين الدولة والمجتمع والسوق. وعلى كل، يتضمن مفهوم المجتمع المدني في إطار ديموقراطي ثلاثة مستويات أولها “التنظيم الأهلي أو الجمعيات” وثانيها “الحركة الجمعية المدنية” أي الفعل المدني الذي ينتج عن شبكات المجتمع الرسمية وغير الرسمية: قد يكون الفعل هو الاحتجاج – أو التنظيم أو حتى التجمع لأداء فعل جمعي ترفيهي. وأخيرًا يشمل المجتمع المدني ما يُعرَف بالـ “مجال العام” أو الشأن العام، أي مساحة النقاش والجدل بين المواطنين.

وبالعودة إلى السياق المصري، يفرّق الباحثون بين مختلِف منظمات المجتمع المدني، التنموية والحقوقية والخيرية، مؤكدين أنّ المنظمات الحقوقية هي الأكثر عرضة للتضييق، وإن اختلفت حدته وأدواته من فترة لأخرى.

مع الإبقاء على هذه التفرقة المبدئية، وبدون تكرار ما تمّ توثيقه حول التضييق على العمل الحقوقي، تقدّم مقالتنا ثلاثة مقترحات عن الدولة والمجتمع المدني في مصر اليوم. أولاً: نلاحظ ظاهرة جديدة قوامها أنّ الدولة تميل أحياناً إلى التصرف كأنّها مجتمع مدني: أي أنّها تستخدم أدوات وخطابات ومفاهيم خاصة بالمجتمع المدني (مزيج من التنموي والخيري) في تنفيذ رؤيتها؛ ثانياً: تعتبر الدولة القطاع الخاص فاعلاً أساسياً في المجتمع المدني، سواء من خلال مفهوم المسؤولية المجتمعية للشركات أو من خلال ريادة الأعمال المجتمعية، وبالتالي يُعتبَر القطاع الخاص شريكاً أساسياً في التنمية. ثالثاً: أنّ مع استمرار التضييق على المؤسسات الحقوقية ومأسسة العمل التنموي، يظلّ المجتمع المدني محصوراً في مفهوم العمل الأهلي، بشراكة الدولة وتحت رقابتها ورعايتها، من دون إتاحة فرصة لنمو عضوي لأشكال مختلفة من الفعل الجمعي تكون قادرة على تحقيق مواطَنة فعالة وخلق مؤسسات سياسية تعبّر عن مكامن الاختلاف والصراع في المجال العام.

سياسات أم مبادرات: لماذا تتبنى الدولة لغة المجتمع المدني؟

لا شك، شهدت الأعوام الماضية برامج سياسات شاملة وموسَّعة، أثّرت بشكل مباشر في الحياة اليومية؛ منها برامج الإصلاح الاقتصادي والتخطيط العمراني والبنية التحتية، وبرامج إصلاح التعليم، وبرامج الحماية الاجتماعية وتنمية الأسرة، وغيرها. لكن يُلاحَظ توجُّهٌ لتأطير حركة الدولة وبرامجها باستخدام لغة المجتمع المدني، سواء التنموي أو الخيري. أبرز مثال على ذلك، تقديم بعض السياسات في إطار “مبادرات”، رئاسية أو وزارية. ليست الإشكالية هنا مجرد إشكالية مسمّيات، بقدر ما هي محاولة لفهم هذه الآلية الجديدة وتفكيكها واستيعاب دورها السياسي والتنفيذي.

بالإضافة إلى ربط الكثير من المبادرات بشخص الرئيس، وتصويرها على أنها استجابة لمطالب مجتمعية أو لفكرة شبابية، تتميز المبادرات بخصائص مثل الاعتماد على فكرة التطوع، وطلب التبرعات من المواطنين، والتركيز على الدور المجتمعي، والتأثير الفردي؛ بعكس برامج السياسات، التي تتضمن بشكل أساسي المؤسسات والهيئات الحكومية. تتبلور هذه الخصائص في إحدى أكبر المبادرات وهي مبادرة “حياة كريمة”. على العكس من برامج الحماية الاجتماعية الأخرى التي تقدمها الدولة (مثل برنامج “تكافل وكرامة”، برنامج “فرصة”، وبرنامج “مستورة”) والتي تتبنى لغة المؤسسات الدولية والسياسات الاقتصادية النيوليبرالية، تركّز مبادرة حياة كريمة على الفقر بصفته مشكلة إنسانية وليس مجرد مشكلة اقتصادية اجتماعية.

