صورة للمزارع أبو علي مع حفيدته صوفيا وقد صارت الآن صبية
غمرت السعادة نفس أبي عندما علم أن بعض أهالي القرية أطلقوا عليه لقبًا جديدًا: “أبو علي النهر”.
في قريتنا، “جرجوع”، لم يكن من المعتاد أن يفرح أحد بلقبٍ يُطلق عليه من غير علمه، حيث يصبح اللقب كالقَدَرِ المحتوم، يُلاحق صاحبه إلى آخر لحظةٍ في حياته، بل وربّما إلى ما بعد الممات، حتى لو كُتِب اسمه الحقيقي على ناصية قبره “بحبرٍ من ذهب”. وعادةً ما تُثير الألقاب استياء أصحابها، لأنها غالبًا ما تنبع من صفةٍ سيئة، أو عيبٍ خَلْقي، أو خطأٍ ارتكبه حاملها في الماضي. لكن أبي كان استثناءً نادرًا؛ فقد بدا فخورًا بلقبه الجديد، وكأن الاسم حمل معه معنى أعمق يلامس روحه.
علاقة أبي، أبو علي محمود، بالنهر، قصةٌ يعرفها كلّ من عرفه. روى لي يومًا كيف كان والده، أي جدّي يوسف، يجرّه إلى هناك خلال بداية طفولته بهدف تدريبه على أداء المهامّ الأساسية لكلّ من يملك هناك قطعة أرض، مثل ريّ أثلام نبات اللوبياء وتنظيفها من الأعشاب الطفيليّة، وتعلّم عملية نسمّيها “الشَّكوَلة”، وهي غرس قطعٍ من القصب الجاف أو الأغصان اليابسة، بطول مترين تقريبًا، قرب جذوع اللوبياء كي تتسلّق عليها بعد نموّها، بالإضافة إلى تعلّم كيفية العناية بالأشجار المثمرة، وكلّ ما يتعلّق بالمهارات الزراعية التقليدية التي ينبغي أن يُتقنها.
وهكذا، ترك الطفل محمود، أبي، المدرسة بعد إنهائه الصف الثاني الابتدائي، ليصبح تلميذًا نابغًا في مدرسة والده بجوار النهر، حيث أنّه ولسبعين عاماً هناك، أظهر إبداعًا لافتًا في إتقان تفاصيل العمل الزراعي، مما دفع صديق عائلتنا الدكتور محمد علي مقلد إلى وصفه في كلمة رثائه بـ”طبيب الشجرة الجرّاح”.
والدي، طبيب الشجرة الجرّاح، ورث عن جدي ستة حقول صغيرة في جوار النهر. هنا أقصد نهر الزهراني، الذي تبدأ رحلته باتجاه الغرب من نبع يقع في خراج قريتنا ويُسمّى “نبع الطاسة”. ورغم أن المساحة الإجمالية لهذه القطع الصغيرة الستّ لا تتجاوز الأربعة آلاف متر مربع، فقد حوّلها إلى جنة من ينابيع غزيرة، لا مثيل لصفائها في التفاح والإجاص والرمّان والخوخ واللوبياء والجوز. جعل منها لوحات فنية مرتّبة، يكسوها اللون الأخضر الذي لا تكسره إلا ألوان الثمار الخلابة، مع روائحها التي لا يُعرف مثيل لها في أي مكان في العالم، سوى بيننا أو حيثما اقترب أحدنا منها يومًا.
في سن الخامسة والثلاثين تقريباً، كان قد نال تلك الشهادة في ذلك النوع من الطّب، عندما أصبح لا يحتاج إلى الكثير من الوقت أو الجهد ليفهم ما وراء كل شجرة أو نبتة. فبنظرةٍ واحدة، كان يكشف عن حالتها وأوضاعها واحتياجاتها، بل ويعرف مدى قدرتها على الاستمرار أو اقترابها من اليباس. لم تعد طرق العلاج أو الوقاية شغلًا شاغلًا له، إذ كانت يداه قد امتلأتا بالحكمة والحدس، فيدرك ما تحتاجه كل شجرة، بل وما يخبّئه لها الزمن. وبشكلٍ دائم كان يختبئ في جيبه مقصّ التشذيب، وسكين كانت تُعرَف بـ”ست تكات”، بينما كان منجله الفولاذي الصغير، الذي ندعوه “زوبرة”، يتدلى من حزامه الخلفي، وكأن تلك الأدوات كانت جزءًا من ذاته، تلازمه في مهمته الخاصة التي يتقنها بكل دقة وفهم.