يظهر تعريف المبادرة على موقعها الرسمي “إنها تلك المبادرة الوطنية التي أطلقها السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس جمهورية مصر العربية، 2 يناير من العام الميلادي وهي مبادرة متعددة في أركانِها ومتكاملة في ملامِحِها. تنبع هذه المبادرة من مسؤولية حضارية وبُعد إنساني قبل أي شيء آخر، فهي أبعدُ من كونها مبادرة تهدفُ إلى تحسين ظروف المعيشة والحياة اليومية للمواطن المصري، لأنها تهدف أيضا إلى التدخل الآني والعاجل لتكريم الإنسان المصري وحفظ كرامته وحقه في العيش الكريم”.

يتداخل الخطاب التنموي والخيري في “حياة كريمة”. فمن ناحية، يُشار إلى المبادرة كأنّها “مؤسسة حياة كريمة”، مع التركيز على الفعل التطوعي. يظهر مفهوم التطوع، أيضاً، في تعريف المبادرة على موقعها الرسمي “تم انشاء مؤسسة حياة كريمة بتاريخ 22 اكتوبر 2019 من شباب متطوع يقدم نموذجا فريدا يُحتذى به في العمل التطوعي (….) وتهدف المؤسسة إلى التدخل الإنساني لتنمية وتكريم الإنسان المصري وحفظ كرامته وحقه في العيش الكريم لإحداث تغيير ملموس لتكريس كافة مجهودات العمل الخيري والتنموي”.

من ناحية أخرى، يُستخدَم خطاب التبرع بطريقة تشبه كثيراً العمل الخيري. فالموقع يحتوي على رابط “تبرّع الآن” ومعه “كل جنيه هيفرق في حياة 58 مليون مواطن تقدر وأنت في مكانك تساهم في تغيير حياة أكثر من نصف سكان مصر علشان نوفر لهم حياة كريمة”. كما تُستخدَم لغة وأدوات ترتبط تاريخياً بالعمل الخيري، مثل القوافل الطبية والمعونات المباشِرة. ويُركَّز على التدخل المباشر ذي النتائج “الحقيقية” والملموسة على مستوى الـ “رزق” اليومي. فيظهر الفقر، على الأقل على المستوى الخطابي في تغطية فعاليات المبادرة، في قصص “كفاح”، أو لنقل معاناة فردية، يتدخل فيها متطوعو “حياة كريمة” لتحقيق “أحلام” هؤلاء الأفراد من خلال: بناء منزل، أو توفير فرصة عمل، أو اكتشاف موهبة.

إنّما تتداخل هذه اللغة مع لغة السياسات. فـ “حياة كريمة” ليست مجرد مبادرة رئاسية لمكافحة الفقر، بل هي، أيضاً، “مشروع قومي لتطوير قرى الريف”، تُقدَّم فيه مستويات فعل أكثر توسُّعاً، مع استخدام مصطلحات مثل “تطوير” و”تنمية”.

ونلاحظ أنّ هذا التداخل الخطابي في مستويات وآليات الفعل ينعكس لدى فاعلين آخرين مثل الأحزاب. فحزب “مستقبل وطن”، على سبيل المثال، وهو حزب الأغلبية الحالي في البرلمان، اعتمد بقدر كبير على هذا النوع من المبادرات لبناء تواجده في الشارع. فنجد مبادرات تدخُّل مباشر لحلّ أزمة أو تقديم معونات. كما تتداخل مستويات الفعل الحزبي مع المبادرات الرئاسية مع تصريح قيادات الحزب بالعمل “تحت مظلة” حياة كريمة. 

قد تكون المبادرات آلية لتحقيق الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني والفاعلين السياسيين. فتداخُل الخطابات قد يعكس تعدد الفاعلين، إذ إنّ الشراكة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني عنصر أساسي ومحوري في برنامج مثل “حياة كريمة”. ويؤكد التعريف أنّ ثمّة “إطارا من التكامل وتوحيد الجهود بين مؤسسات الدولة الوطنية ومؤسسات القطاع الخاص والمجتمع المدني وشركاء التنمية في مصر”. كما أنّ “المبادرة تجمع أكثر من 20 وزارة وهيئة و23 منظمة مجتمع مدني”. لكن، من غير الواضح ماهية المساحة المتروكة لهذه المنظمات وحدود دورها. فتشير بعض الدراسات إلى أنّ دَوْر مؤسسات المجتمع المدني ينحصر في التنفيذ وليس التخطيط وتحديد الأولويات.

كما يشوب آلية المبادرات قدر كبير من الغموض بخصوص ماهيتها، وخاصة  وضعها القانوني والسياسي. فلا هي تخضع لقدر من الرقابة، مثل السياسات أو البرامج التي تتم بالشراكة مع المؤسسات الدولية والهيئات الحكومية، ولا هي تخضع لروابط العمل الأهلي. كما أنّ ثمّة إبهاماً شديداً في مصادر التمويل: فهي ليست بنوداً تُدرَج في الموازنة العام، ولا تمولها قروض دولية. كما من غير الواضح ما هو الوضع القانوني والمالي للتبرعات التي يقدمها المواطنون.

وهكذا، فإنّ دعوة الدولة إلى الشراكة مع المجتمع المدني لا يجب أن تَغفَل وجود قدر كبير من الاستقطاب (Co-optation)، ليس فقط للإمكانيات والمعلومات ومساحة عمل المجتمع المدني، بل، أيضاً، لأدواته وخطاباته. لكن، قبل مناقشة نتائج هذا الاستقطاب على مصير المجتمع المدني، ننتقل إلى استعراض دور القطاع الخاص في العمل التنموي والخيري، وكيف تعتبره الدولة جزءاً أساسياً من المجتمع المدني، من خلال تطور مفهومَيْ المسؤولية المجتمعية للشركات وريادة الأعمال المجتمعية.

القطاع الخاص: الشريك الأساسي للدولة 

تشير إحدى دراسات “الجامعة الأمريكية بالقاهرة”، صادرة في 2014، إلى ظهور مفهوم المسؤولية المجتمعية للشركات في مصر، في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية، مع زيادة حضور الشركات متعددة الجنسيات في مصر. إنّ للمسؤولية المجتمعية للشركات أبعاد عدة. لكن، ما يهمّنا هنا هو فكرة أنّ القطاع الخاص يؤدي دوراً تجاه المجتمع، أي لا بد أن تساهم الشركات في تنمية المجتمع وحلّ المشكلات العامة بطرق مختلفة. وفقاً لهذه الدراسة، ظل مفهوم المسؤولية المجتمعية للشركات لوقت طويل محصوراً في التفسير الخيري على أساس ديني، مع التركيز على العائد على صورة الشركة وعلامتها التجارية وبدون تنسيق بين الشركات، ولا رؤية واضحة، ولا شراكة مع المنظمات الأهلية والتنموية.

إلا أنّ وضع المسؤولية المجتمعية للشركات قد تغيّر كثيراً مع بداية برامج الإصلاح الاقتصادي وتأسيس صندوق “تحيا مصر”، ومع تجدد الشراكات مع المنظمات الاقتصادية الدولية، واتّباع سياسات الحكومة الجديدة. نقترح أنّ هناك توجُّهاً، على الأقل على المستوى الخطابي، لترجمة المسؤولية المجتمعية للشركات بأنّها مشاركة في خطة الدولة للتنمية تحت شعار التنمية المستدامة، كما جاء في رؤية مصر 2030.

في 2015، أُطلِق المنتدى الأول للمسؤولية المجتمعية للشركات، الذي يُعقَد سنوياً منذ هذا التاريخ. كما أُنشئ المنتدى السنوي وتمأسس، من خلال موقع إلكتروني يهدف إلى التوعية بالمسؤولية المجتمعية للشركات والتنسيق ومشاركة المعلومات. يُعرِّف الموقع المنتدى بـ “أول بوابة متكاملة للمسؤولية المجتمعية والتنمية المستدامة في مصر، الشرق الأوسط وأفريقيا، نعمل على توطين أهداف التنمية المستدامة في مجتمعنا لتحسين جودة الحياة”.