أصبحت السكينة ومقصّ التشذيب والزوبرة جزءًا لا يتجزأ من شخصيته، يرافقونه صيفًا وشتاءً، إلى جانب جزمة بلاستيكية سوداء وعلبة معدنيّة صغيرة، يخبئ فيها “دخانه العربي” وولاعة “رونسون” عتيقة. عندما تجتمع هذه الأدوات حوله، كان يشعر وكأنّه قادر على إتمام أي مهمة مهما كانت. أما جسده القصير والنحيل، فقد كان يبدو وكأنّه لا يتناسب مع قدراته العميقة، لكنه كان يحمل في طياته القوة والقدرة على التفاعل مع الحقول وترويضها كما يريد.
كان أبي يقضي أيامه بين حقوله الصغيرة، متابعًا حال الأشجار بعين خبيرة وقلب محب، فلا يكتفي بمراقبة أرضه فحسب، بل يشمل اهتمامه كل الحقول التي يمر بجانبها. هذه العادة اليومية جعلته على دراية دقيقة بأحوال الأشجار في منطقة النهر، حتى بات يعتبر نفسه مسؤولًا عن أشجار ليست ملكًا له، خصوصًا تلك التي تعود لأصحاب يسكنون العاصمة وضواحيها، ولا يزورون القرية إلا في فصل الصيف. هو لم يكن يحتمل رؤية شجرة برّية غير منتجة. كانت هذه الأشجار تستفزّه، فيدخل إلى الحقول، يشذّب الأشجار البرّية العاقر، يزيل أغصانها الشاذة واليابسة، ثم يطعّمها بحرص، وكأنه يعيد خلقها من جديد، محوّلًا إياها إلى كائن حيّ منتج، وكأنها جزء من أرضه، أو قطعة من روحه.
يبعد النهر عن وسط جرجوع، حيث منزلنا، حوالي ألف وخمسمائة متر. ومع ذلك، لم تكن هذه المسافة تشكل عائقاً له يوماً في النزول إلى الوادي والصعود منه، مرّة واحدة على الأقل يومياً. قوامه النحيف وقصر قامته كانا يساعدانه على اجتياز هذه المسافة بسرعة، في غضون دقائق معدودة. خفة جسده أيضاً جعلته مميزاً في موسم “فرط الجوز”، إذ كان يتسلق الأغصان العالية بسهولة، دون خوف من انكسارها أو سقوطه. لذلك، كان من النادر أن يترك شيئاً لـ”المُبعورين”.
و”المُبعورون”، لمن لا يعرفهم، هم أولئك الذين يجوبون بساتين الزيتون وأماكن أشجار الجوز، باحثين عن الثمار التي قد يكون أصحاب الأشجار قد غفلوا عنها أو تركوها على الشجر أو الأرض بعد الحصاد. وعلى الرغم من أن هذه العملية قد تبدو للبعض أقرب إلى السرقة، إلا أنها لم تُعتبر كذلك في قريتنا. بل تحوّلت مع مرور الزمن إلى تقليد اجتماعي متعارف عليه، يمارسه البعض من دون أيّ إحراج. إذ تُعدّ الثمار المتبقية بعد الحصاد، وفقاً للأعراف، ملكاً لأي شخص أو عابر سبيل أو صياد. ولا يُعتبر لصاحب الحقل الحق في الاعتراض على “المُبعوِر” أو طرده، ما دام هذا الأخير يلتزم بحدود هذا العرف المتوارث.
رشاقة أبي أثناء العمل في الحقول كانت تجعل من يراقبه يظن أنه يقوم بمهامّ عدّة في وقت واحد. وعندما يدخل بين أثلام اللوبياء، كان يبدو وكأنه يختفي تماماً، بسبب قصر قامته اللافت. هذا القصر، الذي كان مصدر دعابة بين زملائه، حتى أثناء حفر القبور في جبانة القرية. فكانوا، بروح فكاهية، يدعونه إلى النزول داخل الحفرة لتقدير عمقها، وعندما يصبح رأسه في مستوى أرض المقبرة، يعلنون أن الحفرة أصبحت عميقة بما يكفي.
أما عشقه لحقوله الستة، فقد جعله يتعامل معها وكأنها كائنات حية، يُطلق عليها أسماء ويذكرها وكأنها أفراد من عائلته: جلّ اللقطين، جلّ مطحنة التنور، جلّ البعلي، جلالي النهر، جلّ إبراهيم، وشيّات شلون.
خمسةٌ من هذه الحقول كانت تعتمد على الريّ عبر قنوات إسمنتية تنقل المياه بالجاذبية من نبع الطاسة إلى الحقول، وفق نظام متّفق عليه بين المزارعين لتوزيع المياه. وكان احترام أوقات الريّ والالتزام بالدور المتفق عليه شرطاً أساسياً لا يجوز لأيّ مزارع الإخلال به.
أما “جلّ البعلي”، فقد كان استثناءً بين حقول نبع الطاسة، إذ جرت المياه بالقرب من قعر جداره السفلي، مما جعل من المستحيل أن تصل إليها مياه الريّ. ولذلك، أُطلق عليه هذا الاسم، لأنّه كان يعتمد في ريّه على مياه الأمطار التي تتساقط عليه في فصل الشتاء، ليظلّ معتمداً بالكامل على إله المطر الفينيقي “بعل”. ولهذا السبب، قرر جدي يوسف أن يزرع فيه أشجار الزيتون، بينما كانت الحقول الأخرى مليئة بالأشجار المثمرة التي لا تستطيع الاعتماد على “بعل”، مثل التفاح والإجاص والرمان والخوخ والجوز.
لا أذكر يوماً مرّ من دون أن يزور أبي حقول النهر. حتى في أيام الشتاء القاسية، عندما لا يكون هناك مجالٌ للعمل في الخارج، كان يقفز من مكانه على “الطرّاحة” قرب الصوبيا، ليرتدي بنطاله ويشدّ جزمته البلاستيكية السوداء، ثم يخبّئ في جيبه مقصّ التشذيب وسكينه المألوفة قبل أن يضع “الزوبرة” تحت حزامه. وعندما نسأله: “لوين رايح بهالطقس؟” كان يجيب ببساطة: “رايح صوب النهر، طلّ طلّة.”
تمكّن ” أبو علي النهر” من تحويل تلك الحقول الصغيرة إلى مصدر أساسي لمؤونتنا، ليُشكّل، إلى جانب بقرة كانت تسكن الغرفة المجاورة، مورداً يعيننا على عدم السقوط في الحاجة والعوز. كان هذا يشمل مؤونة اللوبياء بكل ألوانها وأنواعها، وحبوب التفاح التي كنا نفرشها على أرض الغرفة تحت السرير، لتظل طازجة ونضرة حتى نهاية فصل الشتاء. أما الرمان فكان يُخزّن في برميل معدني كبير، يُقفل بإحكام لمنع دخول الهواء واحتكاكه بالثمار، مما يحفظ جودتها وكأنها في أكمل حال. أذكر كيف كنا نطلق على الجلسات الشتوية لتناول تلك الفاكهة “حفلات الرمان”، حيث يُحضَر لنا العديد من “الأكواز” من البرميل وتوضع على أوراق الجرائد المفرشة على أرض الغرفة، لنجلس بشكلٍ دائري حولها ونبدأ بإلتهام حباتها.
عندما كان أبي في العاشرة من عمره، اضطر جدي يوسف إلى ترك أولاده في القرية والهجرة إلى أسواق بيروت للعمل في مهنة العتالة بسبب ضيق الحال. وكان أبي هو الأكبر بين إخوته، فكان عليه تحمّل مسؤولية رعاية أختين أصغر منه سناً، هما نورا وفاطمة. ذلك لأن جدتي خديجة توفيت إثر حادث تعرضت له أثناء جمعها أغصان الزعتر في أحد الحقول الوعرة المسماة “عريض المطحنة”، حيث زلقت من فوق صخرة كبيرة. ولإبعاد شبح الجوع عن أولاده، اشترى جدي لهم رأسين من الماعز وصار يرسل لهم من بيروت ما ينتجه من عمله الجديد والذي لم يتركه إلا حين بلوغه سنّ الثمانين.
عندما قرر جدي الهجرة إلى بيروت، عهد إلى أبي، ابنه البكر، بمسؤولية العناية بالحقول ورعاية أخواته، بالإضافة إلى رأسي الماعز. ولكي يشعره بأنه بات أهلاً لهذه المسؤوليات، أخبره بأنه أصبح “رَجُل البيت”. ولمزيد من التأكيد على ثقته به، علّمه كيفيّة لف السجائر، وسمح له بالتدخين علناً أمام الناس. قال أبي يوماً إن فرحته بثقة والده به، وتجسيدها في دعوته للتدخين، كانت أعظم من سروره بلقب “رَجُل البيت”، الذي يعني أن “كلماته ستصبح أوامر”.
هكذا بدأت رحلة أبي مع النهر وحقوله وأشجاره. في القرية، ما زال كبار السن يتحدثون عنه بوصفه “أرتب وأشطَر مزارع” عرفته البلدة. كانت حقوله مثالاً يُحتذى به في الترتيب والنظافة، فقد أعلن حرباً لا هوادة فيها على الأعشاب الضارة، مقابل عشقه لكل ما هو نافع من مزروعات وأشجار. أصبح رمزاً للنهر، أشبه بإله يهب الأرض خصوبتها والحقول حياتها.
لم يقرأ الفلسفة، ولم ينشغل بالسياسة. كان سلاحه الوحيد في مواجهة الفقر هو ذلك المقصّ والسكين والمنجل الصغير. جسّد، كمزارعين كثر في الجنوب، إنسانية نادرة، بسيطة في ظاهرها، لكنها عميقة في تأثيرها، لا يدرك حقيقتها إلا قليلون.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.