بالنظر إلى موقع هذا الملتقى السنوي، نجد، من ناحية، تبنّياً واضح لخطاب التنمية المستدامة، ومن ناحية أخرى، اهتمام بإبراز التوازي والتكامل بين الشركات والسياسات الحكومية. فيحتوي الجزء الإخباري للموقع على أخبار وزارة التعاون الدولي ووزارة التخطيط ومشروعات الدولة للتنمية واتفاقيات التعاون الدولي، كما يُعاد إنتاج المصطلحات الأساسية التي تتبنّاها الوزارات، مثل مفهوم “الاقتصاد الأخضر” ومفهوم “التنمية المستدامة”. ويحتوي الموقع، أيضاً، على منصة لتسجيل النشاط الخيري أو التنموي، سواء للشركات أو منظمات المجتمع المدني، بهدف تكوين خريطة تنموية توضح النشاط الأهلي والتنموي بحسب الموقع الجغرافي.

لكن، يبدو أنّ التغيير في مقاربة المسؤولية المجتمعية للشركات لا يزال يقتصر على المجال الخطابي، إذ يوضح تقرير لموقع مصر360 أنّ التركيز حتى الآن هو على الجانب الخيري من المسؤولية المجتمعية، وأنّ على الرغم من إضافة أهداف جديدة لا يُسلَّط ضوء كافٍ على الخطوات الفعلية المتَّخذة، إن وُجدت.

من ناحية أخرى، نجد مفهوماً جديداً يربط بين القطاع الخاص والفعل المدني، ويتبنى المقاربة التنموية بشكل أوضح، وهو مفهوم الـ social entrepreneurship، أو الشركات ذات الأثر الاجتماعي. دراسات وتحليلات عديدة تناولت الموضوع، خصوصاً أنّه حظي باهتمام كبير بعد ثورة يناير2011. يُقصَد بالمفهوم، ببساطة، امتزاج الأهداف المجتمعية والأهداف الربحية أو تطبيق طرق إدارة الشركات، تحديداً الصغيرة والجديدة، منها في العمل المجتمعي. فمصطلح الشركات ذات الأثر المجتمعي قد ينطبق مثلاً على شركة تهدف إلى حل مشكلة مجتمعية وتُنتِج أرباحاً من هذا الحل، أو على منظمة غير ربحية تُدار كأنّها شركة. في ظل اهتمام الدولة بريادة الأعمال بين الشباب وانتشار مفهوم “حاضنات الشركات الصغيرة” (startup incubator)، تحظى الشركات ذات الأثر الاجتماعي باهتمام وتشجيع، بخاصة من المجتمع الدولي، مع محاولات لبناء جسور بينها وبين الشركات الكبرى. فنجد، مثلاً، مبادرة startEgypt للتنسيق بين الشركات ذات الأثر الاجتماعي، وتوفير الدعم، وعقد منتديات ومسابقات مدعومة من البنك الدولي والسفارة البريطانية، وشركةflat6labs للاستثمار.

والحقيقة أنّ الدولة لا تتبنى فكرة الأثر الاجتماعي لريادة الأعمال بشكل واضح، بقدر ما تركّز على الأثر الاقتصادي، وإن قُدِّمت، أحياناً، نماذج “ناجحة” لشباب كوّنوا شركات أو مبادرات ذات أثر اجتماعي في مؤتمرات الشباب كمثال للطرق الإيجابية لخدمة الوطن.

وهكذا يبدو أنّ الدولة ترى القطاع الخاص فاعلاً أساسياً في المجتمع المدني، سواء تبنى خطاباً تنموياً أو خيرياً أو متعلقاً بريادة الأعمال. ويبقى السؤال إذاً، كيف ترى الدولة هذا المجتمع المدني وما هي أسس علاقة الدولة بالمجتمع المدني؟

مجتمع أهلي أم مجتمع مدني؟

تُظهِر إحدى المقالات الصادرة عن دورية مجلس المعلومات ودعم اتخاذ القرار، في موضوع قضايا المجتمع المدني في مصر اليوم، بعض إشكاليات العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني. يشير كاتب هذه المقالة إلى زيادة عدد الجمعيات التنموية والأهلية، لكنّه يعيب سيطرة العمل الأهلي على المجتمع المدني واختزاله في هذا المفهوم “دون أن يمتدّ المقصود لباقي مكونات المجتمع المدني مثل التعاونيات والنقابات المهنية والعمالية وغيرها من المنظمات والمؤسسات غير الحكومية والتي لا تهدف إلى الربح”. يُرجع الكاتب ذلك إلى “غياب التخطيط الاستراتيجي”، و”غياب قاعدة بيانات تحدد الإسهامات” و”عشوائية دور المجتمع المدني في مصر وعدم اكتمال بنائه وترسخه”. تحمل هذه المقالة صدى خطاب تتبناه الدولة المصرية يقول بضعف المجتمع وعجزه عن التنظيم. فالاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان تكرر عبارات مثل “ضعف ثقافة حقوق الإنسان” أو “ضعف ثقافة العمل التطوعي والمشاركة المجتمعية”.

هنا نلمح مكمن المشكلة في فَهْم المجتمع المدني في مصر اليوم، وقوامها أنّ الدولة ومثقفيها وداعميها يؤمنون بضعف المجتمع وعدم قدرته على التنظيم، وابتعاد المنظمات عن الاحتياجات الحقيقية للمواطنين. 

لكنّ الواقع يثبت العكس. فإنّ حصر المجتمع المدني في العمل الأهلي يرجع إلى التضييق على المجتمع والرقابة المستمرة عليه، واستمرارية المقاربة الأمنية في التعامل مع المنظمات الحقوقية والتنموية. 

كما إنّ المجتمع المدني التنموي، وخصوصاً الأهلي، في مصر أدى خلال العقود الماضية الدور الأساس في الحماية الاجتماعية والقيام بالمسؤوليات التي تخلت عنها الدولة تدريجياً. وتشير إحدى الدراسات الأنثروبولوجية الأساسية حول الدولة والمجتمع في مصر إلى ما يُعرَف بـ “خصخصة الحماية الاجتماعية”، أي انتقال المسؤولية من الدولة إلى الأفراد والمجموعات الأهلية. فالمنظمات الأهلية والتنموية استطاعت، على الرغم من كل العقبات، أن تحضر على الأرض وتكوّن شبكات حماية وتجمع بيانات، ما سمح لها بالانتشار وتكوين خبرة في الفعل الجمعي، حتى لو لم يكن بالتنظيم والتنسيق الكافيين.  

الخلاصة، إن كانت إمكانية الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني مفيدة لكلَيْهما، فإنّ استمرار الرؤية الأمنية إلى المنظمات الحقوقية والتنموية، وسيادة المنطق الاستقطابي الذي بمقتضاه تتحكم الدولة في المساحات المجتمعية بكافة أنواعها لن يسمح للمجتمع المدني بأن ينمو عضوياً ويشكّل الحركة الجمعية المدنية التي تحوّله من مجتمع أهلي إلى مجتمع مدني، هذا إن استمر العمل الأهلي.

1 Camau, Michel. “Sociétés civiles “réelles” et téléologie de la démocratisation.” Revue internationale de politique comparée 9, no. 2 (2002): 213-232.
2 Pirotte G., La notion de société civile, Paris, La Découverte, 2007.
3 Herrold, Catherine E. “NGO policy in pre-and post-Mubarak Egypt: Effects on NGOs’ roles in democracy promotion.” In Nonprofit Policy Forum, vol. 7, no. 2, pp. 189-212. De Gruyter, 2016. 
4 راجع الميديا المتوفرة على صفحة برنامج “حياة كريمة” على موقع فيسبوك.
 5 أيمن السيد عبد الوهاب، “نحو مجتمع مدني جديد“، آفاق استراتيجية، يونيو 2021.
6 Sara Refaat, Corporate Social Responsibility in Egypt: A study on the current practices, challenges and potentials, Master’s thesis, AUC, 2014.
7 Elsayed, Yomna. “At the intersection of social entrepreneurship and social movements: The case of Egypt and the Arab spring.” VOLUNTAS: International Journal of Voluntary and Nonprofit Organizations 29, no. 4 (2018): 819-831.
8 Ismail, Salwa. Political life in Cairo’s new quarters: Encountering the everyday state. U of Minnesota Press, 2006.
انشر المقال

متوفر من خلال:

مصر ، البرلمان ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مؤسسات عامة ، مؤسسات إعلامية ، أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، تشريعات وقوانين ، حرية التعبير ، حرية التجمّع والتنظيم ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني